موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٢٨ يونيو / حزيران ٢٠٢٢

الأب كريستيان فان نسبن اليسوعيّ: أبٌ ومعلِّمٌ

بقلم :
د. أشرف ناجح عبد الملاك - كولومبيا
الأب كريستيان فان نسبن اليسوعيّ: أبٌ ومعلِّمٌ

الأب كريستيان فان نسبن اليسوعيّ: أبٌ ومعلِّمٌ

 

مُقدّمة: مَن هو الأب كريستيان فان نسبن ولماذا؟

 

نسجّل هذه الخواطر اللّاحقة بمناسبة مرور ستة أعوام على رحيل وانتقال الأب كريستيان فان نسبن اليسوعيّ (2016-2022). والأب والرّاهب كريستيان فان نسبن هو هولنديّ الأصل؛ قد وُلِد في 15 مارس/آذار للعام 1938. وفي عام 1962 جاء إلى مصر كدَارس للفلسفة؛ وبعد حصوله علي درجة الدّكتوراة مِن جامعة السوربون بفرنسا، بعام 1987، من خلال أُطروحَة عن "مفهوم سُنن الله في تفسير القرآن: دراسة مقارنة بين الشيخ محمد عبده ومحمد رشيد رضا"، عاد مجدَّدًا إلي مصر كأستاذ للفلسفة والإسلاميّات، وكمُكوِّن للطلبة الإكليريكيّين أيضًا، في كليّة العلوم الإنسانيّة واللّاهوتيّة بالمعادي (أو إكليركيّة الأقباط الكاثوليك)، لسنوات عديدة. وفي يوم الخامس من شهر ديسمبر/كانون الأول للعام 2009، أقامت الإكليريكيّة بالمعادي حفلًا تكريميًّا لهذا الأب والرّاهب والمعلِّم الفاضل، وذلك نظرًا لسفره للعلاج بخارج مصر، وعودته إلى هولندا، مِن جرّاء المرض المعروف بالزهايمر. وبعد جهاده لبضعة أعوام مع هذا المرض اللّعين، قد رحل عن عالمنا في 12 من شهر مايو/أيار للعام 2016. أجل رحل، ولكنّه رحل إلى البُعد الآخر، ليلتقي بمَن كان يؤمن به ويحبّه ويرجوه.

 

في هذه المقالة الوجيزة، لستُ بصدد سرد حياة وأعمال ومؤلَّفات الأب كريستيان؛ وإنّما أقدّم– ولو بإيجاز شديد وبكلمات بسيطة– جانبَيْن من جوانب شخصيّة هذا الرّاهب التّقيّ والعَلاَّمة الكبير: أب روحيّ ومعلِّم قدير. فانطلاقًا من معرفتي الشّخصيّة له، وخبرتي البسيطة معه لعدّة أعوام، وعرفانًا بالجميل للأب والمعلِّم، أرغب في وصفه من خلال هذَيْن الدّورَيْن الجوهرَيْن، واللذَيْن بدورهما لا يختزلان شخصيّته بالطّبع، وإنّما يصفان بعضًا من جوانبها الثّريّة. لقد رافقني أعوامًا في مسيرتي الرّوحيّة والفكريّة، وكان لي بمثابة أب روحيّ تقيّ ومعلِّم قدير حكيم. وقد أظهر باستمرار– عبر كلماته وحياته– أنّ تكريس الذّات كاملةً لله وللآخرين ليس نوعًا مِن الهروب مِن مسؤوليّات الحياة الواقعيّة، أو كبتًا للطاقات الجنسيّة الإنسانيّة، وإنّما هو حبٌّ منفتح وشامل يحتضن النّاس جميعًا.

 

 

أوّلًا: أبٌ روحيّ

 

إنّ الأمر الأوّل في شخصيّة الأب كريستيان كأب روحيّ هو إتقانه "فنّ الصّمت". كثيرون يجيدون التّحدُّث إلينا، ولكنّ قلائِل هم مَن يعرفون الإصغاء لنا جيّدًا. وإصغاء الأب الرّوحيّ ليس لابنه الرّوحيّ فحسب، وإنّما أوّلًا وقبل كلّ شيء إلى همسات الرّوح القُدس. فكَمْ مِن أب روحيّ يصغي حقًّا إلى صوت الرّوح حتّى يعرف توجيهات الله ومشروعه بشأن ابنه الرّوحيّ؟ وإن كان الأب كريستيان قد أجاد الحديث والإلقاء بروعة وعمق شديدين، ولكنّه أتقن أيضًا الصّمت والإصغاء لتوجيهات وعلامات الرّوح القُدس حيال أبنائه الرّوحيّين. وكان هذا كلّه بمثابة خبرةٍ معاشة مِن قِبل أشخاص عديدة في مسيرة استرشادهم لديه.

 

أمّا الأمر الثّاني في شخصيّته كأب روحيّ فهو أنّه كان شخصًا ذا قلب مرهف وعقل متّسع. لقد عرف الجَمْعَ بين حقوق القلب وحقوق العقل، أي أنّه عاش مرهف القلب والحسّ، وناضج الفكر. وهذا هو ما ينبغي أن يتوفّر في الأب الرّوحيّ: التّوفيق بين مشاعر القلب وأفكار العقل. فالأب الرّوحيّ الحقيقيّ هو مَن يستقبل ابنه الرّوحيّ فاتحًا له قلبه وفكره معًا، فبقلبه يخاطب قلبه وباطنه، وبعقله يتحدَّث إلى عقله وكيانه. فيمكن القول بأنّ الأب الرّوحيّ، علاوةً على صفات أخرى كثيرة، هو رجل القلب والفكر. والأب كريستيان كان هذا الرّجل بجدراة، فعرف الجَمْعَ– في اتّساق تامّ وتناغم واضح– بين العواطف والأفكار؛ فلم يكن رومانسيًّا حالمًا فحسب، ولم يكن عقلانيًّا مثاليًّا فقط، وإنّما كان رجل الرّومانسيّة والعقلانيّة في آنٍ واحد. فعندما كان يستقبل ابنًا روحيًّا له كان بارعًا في التّحدُّث إليه بلغة القلب والعقل معًا. ولا شكّ في أنّ هذا كلّه كان يساهم في النّموّ الرّوحيّ لأبنائه الرّوحيّين. فالنّموّ الرّوحيّ ليس أن يتقدّم الشّخص في العواطف الرّوحيّة وحدها، أو في الأفكار الرّوحيّة وحدها، وإنّما يكمن في البلوغ إلى تناغم حقيقيّ وواقعيّ بين هذَيْن البُعدين البشرين. إنّ النّموّ الرّوحيّ هو نموّ وازْدِيَاد في القلب والعقل معًا، في العواطف والأفكار معًا.    

 

 

ثانيًا: معلِّمٌ قدير

 

إنّني مَدِين للأب كريستيان بأمور عديدة يعرفها الله وحده؛ ولكن مِن بين هذه الأمور هو أنّه وضعني على طريق "معرفة الله" لأعرف نفسي، و"معرفة نفسي" لأعرف الله، وهكذا أيضًا "أعرف الآخرين" وهم يعرفونني. فلا يمكنني أنْ أنسى ما حييتُ محاضراته ودروسه العميقة في الفلسفة والإسلاميّات والثّقافة العامّة. فهو– بدون أدنى مبالغة– مَن فتح عقلي وقلبي، وعقول وقلوب الكثيرين، على عَالَم "المعرفة" التي تجد في الله منبعها وغايتها. لقد أفهمنا أنّ الله "سرّ مستتر"، قبل أنْ يكون "استعلانًا ظاهرًا"، فكلّما حاولنا أنْ نَسبِر غَوْره إزداد هو في العمق، إذ إنّه سرٌّ لا يُنتهَى أبدًا مِن معرفته. ولكنّ الله مع كونه سرًّا، بل وسرّ الأسرار برمّتها، طلب مِنّا أنْ نحبّه ونعرفه؛ وكلّما أحببناه زدنا في معرفتنا له، وكلّما عرفناه زدنا في محبّتنا له. ففي الحقيقة، المعرفة هي بنت للمحبّة، والمحبّة هي بنت للمعرفة.  

 

أمّا الأمر الثّاني فهو أنّ الأب كريستيان استطاع الجَمْع في شخصيّته بين "المعرفة" و"الحكمة"؛ وهذا أمرٌ نادرٌ في هذه الأيّام حقًّا. فكثيرون يعرفون الكثير، ولكنّهم ليس لديهم الكثير، ولا حتّى القليل، مِن الحكمة. فالمعلِّم القدير حقًّا هو مَن يتوفّق في الجَمْع بين معرفة الكثير مِن المعلومات والأفكار والقضايا، وبين امتلاك نظرة عميقة وجامعة نابعة مِن الخبرة، وبَوتقة الحياة، أي هو مَن استطاع أنْ يوفّق بين المعرفة العقليّة والمعرفة الاختباريّة.

 

وأمرٌ آخر في شخصيّته كمعلِّم قدير هو أنّه كان تلميذًا دَؤوبًا "للمُعَلِّمُ الصَّالِح" (لو 18/18)، الذي قال عن نفسه: «أَنا الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة» (يو 14/6)؛ وقد أفهم تلاميذه بأنّه «ما كانَ الخادِمُ أَعظِمَ مِن سَيِّدهِ ولا كانَ الرَّسولُ أَعظَمَ مِن مُرسِلِه» (يو 13/16). فعِلْمُ الأب كريستيان لم يكن نتاج دراسة شاقة وشيّقة فحسب، وإنّما كان نابعًا مِن ركضه وراء ربّنا ومعلِّمنا يسوع المسيح، واتّباع خُطوَاته واقْتفَاء أَثَرِه، وجلوسه تحت أقدامه، وسهره معه باللّيل في الجتسمانيّة، وبقائه في محضر الله ومثوله أمامه. ولقد تعمَّق في سرّ الله وسرّ الإنسان، لأنّه أسلم عقله وأَتْكَأ رأسه على صدر يسوع المسيح، الإله الحقّ والكامل، والإنسان الحقّ والكامل. إنّ الأب كريستيان لَهو معلِّم، وحكيم، وفيلسوف، وعَالِم لاهوت، قد عرف واختبر الدَّمْج بين الحياة والمعرفة، بين الدّنيا والدّين، بين الآنيّة والأبديّة، بين الزّمن والخلود. فهو بحقٍّ إنسان المفارقات، الذي لم يعلِّم عن مفارقات الإنسان فحسب، وإنّما عاشها بعمق فريد. 

 

 

خاتمة: نظرةٌ عامّة لشخصيّته

 

حتّى لا أطيل في وصفي للأب كريستيان، وإنْ أطلتُ لن أوفيه حقَّه، اكتفيتُ بالحديث عنه كأب روحيّ ومعلِّم قدير. وبلا أدنى شكّ، يمكن تناول شخصيّته وحياته وأعماله من زوايا أخرى متعدّدة؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر، أشير إلى ثلاثة مجالات في غاية الأهمّيّة:

 

1) الحوار بين المسيحيّين والمسلمين (وله كتاب هامّ متعلّق بهذا المجال: "مسيحيّون ومسلمون أخوة أمام الله"، ترجمة الأستاذ أنور مغيث، وتقديم الدكتورة زينب محمود الخضيري، وقد نشرته الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2008)،

 

2) الحوار المسيحيّ-المسيحيّ أو المسكونيّ (ولا سيّما مع الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة)،

 

3) الحقل الفلسفيّ والثّقافيّ المصريّ.

 

وبوجه عامّ، الأب كريستيان هو الأب الذي أحبّ أبناءه وبناته حبًّا جمًّا. وهو الأخّ الذي عرف أنْ يجمع إخوته وأخواته حوله. وهو الإنسان الذي أَظهر في تعبيراته وتصرّفاته كلّها كيف يكون الإنسان الحقيقيّ المتّحد بإلهه الحيّ. وهو "عبد المسيح" (كريستيان)– كما كان يحلو له أنْ يطلق على نفسه– الذي عاش ما كان يشعر به القدّيس بولس عبد يسوع المسيح. وهو المرح الذي بخفّة دمه ونُكَته كان يخلق البهجة والمرح والضّحك في الشّخص الذي يقترب منه. وهو المصلّي الذي حوَّل صلاته حياة، وحياته صلاة. وهو المفكّر الذي دفع مَن التَصَق به إلى التّأمُّل العميق في الحياة ومعنها. وهو الفيلسوف وعَالِم اللّاهوت الحكيم، فليس كلّ الفلاسفة وعلماء اللّاهوت حكماء، ولا كلّ الحكماء فلاسفة وعلماء لاهوت. وهو المعلِّم الذي أعدّ أجيالًا مِن الأساقفة والكهنة والعلمانيّين للكنيسة القبطيّة الكاثوليكيّة.

 

بالطّبع، بكتابتي لهذه السّطور الموجزة عنه، وتَدويني لهذه الجوانب المختزَلة حول شخصيّته، لم أُوفِ الأب كريستيان حقَّه. فربّما ستتاح لي الفرصة والمجال في المستقبل لأعبِّر عمّا يجول في قلبي وذهني، وفي قلوب وأذهان الكثيرين مِن محبيه، في ما يتعلّق بشخصيّته العظيمة، التي كان– ولا يزال– لها تأثير ظاهر وواضح، ليس في المحيط المسيحيّ فحسب، وإنّما في المحيط الإسلاميّ المصريّ أيضًا، وليس في القضايا الدّينيّة فحسب، وإنّما في القضايا الفلسفيّة والثّقافيّة المصريّة أيضًا. وربّما يجد المرء نفسه عاجزًا عن إيجاد العبارات المناسبة والألفاظ الدّقيقة لوصف هذه الشّخصيّة المتعدّدة الجوانب والأبعاد. ولكنّ الأب كريستيان يدرك جيّدًا– فهذا هو أحد دروسه الثّمينة– أنّ الكلمات، وإنْ كانت ضروريّة ومعبِّرة، هي في نهاية المطاف عاجزة عن وصف العلاقات الحَمِيمِيّة، والعواطف والمشاعر الإنسانيّة، والأسرار والمَكنونات البشريّة؛ فهي كلّها أمور تُدرَك وتُستشعَر جوهريًّا عبر النّظرات العميقة والمتأمّلة، وفي الصّمت الحكيم والمعبِّر والبليغ.

 

وأخيرًا، إنّ مَن يعرف جيّدًا الأب كريستيان فان نسبن، ولا سيّما مِن الآباء الأساقفة والكهنة والإخوة العلمانيّين والأخوات العلمانيّات للكنيسة القبطيّة الكاثوليكيّة، والرّهبان اليسوعيّين، أتخيّله يقول معي: إنّه يستحق الكثير لأجل إحياء ذكراه الخالدة وسيرته العطرة. وأعتقد أنّه مِن أجل تكريمه أجدر تكريم، أمام الأجيال الحاضرة والقادمة، ينبغي اقتراح العديد مِن المبادرات: كتنظيم ندوات عن حياته وفكره، على أنْ تُطبَع جميعها في كُتب ومجلات، أو إعداد مُجلَّد عن سيرته الحياتيّة وتعاليمه، أو إجراء العديد مِن المقابلات مع أشخاص قد احتكّوا به وتعاملوا معه، وتُنَسَّق كلّها في كتابٍ، أو في عدّة كُتب. إنّني أحلم– بثقة راسخة ورجاء وطيد– أنّه ثمّة مبادرات أخرى جميلة ومُسْتَحَبة تداعب مخيّلة تلاميذه ومحبيه، وهي كلّها بين يدي الرّبّ ووفقًا لتدبيره وحكمته، وسيُسدَل عنها السّتار في المستقبل العاجل أو الآجل.