موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ١٣ يوليو / تموز ٢٠٢٥

في بيت العزاء والرجاء في البلمند

في بيت العزاء والرجاء في البلمند

في بيت العزاء والرجاء في البلمند

الأب رفعت بدر :

 

في 10 من تموز، ذهب وفد من مجلس كنائس الشرق الأوسط ممثلين عن اللجنة التنفيذيّة إلى دير سيدة البلمند في شمال لبنان، لتقديم العزاء لصاحب الغبطة البطريرك يوحنا اليازجي، بطريرك الكنيسة الأنطاكية للروم الأرثوذكس، وذلك باستشهاد كوكبة من أبناء وبنات الكنيسة، إثر التفجير الدامي والإرهابي الذي حدث في كنيسة مار الياس في الدويلعة في دمشق.

 

أقول في 10 من تموز، لأنّ هذا التاريخ كان عيد شهداء دمشق الذين استشهدوا في عام 1860 في دمشق، إثر أعمال كراهية قام بها مسلحون ضد المسيحيين هناك. وقد أعلن البابا الراحل فرنسيس قداستهم كشهداء في الكنيسة في أكتوبر العام الماضي 2024، وقد وضعت ذخائرهم في كنيسة معموديّة السيد المسيح في المغطس في الاحتفال الذي جرى في كانون الثاني هذا العام.

 

يأتي هذا اللقاء في يوم 10 من تموز الذي فيه تُحيي الكنيسة هؤلاء الشهداء الجدد، وهو أول عيد لهم بعد إعلانهم قديسين، فقد رأينا ربطًا كبيرًا ما بين الاستشهادين وما بين الذكرى، وما حدث قبل أيام قليلة في كنيسة مار الياس في دمشق. ومن باب الافتخار أيضًا أنه في ذلك اليوم قد نشرت صفحة البطريركية الأرثوذكسية تعزية جلالة الملك مع صورة له حينما قال جلالته، باسم الاسرة الأردنية الواحدة: "غبطة البطريرك الأخ يوحنا العاشر حفظه الله بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، تلقيت بعميق الحزن نبأ الهجوم الإرهابي الذي استهدف كنيسة مار الياس في دمشق وأودى بحياة مدنيين أبرياء وتسبب بإصابة آخرين. أعرب لكم باسمي وباسم شعب المملكة الأردنية الهاشمية وحكومتها عن أصدق مشاعر التعزية والمواساة بهذا المصاب الأليم. وأؤكد رفض الأردن لجميع أشكال الإرهاب والتطرف. أسال الله عزّ وجلّ أن يتغمد الضحايا بواسع رحمته، وأن يلهمكم ويلهم أسرهم جميل الصبر وحسن العزاء وأن يمن على المصابين بالشفاء العاجل". طبعًا، ذكر البطريرك ذلك أمام المجتمعين ممثلي الكنائس، وقال إنّني أعبّر عن فخري بالرسالة التي تلقيتها من جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين.

 

حديث البطريرك كان حزينًا ومليئًا بالشجون والقلق، وهذا حقه المشروع لأن الشعب السوري يطمح وبالأخص في الفترة الأخيرة، إلى عيش حياة ديمقراطية سلمية تكون فيها المواطنة البناءة والمساواة في الحقوق والواجبات هي العنوان العريض لمستقبل سوريا الجديد. لكن ما حدث من عمل إرهابي همجي في إحدى كنائس دمشق العريقة، قد آلم النفوس ما حصل وأدخل القلق من جديد وجعل التساؤلات مثيرة وكثيرة، هل فعلاً هذا ونطمح إليه؟ وهل فعلاً سيكتب تاريخ دمشق وسوريا الجديد بدماء شهداء أبرياء؟

 

تلقى البطريرك سيلاً كبيرًا من الزيارات وعبارات التعزية والتضامن من مختلف ممثلي الأديان والكنائس ورؤساء الدول والبعثات الدبلوماسية في كل من لبنان وسوريا. لكن نبرة صوته الحزينة، قد أخبرتنا ونحن نستمع إليه كم هو قاتم المستقبل، وكم هو قاتل أن نفكر بأن ما حدث سوف، لا سمح الله، أيتكرر في أي بقعة من سوريا العزيزة، سوريا التي بالرغم من العواصف السياسيّة التي حصلت بها، لكنها كانت على الدوام رمزًا للأخوّة الإسلاميّة المسيحيّة، ورمزًا لاحترام الحرية الدينيّة وحرية إقامة الشعائر الدينيّة، وكلنا نذكر كيف كانت مسيرات الأعياد في الميلاد والفصح والشعانين تطوف أرجاء دمشق، وشوارع حلب، وكل شوارع سوريا مع المعزوفات الكشفية المعبّرة عن الافتخار بكونهم سوريين مسيحيين.

 

لا نريد أن يكون التفكير سلبيًا في مستقبل سوريا على الساحة الدينيّة، ولكننا ندعو أصحاب القرار في هذا البلد الشقيق إلى التنبه للحفاظ على الموروث التاريخي والمشرف لسوريا باحترام الأديان، سيما وأن في أنطاكيا السورية قد سُمّي أتباع المسيح لأول مرة مسيحيين، منذ القرن الأول للميلاد. لا نريد لسوريا أن تفرغ من المسيحيين لا سمح الله، بل نريد لهم أن يكملوا مسيرة عطائهم وانتمائهم وفخرهم بتراب بلدهم وبإيمانهم المسيحي العريق.

 

على قمة البلمند التاريخية، وكممثل لبطريركية اللاتين المقدسيّة، في اللجنة التنفيذيّة لمجلس كنائس الشرق الأوسط الذي تأسس قبل نصف قرن، قلت لصاحب الغبطة المكلوم، وهو الذي اختطف شقيقه المطران بولس اليازجي، ولم يعرف مصيره بعد، منذ 12 عامًا، مع مطران السريان يوحنا ابراهيم: تأتينا رسائل قلق يوميّة من إخوتنا في سوريا تقول لنا: "ساعدونا لكي نخرج لأننا نريد أن نبدأ حياة جديدة بعيدًا عن العنف وسيما بعد انفجار كنيسة مار الياس". وعبّرت له عن القلق الكبير الذي في نفوسنا على إخوتنا القلقين الخائفين. فكيف نجيبهم يا صاحب الغبطة؟ وهل من ضمانة بأنّ مستقبل سوريا لن يحمل في طياته مثل هذه الأعمال المدججة بالكراهية؟

 

بالطبع ليس من جواب ممكن في اللحظة الحالية على هذه التساؤلات، لكن في النهاية رتّل الجميع ترنيمة الرجاء: "المسيح قام من بين الأموات"، علامة الأمل وعلامة الثقة، بأن هنالك ربًّا يسيّر الكون وهو الراعي الأول في كل ما يحدث في هذا الشرق الحزين الكئيب والمتطلع إلى أيام مصالحة، وسلام، وعيش مشترك، أصيل وجميل كما هي هوية الشرق دائمًا أن يكون واحدًا، في ظل تعدّدية راقية.

 

ومع أمنيتنا لسوريا الشقيقة بأن تكمل مسيرة بنائها، ولكن باحترام لجميع المكوّنات.