أربعاء الرماد: صوموا وتوبوا إلى الرب

 

هو بدء الصوم الاربعيني لدى الكنيسة اللاتينية، يوضع فيه الرماد على جباه المؤمنين تذكيرًا لهم أنهم من تراب وإلى التراب يعودون. إنّ زمن الصوم هو زمن التوبة والرجوع إلى الله: "صوموا وتوبوا الى الرب بكل قلوبكم"، و"لكي يكون صومكم مقبولاً، لتكن توبتكم صادقة".

 

 

الصوم في العهد القديم

 

توجه دانيال النبي إلى الرب بالصلاة والصوم والتضرعات ليتفتح قلبه بالنور الالهي، وكان الشعب يصوم ويتذلل امام الرب قبل القيام بمهمة شاقة ليستجيب الى طلباتهم. كما صام احاب طلبا للصفح، وصام داؤد النبي ملتمسا الشفاء لصبي اشرف على الموت. كما صام هو وغيره اثناء المناحة على شاؤل ويوناثان ابنه. وكذلك بكى الشعب وصاموا بعد حرق اورشليم، وبعد كل نكبة وطنية، ولوقف أية كارثة وشيكة، وكذلك لترقب النعمة الالهية لاتمام رسالة ما، والاستعداد الى ملاقاة الله.

 

 

الصوم في العهد الجديد

 

رسم السيد المسيح لنا الخطوط الرئيسية للصوم، ناهيًا إيانا عن الصوم الشكلي والظاهري، تاركا التفاصيل للكنيسة لتبت فيها، ولتفسر للمؤمنين كيفية الصوم بحسب البيئة والظروف، وبما تراه مناسبا لتحقيق مفهوم وهدف الصوم، والسيد المسيح هو اول الصائمين في العهد الجديد.

 

"هل يستطيع بنو العرس أن يصوموا والعريس معهم، ما دام العريس معهم لا يستطيعون أن يصوموا، ولكن ستأتي أيام حين يرفع العريس عنهم فحينئذ يصومون في تلك الأيام" (متى 9: 14-15 ، لوقا 5: 35). البعض من المسيحيين ينكرون علينا الصوم، ولكي نرد عليهم نقول: إن الرب يسوع هو اول الصائمين في العهد الجديد ، وهو لم يلغي الصوم بل أجله الى ما بعد صعوده للسماء، فالتاجيل شيء والالغاء شي آخر.

 

اعتبر كلام الرب هذا تفويضًا منه إلى تلاميذه لتحديد مواعيد الصيام، وبناء على هذا التفويض ابتدأ الرسل الأطهار والتلاميذ الأبرار بالصوم بعد صعود الرب إلى السماء، فصاموا في مناسبات شتى وبأساليب متنوعة، ونقرأ عنهم في سفر أعمال الرسل ما يأتي "وبينما كانوا يخدمون الرب ويصومون قال الروح القدس افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه فصاموا وصلّوا ووضعوا عليهما الأيادي ثم أطلقوهما" (أع 13: 2و3). ويفتخر الرسول بولس بحرصه على ممارسة فريضة الصوم بقوله: "في كل شيء نظير أنفسنا كخدام اللّه في أتعاب في أسهار في أصوام" (2 كو 6: 5).

 

 

الصوم في المسيحية هو صوم روحي بوسائل مادية

 

ليكن طعامنا في زمن الصوم الكلمة التي تخرج من فم الله، لانه ليس بالخبز وحده يحيا الانسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله، والعمل بمشيئته وهو القائل: "طعامي ان اعمل مشيئة الذي ارسلني"، وأن نلبّي دعوته ونُقبل الى تناول جسدة وشرب دمه "إن جسدي ماكل حقا وان دمي مشرب حقا".

 

لا يوجد جواب قاطع حول الصيام كأن نقول كل كذا او لا تاكل كذا، ولا يقوم على الزمن كأن تصوم النهار كله او نصفه ، كما لا يقوم على كمية الاكل بان تاكل قليلا او تخفف من اكل كذا وكذا  ولا يقوم على النوعية كان تمتنع عن المنتجات الحيوانية، الصوم يقوم على النوايا والتكفير عن الذنوب وحرمان النفس من الملذات، والتفكير بالفقراء وعمل الخير، وبالصلاة والتقرب من الله، انه يقوم على الحرية، وكل انسان يدرك اهمية الصيام وفائدته الروحية، فيختار اوقاتا للصلاة، وانواعا معينة من الماكولات يحرم نفسه منها، ويلتزم باعمال الخير، وكل ذلك يجب ان يتم برغبة ويسر وقناعة وايمان.

 

"الصيام وحده لا يوصلك الى السماء، بل يلزمك لتصعد اليها على اجنحة الصلاة والصدقة والتوبة والمحبة" كما يتوجب عليك ان تدرك غايات الصوم، المتمثلة في ترميم العلاقة مع الله بالصلاة والتأمل في كلامه الحي، وترميم العلاقة مع الذات بالصيام والتقشف والتوبة، وترميم العلاقة مع الآخرين بالمصالحة وبالصدقة وأعمال الرحمة تجاه الفقراء.

 

 

الاصوام الباطلة والمرفوضة من الله حسب الكتاب المقدس

 

 أولا: الصوم المكشوف الذي يقوم به الانسان ليراه الناس ويمتدحوه " متى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين فانهم يكحلون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين.

 

 ثانيًا: الصوم بتباهي وافتخار واحتقار للاخرين ومن دون تواضع كالفريسي "صوم يومين في الأسبوع واعشر جميع اموالي ولست مثل سائر الناس الظالمين.

 

ثالثًا: الصوم البعيد عن الرحمة والصدقة، فالصوم الحقيقي "هو ان تكسر للجائع خبزك وان تدخل البائسين المطرودين بيتك واذا رايت العريان ان تكسوه".

 

رابعًا: الصوم البعيد عن التوبة، فالله يريد القلب النقي اكثر مما يريد الجسد الجائع "ان لم تتوبوا فتهلكوا جميعا".

 

تُفرض التوبة على جميع الخطأة، وكلنا خطأة، ومن يزعم غير ذلك يخدع نفسه، والتوبة يجب ان تكون على مستوى القلب والجسد، لان الشر ينويه الانسان بالقلب وينفذه بالجسد ، ومن كان قلبه نقيا يعاين الله ، ومن فيض القلب يتكلم اللسان، وكما يقول حزقيال النبي "انبذوا عنكم جميع معاصيكم واصنعوا لي قلبا جديدا"، وكما يقول يوئيل النبي توبوا الى بكل قلوبكم، مزقوا قلوبكم لا ثيابكم"، وكما يقول المعمدان "اثمروا ثمارا تليق بالتوبة" والاهم من هذا كله كلام الرب واضح وصريح "ان لم تتوبوا فتهلكوا جميعا".

 

"من ادعى انه بلا خطيئة جعل الله كاذبا" (يوحنا الحبيب)، فالخطيئة هي خصومة مع الله وموت روحي، والتوبة عن الخطيئة تعني التحرر والصلح مع الله، وانتقال من الموت الى الحياة. فالتوبة ضرورية للجميع حتى للقديسين، فلا يوجد انسان بلا خطيئة، التوبة هي بدء الطريق الى الله والعودة اليه كعودة الابن الضال وكما يقول الرب في ملاخي "ارجعوا اليّ، ارجع اليكم".

 

"توبوا وارجعوا لتمحى خطاياكم" (اعمال الرسل ١٦:١) وكما يقول اشعيا النبي "ان كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج" بالتوبة. فالتوبة تسبق المعمودية كما قال القديس بطرس "توبوا وليعتمد كل منكم على اسم يسوع لمغفرة الخطايا" وكذلك التوبة تسبق التناول المقدس، كما قال القديس بولس "ليمتحن الانسان نفسه وهكذا ياكل من الخبز ويشرب من الكاس". والتوبة تسبق جميع الاسرار المقدسة، فتوبة الابن الضال سبقت دخول بيت ابيه. فلا تؤجلوا توبتكم الى الغد، لاننا لا نعرف ماذا يخبىء لنا الغد، بل عودوا الى الرب.

 

واخيرا… لندرك ان الصوم هو تجدد ودخول في سر المسيح الفادي ، نموت معه لنحيا معه في قيامتنا من عبودية الخطيئة الى حرية أبناء الله ، انه استحضار لعيد الفصح، وهو تجلي تدريجي له كأن نصعد السلم درجة درجة الى ان يحين العيد، الصوم الاربعيني هو فترة تبدأ بتحويلنا الى فصحيين ، حتى اذا جاء الفصح ، نعيد العيد متهللين فرحين، انه شوق وانتظار للقيامة المجيدة بفرح ورجاء كبيرين

 

ولندرك ايضا ان الصوم يعني الرجوع الى الله وطلب رحمته بكل لجاجة من خلال اعمال التوبة والصلاة والصدقة... وبالطبع هناك اعمال روحية ذات صلة بهذا المثلث وهي الاهتداء ، المصالحة، الغفران، محبة القريب، والابتعاد عن الكراهية والحقد والانتقام.

 

الصوم يعني طلب القوة الروحية الإيمانية للانتصار على قوى الشر والشيطان والخطيئة، كما يعني الخدمة والمهام الجليلة التي يكلفنا بها الرب والابتعاد عن الغضب والمشاحنة والكراهية، وعن محاكمة الاخرين وادانتهم، وكذلك نبذ اليأس والاحباط والتذمر .انه يعني باختصار التعبير عن الايمان والعمق الروحي والنمو في محبة الله.

 

وايضا، لندرك ان الصوم ليس هدفا بحد ذاته وانما وسيلة للوصول الى الهدف. ما نصوم عنه ليس من حقنا فيما بعد وانما هو من حق الفقير. والصوم كالطير لا يطير الا بجناحين الصلاة والصدقة. وان الصوم الروحي مكمل للصوم الجسدي. ليكن صومنا: صلاة... صدقة... صفحًا... صفاء... صدقًا... صبرًا.

 

لنرفع صيامنا عن نية المضطهدين في الارض بسبب ايمانهم، من أجل البعيدين عن أوطانهم، من أجل الذين ضلوا طريق المسيح، من اجل الفقراء والمحتاجين، الايتام والارامل، الجوعى والعطاش، ومن اجل اهلنا في غزة، من اجل المرضى ليشفيهم الرب، وليكن صيامنا انفتاحا على الرب بالحب وبالايمان، وعلى الاخرين بالرحمة والصدقة والإحسان.

 

وكل عام والصائمون بخير