موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
بمناسبة خميس الأسرار ترأس الكاردينال ماورو غامبيتي عصر اليوم قداس عشاء الرب في بازيليك القديس بطرس وللمناسبة ألقى عظة قال فيها في تلك الأَيّام: كَلَّمَ الرَّبُّ موسى وهارونَ في أَرضِ مِصرَ... إن أول فصح يهودي تمَّ في مصر، في سياقٍ من العبودية والاضطهاد والألم. وبفضل دم الحمل الذي جُعل على قوائم الأبواب، مُنع الموت من دخول البيت الذي يُؤكل فيه العشاء معًا. ويقول الرب: "فَأَرى الدَّمَ وَأَعبُرُ عَنكُم"، والكلمة المستخدمة (پَسَح)، التي اشتُقّت منها لفظة "فصح"، يمكن ترجمتها أيضًا إلى "العبور"، أو "الحماية": فالله يرقص أمام البيوت لكي يحمي "العناويم" – أي المتواضعين والفقراء الذين يضعون ثقتهم فيه – بينما يعبر الموت عنهم.
تابع: حتى الفصح الحقيقي والنهائي، الذي احتفل به يسوع، قد تمَّ أيضًا في سياقٍ من التجربة: ظلم، اضطهاد، افتراء، مرض، عنف، خوف، ووحدة… ومع ذلك، كان يسوع يتوق بشدة إلى أن يُغذّي حميمية وألفة العائلة، ودفء الصداقة في العلية، وأخوّة الجماعة الكنسية. كان يشتهي أن يأكل مع خاصته، وأن يقيم الفصح معهم. وكانت الجماعة التي شاركته العشاء فسيفساء من البشر: مندفعون وعاطفيون، تأمليون وعميقون، طامحون ومتهورون، صادقون ومتواضعون. يجلسون جميعًا إلى المائدة معه. أغلبهم عطاش إلى المجد؛ جميعهم ضعفاء، يُجيدون إخفاء هشاشتهم. ويؤثر فيّ بعمق تصميم يسوع على أن يشارك الخبز والخمر مع جميع الذين أعطاه الآب إياهم. كم هو إنساني هذا المشهد! وأفكر كم من الفرص قد ضيّعت، أنا، لكي أكون إنسانًا بهذه الصورة وسط أتعاب الحياة، بينما كنت مشغولًا بالبحث عن حلول أو طرق للهروب.
أضاف: واليوم أيضًا نحن نمرّ بتجربة قاسية. وهناك بيننا أيضًا ذاك الـ "يهوذا"، الذي كان يسرق من الصندوق، وسيرضى أن يبيع المعلّم من أجل مكسب مادي أو من أجل السلطة. إنَّ العالم ينتزع منّا ما في "الصندوق": قيمنا، ذكاءنا، ضمائرنا، ومحبّتنا الإنسانية. لقد أصبحنا جميعًا سلعة معروضة للبيع، يُقاس ثمننا بمنطق الربح والخسارة، لأجل مكاسب مادية أو من أجل السلطة. لم يعد هناك اهتمام بالعلاقات – سواء كانت عائلية، أو صداقات، أو مهنية، أو مؤسساتية – ولم يعد هناك شفقة تجاه المهمشين، والمهاجرين، والبيئة. إنَّ العالم يخوننا، لا بل يسلّمنا ويبيعنا لكي يستفيد منّا، كما فعل يهوذا مع يسوع؛ وكما نفعل نحن حين نسعى في الدين أو من خلال الدين وراء شكل من أشكال المجد، أو المصلحة المادية، أو السلطة: فنبيع إيماننا.
تابع: إنَّ الحروب ليست سوى النتيجة الحتمية لهذا التدهور، وهذه التراكمات من الصراعات والشرور التي في العالم. وكم من الأبرياء يُصلبون بسبب هذا كلِّه! وعائلاتنا وجماعاتنا تشبه كثيرًا جماعة التلاميذ، لا سيما في ضعفها، وانخفاض تقديرها لذاتها، وفي غضبها؛ لكنها تشبههم أيضًا في عطشها إلى الحريّة، والعدالة، والسلام. واليوم أيضًا ما زال يسوع يحب. فهو لا يسعى إلى الانتصار، ولا يطلب التصفيق، ولا يرغب في الغنى. ما يهمّه واحد فقط وهو الحب. وهذا هو الكهنوت الحقيقي الوحيد. يغسل الأقدام. يغسل قدميّ. يغسل قدميك. يعيش ديناميكية القرب المتبادل، وحركة العطاء والتلقي، قوة الخدمة، وعجز القَبول.
أضاف: إنَّ قلب يسوع هو قلب كهنوتي، متّحد بالفقر البشري كما هو متّحد بالعظمة الإلهية، ويهب حياته من أجل جميع خراف القطيع. وبالتالي نحن الذين نلنا سرّ الكهنوت، مدعوّون بشكل خاص لكي نشارك في هذا المقياس الشامل للمحبّة. ويطيب لي أن أتذكّر شهادة الأب جوزيبي برارديللي، كاهن مُسن من برغامو، والذي خلال جائحة فيروس الكورونا، حينما شحّت الوسائل الطبية، مات بعدما تنازل عن جهاز التنفّس لكي يُعطى لشخص آخر. لقد قدّم نفسه لكي يحيا الشعب.
وخلص الكاردينال ماورو غامبيتي عظته بالقول: أعتقد أن هذه اللحظة هي لحظة مفصليّة للكنيسة لكي تنفتح على زمنٍ جديد، زمن تُظهِر فيه حقيقتها كشعب كهنوتي. وهذه الحداثة تمرّ من خلال الإفخارستيا، من خلال أن نصبح نحن أنفسنا إفخارستيا، وأن نفعل كما فعل يسوع، ونُظهر الإنسانية الإلهية التي منحتنا إياها المعمودية. فلنطلب ذلك قائلين: أيها الرب يسوع، أنت تنزل كل يوم من حضن الآب إلى يدي الكاهن؛ وهكذا، في الخبز والخمر المُكرّسين، تُظهر لنا، في هيئةٍ متواضعة، جسدك الأقدس ودمك الكريم، حيًّا وحقيقيًّا، يُعطى لخلاص الجميع. شكرًا، لأنك هكذا تكون معنا دائمًا، حتى انقضاء الدهر. شكرًا، يا يسوع، على عطيّة الإفخارستيا! اجعلنا نحن أيضًا إفخارستيا!