موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ٢٩ أغسطس / آب ٢٠٢٢

أغسطينوس، ابن الدموع ومعلم الكنيسة

بقلم :
المطران كريكور كوسا - مصر
الإنسان ما هو إلا خاطئ يحتاج باستمرار إلى أن يُغسل بالمسيح

الإنسان ما هو إلا خاطئ يحتاج باستمرار إلى أن يُغسل بالمسيح

 

وُلِدَ أوغسطينوس في 23 تشرين الثاني سنة 354 ميلادية في مدينة تاجست، المعروفة الآن بـ"سوق أخرس"، قُرب بلدة عنابة بالجزائر. كان عام الفساد في حياة الشاب أوغسطينوس، رغمًا عن كل محاولات أمه لحمايته من الوقوع في براثن الشر والرذيلة.

 

سافر إلى قرطاجة بالقرب من تونس الحالية، ليتلقى علومه ودراسته العليا، وتعرّف على فتاة فقيرة صارت له صديقة، وعاشا معًا نحو 14 عامًا أنجب خلالها ابن دعاه اديوداتوس. في هذه الفترة انكب أوغسطينوس وواظب على درس علومه بشغف.

 

 

مونيكا والأسقف المعلّم أمبروسيوس

 

في عام 383، وصل أوغسطينوس إلى روما وفيها تقابل مع الأسقف أمبروسيوس، أسقف ميلانو، وقد كان أمبرسيوس خطيبًا مفوهًا، مما جذب إليه أوغسطينوس، وحين جاءه أوغسطينوس لم يجده خطيبًا مقتدرًا فقط بل عالمًا قوي الحجة والمنطق، دارسًا للكتاب المقدس وقادرًا على صياغة المفاهيم الروحيّة، ووجده راعيًا يجيد التعامل مع رعيته، فتوطدت العلاقة بين الشاب أوغسطينوس والأسقف والمعلم أمبرسيوس. وفي هذه الأثناء جاءت أمه مونيكا لتكون بجانبه، ولتعمل على خلاصه من صديقته، فاستجاب لها ترك صديقته ترحل لبلادها، بينما يحتفظ بابنه اديوداتوس الذي أحبه ورأى فيه من الذكاء والنبوغ.

 

 

اوغسطينوس يبحث عن الله: خُذ واقرأ

 

كان الله يتعامل مع أوغسطينوس في مراحل عمره المختلفة، حتى وإن كان أوغسطينوس لا يدرك معاملات الله له، فقد تحدث الله إليه في موت صديقه، وفي دراسته للفلسفة، وفي قراءته للكتاب المقدس، ومن خلال عظات الأسقف أمبروسيوس، وفي تعاليم وصلوات أمه، فيخرج إلى حديقة المنزل الذي يسكنه، وهناك في الحديقة ووسط أزمته وتساؤلاته الحائرة، راح يبحث عن الحقيقة، ويتأمل فيما صنعه الله معه. كان حائرًا يائسًا، لكن أمامه أملاً في أن يلتقي بالحقيقة، يلتقي بالله.

 

وحين كتب يشرح هذه اللحظات التي جعلت منه قديسًا في المسيح، قال: "ذهبت إلى البستان تحت تأثير العاصفة التي عصفت بقلبي دون أن يقوى أحد على تهدئتها، وحدك يا رب تعرف حدًا لذاك الاضطراب، أما أنا فقد كنت أجهله، رغم أني كنت أسير نحو الشفاء وأموت عن الحياة، مدركًا ما كنت عليه من إثم، جاهلاً ما سأصير إليه من صلاح قريب. انفردت في الحديقة فلحق بي اليبوس، خطوة خطوة، ومع أنه كان بجانبي بقيت أشعر بوحشة. جلست ارتجف بشدة غضبًا لكوني لم أقبل مشيئتك وميثاقك يا إلهي، تعذَّبت ونقمتُ بشدة على نفسي، تقلَّبتُ وتململتُ في قيودي وكدتُ أحطمها، لكنني بقيت موثقاً بأحد قيودها الضعيفة. بقيت متأرجحًا بين الموت عن الموت. سألت نفسي كيف يعيش المؤمنين الحقيقين في عفاف؟ هل يمكنك أنت أن تعمل ما تصَّل إليه؟ أولئك لم يصلوا إلى ما هم عليه بقدرتهم الشخصية، بل بقوة يسوع المسيح، وأنت فما بالك تتردد بين نعم ولا؟ ألق بنفسك بين يديه ولا تجزع فإنه لا يتخلى عنك ولا يدعك تسقط. وإذ كنت غائصًا في بحر من التفكير والتأمل، قلت حتى متى يا رب؟ نطقت بهذا الكلام وبكيت بكاءً مرًا بقلب منسحق، فطرق أذني بغتةً صوت من خارج من بيت جيران خُيّل إليّ أنه صوت صبي أو صبية يغني مرددًا: "خذ وأقرأ‍‍‍! خذ وأقرأ‍‍‍!.. ومن ثمَّ حبست دموعي ونهضت لأني رأيت في ذلك الصوت نداءً سماويًا يدعوني إلى أن أفتح كتاب الرسول بولس وأقرأ أول فصل يقع عليه نظري. عدت مسرعًا إلى حيث تركت كتاب الرسول بولس فأخذته وفتحته وقرأت سرًا أول فصل وقع نظري عليه: هَذَا وَإِنَّكُمْ عَارِفُونَ الْوَقْتَ أَنَّهَا الآنَ سَاعَةٌ لِنَسْتَيْقِظَ مِنَ النَّوْمِ فَإِنَّ خَلاَصَنَا الآنَ أَقْرَبُ مِمَّا كَانَ حِينَ آمَنَّا. قَدْ تَنَاهَى اللَّيْلُ وَتَقَارَبَ النَّهَارُ فَلْنَخْلَعْ أَعْمَالَ الظُّلْمَةِ وَنَلْبَسْ أَسْلِحَةَ النُّورِ. لِنَسْلُكْ بِلِيَاقَةٍ كَمَا فِي النَّهَارِ لاَ بِالْبَطَرِ وَالسُّكْرِ لاَ بِالْمَضَاجِعِ وَالْعَهَرِ لاَ بِالْخِصَامِ والْحَسَدِ. بَلِ الْبَسُوا الرَّبَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ وَلاَ تَصْنَعُوا تَدْبِيراً لِلْجَسَدِ لأَجْلِ الشَّهَوَاتِ (رسالة القديس بولس إلى أهل رومة 13: 11-14).

 

 

الحياة الجديدة بالمسيح

 

بعد أن آمن أوغسطينوس بالمسيح يسوع، وملَّكه ربًا وسيدًا على حياته، تغيَرت حياته تمامًا، لقد تأثّر أوغسطينوس كثيرًا برسول المسيحيّة بولس حين اختلى بعيدًا عن العالم وأصدقائه، وبعدها خرج أوغسطينوس من عزلته، وكان قد قرّر قطع علاقته وصلاته بماضيه الآثم، ليكرس نفسه تمامًا لخدمة الله، ورجع عائدًا إلى بلدته تاجست، حيث أسس كنيسة للتعبد عاش فيه مع بعض أصدقائه نحو ثلاث سنوات، حيث كان يقوم بدراسة كلمة الله، الكتاب المقدس، وكتابة هذه التأملات في شكل دراسات وكتيبات، وكتب يوزعها على من يرغب في التعلُم ومعرفة الله وكلّمِته.

 

وظل أوغسطينوس أسقفًا في مدينة هيبو، وظل أسقفًا لها لمدة 38 عامًا، حتى انطلق إلى سماء المجد في 28 آب عام 430 ميلادية، لتكون أيام عمره على الأرض نحو 76 عامًا، بعدما أغنى الكنيسة بكتاباته وعلمه ولاهوته،  وما زالت كتاباته بركة للملايين إلى يومنا هذا.

 

 

مسيرة اهتداء

 

خلاصة مسيرة اهتداء القديس أغسطينوس وفقًا لقداسة البابا بندكتوس السادس عشر:

 

يقول بندكتس إنّ مسيرة إهتداء القديس اوغسطينوس الأفريقي لم تَنتهِ بمعموديته التي تمّت عشية عيد الفصح سنة 387 للميلاد، بل "استمرّت حتى آخر يوم في حياته". وقد وَصف قداسته في واحدة من المقابلات العامة الخمسة التي خصّصها للقديس، 3 مراحل أو خطوات في مسيرة اهتداء أغسطينوس:

 

تمثّلت الأولى في "تَقرّبه التَدريجي للمَسيحية" ورغبته في معرفة المسيح. وقد تحقق هذا الأمر عندما وصف القديس في كتابه "الاعترافات"، صوتًا قال له: "خُذ واقرأ" (tolle, lege) الأمر الذي جعله يقرأ مقطعًا من رسالة القديس بولس إلى أهل رومة (13: 13-14)، يحثّ فيه بولس الرسول الناس على أن " يَلبَسوا الرَّبَّ يسوعَ المسيح، ولا يُشغَلوا بِالجَسَدِ لِقَضاءِ شَهَواتِه".

 

أما الخطوة الثانية فقد جرت حينما عاد القديس إلى مدينة هيبو، وقام بتأسيس جماعته هناك. وقد أدرك حينما أصبح أسقفًا للمدينة أن العيش من أجل المسيح ومع المسيح، الذي هو الحق، يستوجب العيش من أجل الآخرين ووضع معرفته وإيمانه بين أيديهم.

 

أما الخطوة الثالثة في مسيرة اهتدائه، فكانت في إدراكه لتواضعه، وأن الإنسان ما هو إلا خاطئ يحتاج باستمرار إلى أن يُغسل بالمسيح.