موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
المجيء Adventus: كلمة لها أصول غير مسيحيّة، دينيّة ومدنيّة. من الناحية الدينيّة كانت تعني اليوم المحدّد لمجيء الآلهة السنويّ في المعبّد المخصّص لها. وفي المعنى المدني كانت تعني الزيارة الرسميّة التي تقوم بها شخصيّة هامّة بعد تسلّمها مهامها ("مجيء نيرون" كتابة وُجدَت على قطعة نقديّة في قورنتس).
هو فاتحة الأزمنة الليتورجيّة، ومن الأزمنة الكبرى، ويرتبط بالميلاد، ويهدف إلى إعداد المؤمنين للاحتفال بسرّ التجسّد في عيد الميلاد، وذلك من خلال صلوات وقراءات وترانيم خاصة مميّزة، وخاصّة في القسم الثاني منه أي التساعيّة. وقد أعاد المجمع الفاتيكاني الثاني ترتيب هذا الزمن وأكّد على معناه اللاهوتي التقليدي: مجيء المسيح في الزمن وعودة المسيح في المجد في آخر الأزمنة. وأثرى هذا الزمن بقراءات للآحاد والأيام العاديّة تتحدث عن لاهوت هذا الزمن.
يتناول هذا الزمن ثلاثة وجوه من سرّ المسيح، الّذي أتى ويأتي وسيأتي:
1- الوجه التاريخي: انتظار الأجيال لمجيء المسيح في العهد القديم من خلال الأنبياء والمعمدان والعذراء مريم. أتى بالجسد وبالضعف والوداعة. والتاريخ هنا هو الحيّز الّذي يتحقّق فيه التدبير الخلاصي الإلهي للإنسان.
2- الوجه السرّي أو الحاضر: لا يزال يأتي كلّ يوم، وفي هذا الزمن نوقظ الشوق إلى مجيء المسيح. يأتي بالروح والقدرة. المجيء الثاني هو الواسطة التي من خلالها ننتقل من المجيء الأول إلى الثالث (القديس برناردس) ويقع بين زمن ما تمّ وزمن ما لم يتمّ بعد، فزمَن المجيء حدث ليتورجي، أي يجعل الماضي والمستقبل حاضرَين اليوم بشكل من الأشكال، وذلك من خلال الاحتفال الافخارستي بشكل خاصّ. وهذا معنى المجيء السرّي، أي من خلال الأسرار.
3- الوجه المستقبلي، أو الأُخروي (الاسكاتولوجي): عودة المسيح الثانية ليدين الأحياء والأموات. سيأتي بالمجد والقوّة.
إذًا زمن المجيء هو زمن الذكرى (التحضير)، وزمن الحضور (حيث تصبح الذكرى حضورًا إلهيًّا في عالم الإنسان)، وزمن النبوّة (أي السير نحو الاكتمال الأخير لسرّ المسيح)، هكذا يجمع الماضي والحاضر والمستقبل في السيد المسيح.
المجيء هو زمن انتظار، زمن توبة، وزمن رجاء وأمل
1) انتظار-تذكاريّ للمجيء الأوّل للكلمة المتجسّدة. مجيء متواضع للمخلّص في جسدنا البشري الفاني، ولكنه أيضًا انتظار-مُتضرِّع للمجيء الأخير، مجيء المسيح في مجده، كسيد للتاريخ وديّان للعالم.
2) زمن توبة واهتداء، وليتورجيا هذا الزمن تدعونا جميعًا إلى هذه التوبة بصوت الأنبياء وخاصّة بصوت يوحنا المعمدان: "توبوا، قد اقتَربَ ملكوتُ السماوات" (متى ٣: ٢).
3) زمن رجاء وأمل مُغلّف بالفرح، إذ قد أتمّ الرّب الخلاص، كما يُعبّر عن ذلك مار بولس: "إنّنا نِلنا الخلاص، ولكن في الرجاء..." (روما 8: 24). وأنّ النِعَم التي حصلنا عليها في هذا العالم ستبلغ تمامها وكمالها، وأنّ الوعد سيتحوّل شيئًا فشيئًا إلى واقع أبدي، والإيمان إلى المشاهدَة، وأنّنا سنُصبحُ "عند هذا الكشف أشباهه لأنّنا نراه كما هو" (1 يوحنا 3: 2).
إذا هو زمن تحضير وتهيئة وتأمّل، أمل واستباق. فمجيء المخلِّص ابن الله يُحتَفَل به بنفس الطرق الثلاث التي بها نختبر الزمن البشري وهي: الماضي والحاضر والمستقبَل. فقد أتى إلينا ومِن أجلِنا لابسًا جسدَنا من خلال سرّ التجسُّد العظيم. ثمّ إنّه يأتي إلينا حا في كنيسته مِن خلال النعمة. وأخيرًا سيأتي عند نهاية الأزمنة ليديننا، الأحياء مِنّا أم الأموات.
وتُركِّز قراءات وصلوات وترانيم هذا الزمَن على الأشخاص الرئيسيّين الّذين هيّأهم واختارهم الله لكي يجعلوا مِن الممكن أن يتحقّق تجسُّد ابنه يسوع المسيح. على رأس هؤلاء مريم العذراء التي حُبِل بها بلا دنس الخطيئة الأصليّة فاختارها الله أُمًّا قبل أن تحمل فيه ابنا، ومعها خطّيبها وراعي طفلها مار يوسف البارّ. ثم يوحنا المعمدان ووالداه زكريا وأليصابات. وهنالك أنبياء العهد القديم الّذين بنبوءاتهم، التي تُقرأ أثناء هذا الزمَن، يُشيرون دائمًا إلى مجيء المسيح.
منذ الأحد الأوّل لهذا الزمن تُثير فينا ليتورجيا الساعات الإحساس بالانتظار، وبالوعد والرجاء. لذلك فإنّ المجيء هو أيضًا زمن التفكير والتأمُّل في "الأمور الأخيرة" التي ستأتينا في المستقبل، وهي: الموت، الدينونة، السماء والمطهَر وجهنم. لذلك فالوعظ والتعليم حول هذه المواضيع "الأُخرويّة" مهم جدًّا وأساسيّ في هذا الزمن.
الموعد
يمتدّ زمن المجيء على الآحاد والأسابيع الأربعة التي تسبق عيد الميلاد، ويبدأ في عيد القديس أندراوس أي في 30 تشرين ثاني إن كان يوم أحد (وإلا في الأحد الأقرب من هذا التاريخ)، ويبدأ بصلاة الغروب الأولى لأوّل أحد منه، وينتهي قبل صلاة الغروب الأولى لميلاد الرّب.
ينقسم إلى فترَتين: الفترة الأولى من بداية المجيء حتى السادس عشر من كانون الأوّل، وتركّز بشكل خاصّ على المجيء الثاني للسيد المسيح في نهاية الأزمنة. أما الفترة الثانية، فيتمّ تعدادها لا بحسب أيام الأسبوع، بل بحسب أيام الشهر، من 17-24 كانون الأوّل، وتركّز على الاستعداد للاحتفال بعيد الميلاد، ولهذه الفترة أهمّية خاصّة ولها أولويّة على تذكار القديسين، حتى لا نقطع وحدة هذا الزمَن، ما عدا عيدًا واحدًا وهو الحبل بلا دنس. وهذه الفترة تتزامن مع تساعيّة عيد الميلاد، وهذه التساعية ليست زمنًا ليتورجيًا.
التزيين والموسيقى
إنّ الرزانة والاعتدال التي يُّميّز زمن المجيء تختلف ع هي في الزمن الأربعيني. ففي حين يُمنع التزيين بالورود في الزمن الأربعيني، يُسمَح به في زمن المجيء، ولكن يجب التقيّد بروح الاعتدال عند تزيين المذبح، فيُزيَّن بما يتّفق وروح هذا الزمن، بطريقة لا تستبق الفرحة الكاملة بميلاد الربّ. لذا يكون التزيين بالورود مُختصرًا وغير مُبالغٍ فيه، ويكون متجانسًا وملائمًا للديكور الداخلي للمبنى الكنسي، وبنفس الوقت قادرًا على السير بنا نحو الاحتفال بعيد الميلاد بشكل أكثر أبّهة وجلالاً. كذلك العزف على الأورغن وباقي الآلات الموسيقيّة فيجب أن يكون باعتدال، متجنّبين استباق فرحة الميلاد الغامرة.
لون اللباس الليتورجي
ويكون البنفسجي في هذا الزمن يمكن أن يكون مختلفًا بالنقش والتزيين عن لباس الزمن الأربعيني، لتمييز هذا الزمن عن ذاك. ويبرز الاختلاف بالرموز المستخدمَة على هذه الثياب، فمثلاً يجب تجنُّب استخدام الثياب التي عليها رموز الآلام. لكنّ اللون الأساسي، أي البنفسجي، يبقى نفسه لكلا الزمَنَين. ولكنّ اللون الأزرق الغامق أو الفاتح ليس لونًا مُعتمَدًا لهذا الزمَن.
عند مدخل الكنيسة
يقوم فريق الاستقبال المخصَّص في الرعيّة (عادة من الرجال والنساء الكبار) باستقبال المؤمنين عند مدخل الكنيسة بشكل غير متطفِّل وباحترام، مقدِّمين لهم كتاب الترنيم ونشرات القراءات والصلوات، كذلك مساعدة الكبار في السنّ والمرضى لأخذ أماكنهم داخل الكنيسة.
طقوس الدخول
باهتمام بالغ تُحضّر جيّدًا طقوس الدخول. ويتمّ التركيز على تطواف الدخول، الّذي يُنظَّم جيّدًا ويسير بشكل هادئ وسلِس. أمّا أهمّ الرموز التي تُرفَع أثناء التطواف فهي صليب الدورات وكتاب الإنجيل أمام الكاهن المحتفِل والتي ترمز إلى مجيء الله إلى وسط شعبه. ويمكن استخدام التحيّة التالية للشعب في بداية القدّاس والخاصّة بالمجيء: "نِعْمَةُ رَبنَّا يَسُوعَ المسَيحِ، الآتي عَلى عَجَلٍ لأجل خلاصنا، معكم جميعًا".
الشروحات والتعليقات
في الاحتفال الافخارستيّ: مِن المناسب جدًّا، مِن أجل إدخال المؤمنين في أجواء هذا الزمن المقدّس، إلقاء تعليق ليتورجي في بداية القداس، تُشرَح فيه معاني هذا الزمن اللاهوتيّة والليتورجيّة، كذلك فيما يخصّ هذا الزمن من حركات ليتورجيّة وتهيئة المكان الليتورجي والترنيم. اليوم، ومع الأحد الأوّل من المجيء، تبدأ سنة ليتورجيّة جديدة. فنحن مدعوّون إلى انتظار مجيء الرّب "ساهرين في الصلاة وعاملين في المحبة الأخويّة"، فلنستقبل بالترنيم تطواف الدخول.
مورانتا
أجمَل وأقدَم صلاة لهذا الزمَن والتي تعود جذورها إلى القرن الرابع في أورشليم هي الـ"مورانتا" أو "موران إثو" وهي تعبير آرامي، أوّل ما ذُكر في سفر الرؤيا (22: 20)، وتختتم هذا السفر لا بل تختم العهد الجديد وكلّ الكتاب المقدّس.
وقد ذكره مار بولس كما هو ولكن بلفظ يوناني (1 قور 16: 22)، ويمكن أن تعني أمرَين:
1- "تعالَ يا ربّ" مورانا تا (وتعني الحاضر والمستقبل).
2- "الرّبّ أتى" موران إِتو (وتعني الماضي).
إذًا، وبعبقريّة، جعل القديس بولس الكلمتَين في كلمة واحدة في اليونانيّة مع المحافظة على اللفظ الآرامي Μαραναθα لكي تُعطي هذين المعنَين معًا، أي الماضي-الحاضر والمستقبل.
إكليل المجيء
في بعض الأماكن يُستَخدَم إكليل من الأغصان الخضراء يُدعى بـ"إكليل المجيء" Advent wreath ويوضَع بالقرب من المذبح أو المقرأ، تُوَضَع في داخله أربع شمعات، حيث تُضاء شمعة لكلّ أحد من الآحاد الأربعة، ثلاث منها باللون البنفسجي وواحدة باللون الزهري وهي للأحد الثالث المدعوّ بأحد البهجة Gaudete. ولكن هذا الإكليل وشمعاته لا يحلّ مكان شمعات المذبح في ليتورجيا القداس الإلهي، وبما أنّه تقليد غير رسميّ وعُرفٌ اختياريّ، فلا يوجد أي طقس رسمي لإضاءة هذه الشموع. ولكن يمكن تلاوة بركة خاصّة لهذا الإكليل في أوّل أحد لزمن المجيء أمام الجماعة المؤمنة.
يرمز الشكل الدائري لهذا الإكليل إلى انتظار عودة الربّ؛ والأغصان الخضراء فتوحي بالرجاء والحياة التي لا تذبُل. وترمز الشمعات الأربعة إلى الوجوه الأربعة للانتظار المسيحانيّ وهي الأنبياء، بيت لحم، الرعاة والملائكة. أمّا إضاءة هذه الشمعات بشكل متتابع في كلّ أحد حتى بلوغ ليلة الميلاد فيذكِّرنا بالمراحل المختلفة من تاريخ الخلاص التي سبقَت مجيء المسيح وتشير إلى نور النبوّة التي شيئًا فشيئًا أنارَت عتمة ليل الانتظار حتى بزوغ شمس العدل.