موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
تَهيَّأ للتطرف الديني موجة واسعة من الانتشار في مصر مع أواخر السبعينيات، من خلال ظهور الخطاب الديني الوهابي مع انتقال المصريين للعمل في دول الخليج. خطاب ساهم برأي كثيرين في تغيير شكل التدين الشعبي الظاهري في مصر.
كان من أهم مظاهر تلك المرحلة انتشار الحجاب والنقاب والدروس الدينية وخطابات وصفت بالمتشددة، والتي كان لها تأثير مباشر في العامة لجهة اختيارهم نمط حياتهم اليومية. رُبِط هذا الخطاب الديني بعمليات إرهابية، كان أشدها في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي. مع ظهور "السوشيل ميديا" في أوائل الألفية الثانية، كان للتطرف موجة جديدة مختلفة. فهل خلقت السوشيل ميديا نوعًا جديدًا من التطرف والإرهاب؟
وجد المتطرفون/ات فرصة جديدة من خلف الشاشة لطرح أفكارهم المتشددة، وممارسة تطرفهم تجاه الآخرين وأفكارهم. ولكن، لم يتوقف التطرف حاليًّا على أصحاب تلك الأفكار، إذ في متابعة بسيطة جدًّا للأحداث، وبعد جولة سريعة في التعليقات على خبر يخص فنانة مشهورة ما حول انتقاد ملابسها مثلًا، أو طريقة ممارستها لحياتها الخاصة أو زواجها أو طلاقها؛ سنجد أن من يرددون تلك التعليقات هم أشخاص عاديون، قد تظن عند مقابلتهم أن لا علاقة لهم بالتطرف الفكري أو الديني. فماذا حدث؟
في دراسة قام بها مرصد الأزهر لمكافحة التطرف حول أسباب انتشار التطرف على وسائل التواصل الاجتماعي، لفَت فيها إلى الاهتمام الكبير الذي تحظى به تلك المنصات، وسرعة تلقِّيها للأحداث؛ ما يزيد شغف الشباب وتأثرهم الشديد بها، إضافة إلى ضعف خبراتهم، وسهولة إقناعهم بأفكار لها صبغة دينية، ما يدفعهم إلى الإقبال عليها.
أيضًا ساهمت منصات التواصل الاجتماعي في إلغاء بعض الحواجز، التي كانت تحد من التطرف الممارَس من الآخرين على حياتنا مثلًا؛ حيث ألغَت عائق المسافات واختلاف الدوائر والطبقات، وصار من السهل الآن أن يصل التعليق أو التهديد المتطرف المُوجَّه من منطقة شعبية نائية مثلًا، إلى حساب أي شخصية بارزة تعيش في المقلب الثاني من المحافظة ذاتها؛ ما يوسع محيط دائرة التطرف، ويغيِّر من جغرافيتها وأهدافها. فأصبح التهديد الآن مقتصرًا أحيانًا على بث الكراهية، عبْر التعليقات والرسائل المحرضة، أو التي تحمل إهانة للشخص ذاته، سواء حملت مغزًى دينيًّا، أو رسَّخَت قيمًا في مجتمع ما، مثل مهاجمة غير المحجبات على سبيل المثال.
واحد أنه من أحد المؤثرات الأساسية في انتشار التطرف وزيادة حدَّتِه على منصات السوشيل ميديا، هو وجود حالة ملحوظة من الفوضى في الخطاب الديني، وامتهان أشخاص غير مؤهلين/ات، وبث أفكار وتفسيرات متطرفة لنصوص الدين، يتأثر بها الشباب والمراهقون خاصة؛ ما يُطور الأمر نحو تشكيل جماعات أو مجموعات غير منظمة، تقوم بـ "غزوات" إلكترونية تهاجم من هو مختلف معها، دون إعمال العقل أو التفكير، مرددة بلا وعي ما تأثرت به من قِبَل أصحاب الأفكار المتطرفة، بدعوى الحفاظ على الدين والمجتمع من الأفكار المستحدثة من الغرب، والهدف منها هو تدمير المجتمع والحرب على الإسلام -على حد قولهم-.
تلك الغزوات الإلكترونية لها سمات مختلفة عن الهجمات الإرهابية التي شهدتها مصر في أواخر الثمانينيات. ففي مطالعة سريعة لِمَا حدث للمفكر "نصر حامد أبو زيد"، نجد أن كتاباته أثارت ضجة إعلامية في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، حيث قام بعضهم باتهامه بالإلحاد ونادى بإقامة حد الردة عليه. ونظرًا إلى عدم توافر وسائل قانونية في مصر للمقاضاة بتهمة الارتداد، جرى استغلال قانون الأحوال الشخصية في مصر للانتقام منه نظير أفكاره، وهو قانون "الحسبة"، فطلبوا على أساسه من المحكمة التفريق بين المفكر نصر حامد أبو زيد وزوجته. استجابت المحكمة وحكمت بالتفريق بينهما قسرًا، على أساس: "أنه لا يجوز للمرأة المسلمة الزواج من غير المسلم".
ظروف تلك الحادثة هي ما نعيشه اليوم كوصاية مجتمعية غير مبررة. إلا أنه -مع غياب اللجوء إلى القضاء- حانت لكلٍّ من مستخدمي السوشيل ميديا الفرصة ليصبح شيخًا أو قاضيًا حاكمًا على مصير الآخرين. أيضًا تحكمت تلك الهجمات في المعلومات المطروحة على تلك المنصات، مثل: الصور الشخصية، أو تعليقات الإعجاب، أو مجموعة آراء متفقة في أمرٍ ما، حيث تُتَّخذ دليلًا للحكم على أحدهم، أو لتقرير مصيره المحتوم.
نعم، خلَقت لنا السوشيل ميديا نوعًا من التطرف جديدًا، وهو اعتقاد كامن في داخل الكثير والكثيرات، أوجدت له السوشيل ميديا منبرًا. أيضًا وفرت تلك الشاشة الإلكترونية مساحة أمان لممارسة التطرف، والشعور بلذة الانتصار، دون مغادرة غرفة معيشتنا. فاستُخدمَت أفظع الشتائم، وهُتكت مساحة الآخر، وعلَت أصوات الانتصار للدين، وهو -برأيي- النوع الجديد من "الجهاد".
جهد جماعي ومنسق مطلوب هنا من أجل تعزيز فهم معتدل للدين، ولحسن استعمال وسائل التواصل الاجتماعي على نحو لا يساهم في فرض الآراء الخاصة، والدينية منها، على الآخرين في شكل من أشكال الوصاية التي تأتي مرات على شكل مجتمعي وأحيانًا على شكل ذكوري أو أبوي، ودائمًا باسم الدين والحرص عليه.
(تعدديّة)