موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
"لقد مشى المسيح على هذا الطريق حاملًا صليبه، وعلى رأسه إكليل شوكٍ، وأنت تلبسُ ثياب الملوكيَّة، وعلى رأسك تاجٌ مرصَّعٌ بالجواهر".
هذا ما قاله البطريرك زكريَّا للإمبراطور الروميِّ هرقلس عام 629م على طريق الجلجلة، وهما سائران مع الشعب لرفع الصليب المقدَّس على الجلجلة، بعد فوز هرقلس على الفرس، واسترجاعه للصليب، وللأسرى المسيحيِّين، ومن بينهم البطريرك نفسه، الَّذين كان ملك الفرس قد استولى عليهم كغنيمة حرب سنة 614م عندما اجتاح أورشليم.
وكانت قوَّة إلهيَّة منعت الإمبراطور من بلوغ الجلجلة، وسائر الموكب المرافق. وبعد سماع هرقلس كلام البطريرك، خلع عنه كلَّ الحلل الملوكيَّة، وثيابه الأرجوانيَّة، وتاجه، ولبس ثيابًا كسائر الشعب، وأكمل سيره حافيًا.
هذه الحادثة فيها الكثير من المعاني والعبر، وبشكل أدقَّ فيها دينونة عظيمة.
فالَّذي صُلِبَ ليس إنسانًا مخلوقًا، بل الإله الخالق الإنسان، وليس ملكًا عاديًّا بل ملك الملوك، وملكه ليس من صنعٍ بشريٍّ، بل ملكوت سماويٌّ.
هو الربُّ يسوع المسيح الَّذي أخلى ذاته آخذًا صورة عبدٍ لخلاصنا، وسار طوعًا إلى الصلب، ليصلب الخطيئة ويميتها، ويحرِّر الإنسان من سطوة الشرِّير عليه.
صحيح أنَّ الربَّ خلاصه مجَّانيٌّ، لكنَّ هذا لا يعني إطلاقًا أن لا دور للإنسان في اقتبال الخلاص الإلهيِّ. فعندما تكون الشمس شارقة، تعطي نورها للجميع دون مقابل، ولكنَّ من يحجب نفسه عنها ويقبع في الظلمة، ولا يكشف ذاته لنورها، يحرم نفسه من دفئها.
هكذا هي علاقتنا بالربِّ، فهو المعطي الخلاص دائمًا، ولكن بالمقابل علينا اقتبال خلاصه بالعمل بوصاياه.
وقد قال الربُّ بصريح العبارة: "مَن أراد أن يأتي ورائي فليُنكِرْ نفسَه ويحمل صليبه ويتبعني" (مرقس8/ 34).
نكران نفسنا بالمنطق الإلهيِّ ولادة جديدة حرَّة ومتحرِّرة من أولى الخطايا، ألا وهي الكبرياء وملحقاتها، أي الأنانيَّة وعشق الذات. ثالوث قاتل متى وقع الإنسان فيه، أضحى وحشًا قاتلًا، يقتل الآخرين إرضاءً لنفسه وإشباعًا لرغباته، وفي النهاية يقضي على نفسه بنفسه، لأنَّ الشيطان عدوُّ الحياة.
ولا سبيل لقتل هذا الوحش إلَّا بالتخلِّي. هذا أمر يتطلَّب شجاعة قويَّة، وجهادًا جدِّيًّا وصلاة وتوبة، وثقة كبيرة بالربِّ، وتسليمًا كلِّيًّا له، هو الَّذي في المقابل يجعل الإنسان يتذوَّق الملكوت مسبقًا، عندها يدخل الإنسان في حالة عشق مع يسوع.
في المقابل، يَشرُس عدوُّ الإنسان، إبليس الشرِّير، لمنع الإنسان من إخلاء ذاته ليمتلئ من المسيح ويبقى عبدًا له.
هنا تحديدًا يأتي دور الصليب، الَّذي عليه نقتل وحش الأنانيَّة والجشع.
هذا الوحش النازع من قلوبنا كلَّ رحمة، والجاعل من ضحاياه أمواتًا في الروح، فينتهي المطاف بهم مطروحين في ظلام ما بعده ظلام.
ومن هنا، فالصليب هو حياة وليس موتًا، انتصار وليس انهزامًا، مجد وليس خزيًا، وارتفاع وليس سقوطًا، وسماء وليس جهنَّمًا.
هذه خبرة شخصيَّة يعرف حقيقتها مَن يعيشها.
فالَّذي ينظُرُ إلى الصَّليبِ من بعيدٍ، يراه شوكةً وموتًا، ولكنَّ مَنْ يقتربُ منهُ يُشاهِدُ في وسَطِهِ الربَّ الفاديَ المعطيَ الحياةَ والقائمَ من بينِ الأمواتِ.
فإن كان يُخصَّص لعيد رفع الصَّليب الكريم المحيي يوم واحد في السنة، أي في 14 أيلول، فهذا لا يعني إطلاقًا ألَّا نرفعه في حياتنا كلَّ يوم وكلَّ لحظة.
وإن كان اكتشاف الصَّليب تمَّ على يد الإمبراطورة هيلينة والدة الإمبراطور قسطنطين في حملة قامت بها في أورشليم، في القرن الرابع الميلاديِّ، فهذا لا يعني أبدًا ألَّا نكتشف خلاص صليب الربِّ مع كلِّ نهار جديد في حياتنا، هذا إذا أردنا حقًّا ألَّا نبقى مطمورين بتراب خطايانا وسقطاتنا وضعفاتنا، وأن تنبت في قلوبنا، مكان الأشواك القاتلة والخانقة، الرياحين الملوكيَّة الَّتي كانت تنبت حيث كان الصليب مطمورًا.
فكما عادت الحياة إلى الميت الَّذي وُضِعَ على الصليب المقدَّس عند اكتشافه، للتأكُّد من أنَّه صليب الربِّ، وليس الصليبين الآخرين اللذين كانا مطمورين معه، والعائدين للِّصَّين اللذين صُلِبا مع الربِّ، هكذا تعود الحياة لنا إن طرحنا أنفسنا على خشبة الخلاص، عندها سَيُرَتِّل قلبنا: "يا ربُّ ارحم"، تمامًا كما رتَّل البطريرك مكاريوس مع المؤمنين عندما رفع الصَّليب المُكتَشَف بحضور هيلينة الملكة.
وإن ظهرت علامة الصٌليب لقسطنطين الملك في السَّماء مع كلمات: "بهذه العلامة تنتصر"، ورَسَمَ الحرفين الأوَّلين لاسم المسيح على ترس كلِّ جنديٍّ، وانتصر بمعركته في روما، فهذا لكي نعي أنَّنا بعلامة الصَّليب ننتصر على الشرِّير وكلِّ أعماله، تمامًا كما غلب يسوع الموت وفجَّر الجحيم. وأيضًا إن حملنا ترس المسيح، نردُّ عنَّا سهام إبليس الَّتي تريد إسقاطنا في حفرة ظلمته.
عودة إلى ما جرى مع هرقلس وكلام البطريرك له، وما فعله الإمبراطور، فهو إعلان للمسكونة جمعاء، عنوانه: أمام مجدك يا ربُّ لا يوجد مجد، لأنَّ من يتعرَّى من المجد الأرضيِّ الزائل، وينضمُّ إلى المصلوب، يرفعه الربُّ إليه على سُلَّمه السماويِّ، الصليب، ويعطيه مجدًا أبديًّا ما بعده مجد، ويقف منتصرًا ظافرًا وحرًّا وقائمًا، ومرتِّلًا: "لصليبِك يا سيِّدنا نَسجُدُ، ولقيامتِكَ المقدَّسَة نُمَجِّدُ".