موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
جميع البشر في كلّ الأوقات والأزمنة يريدون الحياة الأبدية. يقول لنا الربّ – "ويدي سند لك. كيفما سقطتَ، تسقط بين يديّ وسأكون بانتظارك على باب الموت. حيث لا يستطيع أحد أن يرافقك، ولا يمكنك أن تأخذ معك شيئًا، هناك سأنتظرك لأحوّل ظلمتك الى نور".
وهنا أتساءل أما يزال الإيمان المسيحي في عالم اليوم مصدر رجاء يُنير حياتنا ويقود خطانا المُتعثّرة حينًا والتائهة أحيانًا أخرى؟ وأكثر من ذلك: "هل يطمح البشر في عصر العولمة المادي إلى الحياة الأبدية؟ أم أن شهوة المادة ولمعانها المزيّف أعمى البصيرة وأعمى البصر... وبات الوجود الأرضي هدفنا الوحيد الأوحد؟ ناسين أو متناسين كلمات السيّد المسيح "ماذا ينفع الانسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه!
تُحيي الكنيسة الكاثوليكية في الثاني من شهر تشرين الثاني تذكارًا لجميع الموتى المؤمنين المتألمين في المَطهَر. وهو اليوم الذي نتذكّر فيه جميع الأقارب والأحبّاء والأصدقاء الذين رحلوا عنّا وعن هذا العالم. كما ونُعيد فيه ذكرى الشهداء والقدّيسين بالإضافة الى كلّ إنسان صالح انتقل من عالمنا إلى العالم الآخر. وفي هذا اليوم تُتلى صلوات خاصة عن راحة نفوس المؤمنين بما أنّ لا شيء يفصلنا عن محبة أعزّائنا، لا الموت ولا الحياة، وبما أنّ الموت هو للجسد لا للروح، بإمكاننا أن نصلّي عن أرواح موتانا، ويصلّي الأولياء المتوفّون. وفي يوم تذكار الموتى يتوجّه المؤمنون إلى المدافن ويرفعون صلوات خاصة لراحة أنفس المتوفّين المعروفين والمجهولين.
لإرواء عطش الأنفس المطهرية المعذّبة وخلاصها، تحتفل الكنيسة الأرمنيّة الكاثوليكية وشقيقتها الأرثوذكسية، بتذكار الموتى وبزيارة المدافن خمس مرّات على مدار السنة وذلك على النحو التالي: ثاني يوم عيد الغطاس، وثاني يوم عيد الفصح المجيد، وثاني يوم عيد التجلّي، وثاني يوم عيد انتقال العذراء إلى السماء، وثاني يوم عيد الصليب الكريم المحيي. ولكن هذا لا يعني حصر صلواتنا وتذكاراتنا وزياراتنا في إطار تلك التواريخ، بل بإمكاننا أن نرفع صلواتنا كلّ يوم ونقوم بالتضحيات ونمارس الأصوام ونشترك بذبيحة القداس ونقدّم الحسنات رحمة بتلك النفوس المتألّمة. وتصرخ إلينا النفوس المطهرية بأن نرحمها بشتّى الوسائل الممكنة.
لقد أتحفنا السيّد المسيح بقيامته المجيدة ليحرّرنا ويفكّ أغلال عبوديَّة الخطيئة. لقد غيّر السيّد المسيح مفهوم الموت فبات عبورًا إلى الخلود لا موتًا أبديًا. فنحن عابرو سبيل في هذه الحياة الدنيا. والاعتقاد أنّ في الموت "النهاية" اعتقاد خاطىء. أو أنّ الموت هو التلاشي والهوّة السحيقة التي تبتلع كلُّ الأحلام والرغبات والعواطف. وكأنّنا نعيش في أفق بدايته "الحياة" ونهايته "السراب" الذي يحمل في طيّاته الظلام الأبديّ. لكن مفهوم الموت لدى الانسان المؤمن هو "بداية حياتنا الأبدية" وليس "النهاية". لذلك كان القدّيس فرنسيس الأسيزي يدعو الموت "أخي"، لأنّه يقوده إلى الاتّحاد بالسيد المسيح. فمَن كان السيّد المسيح بداية حياته ونهايتها لن يخاف الموت أبدًا. فلنؤمن بشدّة برجاء "القيامة بعد الموت"، ونعيش حياة صالحة، عندها تنتصر الحياة الأبدية وينهزم الموت.
الموت لا بدّ منه فهو يلحق بنا أجمعين من جراء الخطيئة التي أصابتنا جميعًا. "إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون" (لوقا 13: 5-1). ورجاؤنا في القيامة. ومن أقوال القدّيس بولس (الإناء المختار) المأثورة: "لا تحزنوا كسائر الناس الذين لا رجاء لهم" (تسالونقي 4: 13). نسأل الربّ القدير الرحيم في كلّ حين أن يقوّي ويُوطّد إيماننا ورجاءنا بالحياة الأبدية، وأن يتغاضى عن ضعفنا ويقبل تضرّعاتنا التي نرفعها والدمع جارٍ في قلوبنا وعيوننا لراحة أنفس أحبّاءنا وجميع اخوتنا الموتى.
خاتمة
ويطيب لي أن أردّد كلمات الفيلسوف والأديب جبران خليل جبران الذي لم يَفُتهُ خلود الروح وصلة الأرواح الوثيقة ببعضها بعد انحلال الجسد، وفي كلماته تلميحًا بأنّ ذِكر الانسان يبقى حيًّا ويتجسّد في أعماله الصالحة وانجازاته الفكريّة والفنّية والأدبيّة والعلميّة وغيرها. ويوجِز جبران حكمته في هذه العبارات المؤثّرة: "أنا حيّ مثلكم، وأنا الآن إلى جانبكم أغمضوا عيونكم وانظروا حولكم سترَونَني".