موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ١٧ ابريل / نيسان ٢٠٢٥
البابا في قداس الميرون: عندما نسمح ليسوع أن يُعلّمنا، تصبح خدمتنا خدمة رجاء

فاتيكان نيوز :

 

مكلفًا من البابا فرنسيس، ترأس الكاردينال دومينيكو كالكانيو، الرئيس الفخري لإدارة ممتلكات الكرسي الرسولي، صباح اليوم الخميس، في بازيليك القديس بطرس بالفاتيكان، قداس الميرون في يوم خميس الأسرار، بارك فيه زيت العماد وزيت المرضى وكرّس زيت الميرون.

 

وخلال الذبيحة الإلهية قرأ الكاردينال كالكانيو نص العظة الذي كان الأب الأقدس قد أعدّه لهذه المناسبة وجاء فيه: إن "الألف والياء، الذي هو كائن وكان وسيأتي، وهو القدير" هو يسوع. هو بعينه ذاك الذي يصفه لنا القديس لوقا في مجمع الناصرة، بين الذين يعرفونه منذ الطفولة والذين اندهشوا الآن من أمره. إن الوحي – "الرؤيا" – يُمنح ضمن حدود الزمان والمكان، حيث يصبح الجسد المحور الذي يرتكز عليه الرجاء. جسد يسوع وجسدنا. والسفر الأخير في الكتاب المقدس يخبر عن هذا الرجاء، بأسلوب فريد، إذ يبدّد كل المخاوف النهيويّة تحت شمس المحبة المصلوبة. ففي يسوع يُفتح كتاب التاريخ، ويُصبح قابلاً للقراءة.

 

تابع: نحن الكهنة أيضًا لدينا تاريخ، وعندما نجدد في خميس الأسرار وعود كهنوتنا، فإنما نُقرّ بأننا لا نستطيع قراءة هذا التاريخ إلا في نور يسوع الناصري. إنّ "ذاك الذي أحبنا فحلَّنا من خطايانا بدمه" هو الذي يفتح أيضاً سفر حياتنا، ويُعلّمنا أن نكتشف فيه الخطوات التي تكشف معناها ورسالتها. وعندما نسمح له أن يُعلّمنا، تصبح خدمتنا خدمة رجاء، لأن الله يفتح في كل قصة من قصصنا يوبيلًا، أي زمن وواحة نعمة. فلنسأل أنفسنا: هل أتعلم أن أقرأ حياتي؟ أم أنني أخاف من قراءتها؟

 

أضاف: إنّه شعب بأسره يجد راحته عندما يبدأ اليوبيل في حياتنا: لا مرة كل خمس وعشرين سنة –نرجو ذلك!– بل في ذلك القرب اليومي الذي يعيشه الكاهن مع شعبه، الذي تتحقق فيه نبوءات العدل والسلام. "وجعل منا مملكة من الكهنة لإلهه وأبيه": هذا هو شعب الله. ومملكة الكهنة هذه لا تنحصر في الإكليروس. إن الـ "نحن" التي يصوغها يسوع هي شعب لا نرى حدوده، شعب تنهار فيه الجدران والحواجز. فالذي يقول: "هاءنذا أجعل كل شيء جديدًا" قد شقّ حجاب الهيكل، ويُعدّ للبشرية مدينةً-جنة، أورشليم الجديدة، التي أبوابها لا تُغلق أبدًا. وهكذا، يعلّمنا يسوع أن نقرأ كهنوت الخدمة كخدمة خالصة لشعب كهنوتي، سيسكن عما قريب مدينة لا تحتاج إلى هيكل.

تابع: إنّ السنة اليوبيلية، بالنسبة إلينا نحن الكهنة، هي دعوة خاصة لكي نبدأ من جديد تحت شعار التوبة. حجّاج رجاء، لكي نخرج من الإكليروسيّة، لنصبح مبشّري رجاء. وبالطبع، إذا كان يسوع هو الألف والياء لحياتنا، فنحن أيضاً سنلاقي الرفض، الذي اختبره في الناصرة. إن الراعي الذي يحب شعبه لا يسعى إلى رضا الناس ولا إلى التصفيق بأي ثمن. ولكن، محبة الأمانة تحوّل القلوب: ويعترف بذلك الفقراء أولًا، ولكنّها تُقلق وتجذب الآخرين أيضًا. "هاهوذا…ستراه كل عين حتى الذين طعنوه، وتنتحب عليه جميع قبائل الأرض. أجل، آمين".

 

أضاف: يقول ها نحن هنا مجتمعون، أيها الأعزاء، لكي نتبنى ونجدّد هذا الـ "أجل، آمين!" إنه اعتراف إيمان شعب الله: "نعم، هو كذلك، صخرة لا تتزعزع!" إن آلام يسوع وموته وقيامته، التي نحن على وشك أن نعيشها مجدّدًا، هي الأرض الصلبة التي تستند إليها الكنيسة، وفيها خدمتنا الكهنوتية. ولكن، أيّ أرض هي هذه؟ ما هو التُّراب الذي لا يجعلنا فقط نقف، بل نُزهر أيضًا؟ لكي نفهم ذلك، علينا أن نعود إلى الناصرة، كما أدرك ببصيرة عميقة القديس شارل دو فوكو.

تابع: "وأتى الناصرة حيث نشأ، ودخل الـمجمع يوم السبت على عادته، وقام ليقرأ". نحن أمام إشارتين إلى عادتين متأصلتين: عادة ارتياد المجمع، وعادة القراءة. إن حياتنا تستند إلى عادات صالحة، قد تذبل أحيانًا، لكنها تكشف عن موضع قلوبنا. وقلب يسوع، هو قلب مولع بكلمة الله؛ لقد تجلّى ذلك منذ كان ابن اثنتي عشرة سنة، وها هو اليوم، وقد أصبح بالغًا، هو يرى في الكتاب المقدس بيته الحقيقي. هذه هي الأرض، التُراب الحيوي الذي نجده حين نصبح تلاميذه. "فدفع إليه سفر النبي أشعيا، ففتح السفر فوجد الـمكان المكتوب فيه". يسوع يعرف ما الذي يبحث عنه. والطقوس المتّبعة في المجمع كانت تتيح لكل معلّم، بعد قراءة التوراة، أن يختار مقطعًا من الأنبياء ليُفسّر معناه في الحاضر. ولكن في هذا الحدث، هناك ما هو أعظم: إنها الصفحة التي تختصر حياته بأسرها. ولوقا يشير إلى هذا المعنى: بين العديد من النبوءات، يختار يسوع تلك التي يريد أن يُتمّمها. أيها الكهنة الأعزاء، لكلٍّ منا كلمة هو مدعوّ لكي يحققها. لكلٍّ منا علاقة قديمة مع كلمة الله، لا تثمر إلا عندما يكون الكتاب المقدس هو بيتنا الأول. وفي داخله لكلٍّ منّا صفحات عزيزة على قلبه. وهذا أمر جميل ومهم! لنساعد الآخرين أيضًا لكي يكتشفوا صفحات حياتهم: كالزوجين عندما يختاران القراءات ليوم زواجهما؛ أو من هو في حداد، ويبحث عن مقاطع يسلّم من خلالها راحلَه لرحمة الله وصلاة الجماعة. هناك صفحة للدعوة، غالبًا في بدايات مسيرة كلّ واحد منا. من خلالها يدعونا الله مجدّدًا وإذا حفظناها في قلوبنا، فستبقى وسيلة دعوة مستمرة من الله، لكي لا يبرد الحب.

 

أضاف: ولكن، هناك صفحة أخرى مهمة لنا جميعًا، وبشكل خاص: الصفحة التي اختارها يسوع. نحن نتبعه، ولذلك هي تطالنا ورسالته تُشركنا: "فَفَتَحَ السِّفْرَ فوَجدَ الـمَكانَ المكتوبَ فيه: "رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لِأَنَّهُ مَسَحَني لِأُبَشِّرَ الفُقَراء وأَرسَلَني لأُعلِنَ لِلمَأسورينَ تَخلِيَةَ سَبيلِهم ولِلعُميانِ عَودَةَ البصَرِ إِلَيهِم وأُفَرِّجَ عنِ الـمَظلومين وأُعلِنَ سَنَةَ رِضاً عِندَ الرَّبّ". ثُمَ طَوَى السِّفرَ فَأَعادَه إِلى الخادِمِ وجَلَسَ". إن عيوننا كلها الآن شاخصة إليه. لقد أعلن يوبيلًا، لا كمَن ينقل خبراً عن آخر، بل قال: "روح الرب عليّ"، وهو يعلم أي روح ذاك الذي يتحدث عنه. ويضيف: "اليوم تَمَّت هذه الآيةُ بِمَسمَعٍ مِنكُم". إنه أمر إلهيّ: أن تتحوّل الكلمة إلى واقع. أن تتكلم الأفعال، وأن تتحقق الكلمات. إنه أمر جديد وقوي! "هاءنذا أجعل كل شيء جديدًا" لا توجد نعمة، ولا يوجد مسيح، إذا بقيت الوعود حبراً على ورق، وإذا لم تصبح هنا على الأرض واقعاً ملموسًا. كلّ شيء يتبدّل. هذا هو الروح الذي نطلبه على كهنوتنا. نحن قد مُسحنا به، وروح يسوع يبقى الفاعل الصامت في خدمتنا. إنّ الشعب يشعر بلفح أنفاسه، عندما تتحوّل فينا الكلمات إلى واقع.

تابع: إنّ الفقراء قبل سواهم، والأطفال والمراهقون، والنساء، بل حتى المجروحين في علاقتهم مع الكنيسة، يملكون حاسة باطنية تُميّز روح الله عن الأرواح الزائفة. إنهم يعرفونه حين يرون فينا تطابقًا بين الإعلان والحياة. يمكننا نحن أيضًا أن نصبح نبوءة مُتمَّمَة، وهذا أمر جميل! إن زيت الميرون المقدّس، الذي نكرّسه اليوم، هو ختم هذا السرّ التحويلي في مختلف مراحل الحياة المسيحية. ولكن، انتبهوا: لا تستسلموا أبدًا لليأس، لأن العمل هو عمل الله. علينا أن نؤمن، نعم! علينا أن نؤمن أنَّ الله لا يُخفق معي! إنَّ الله لا يُخفق أبدًا. فلنتذكّر الكلمة التي قيلت لنا في سيامتنا: "ليُكمّل الله العمل الذي بدأه فيك"؛ وهو بالفعل يُتمّه. إنه عمل الله وليس عملنا: أن يحمل للفقراء رسالة فرحة، أن يحمل لِلمَأسورينَ تَخلِيَةَ سَبيلِهم، أن يعيد البصر للعميان، وأن يُحرّر المظلومين. فإن كان يسوع قد وجد في السِفر هذا المقطع، فهو لا يزال اليوم يقرؤه في سيرة حياة كل واحدٍ منّا. أولًا، لأنّه حتى آخر يومٍ في عمرنا، يبقى هو المبادر إلى تبشيرنا، وفكّ أغلالنا، وفتح أعيننا، ورفع الأثقال عن كواهلنا. ومن ثمَّ، إذ يدعونا إلى رسالته، ويُدرجنا بشكل أسراري في حياته، يُصبح هو المحرِّر للآخرين من خلالنا. وغالبًا، بدون أن نتنبّه لذلك. فيتحوّل كهنوتنا إلى خدمة يوبيلية، كهنوتٍ يُشبه كهنوته، بدون أن يُنفخ في القرن ولا في البوق في تكرُّس متواضع، جذري ومجاني. إنه ملكوت الله، ذاك الذي تُخبر عنه الأمثال: فعّال وخفي كالخميرة، وصامت كالبذرة. كم من مرّة تعرّف الصغار على حضوره فينا؟ وهل نحن قادرين على أن نقول "شكرًا"؟

 

أضاف: إنَّ الله وحده يعلم كم أن الحصاد وفير. نحن العمّال نعيش تعب الحصاد، وفرحه. نحن نعيش بَعدَ المسيح، في الزمن المسيحاني، حيث لا مكان لليأس، بل للتعويض، والإعفاء من الديون، والتوزيع العادل للمسؤوليات والموارد. هذا ما يتوق إليه شعب الله، هو يطلب أن يُشارِك، لأنه في عمقه، ومن خلال المعمودية، شعبٌ كهنوتيٌّ عظيم. والزيوت التي نكرّسها اليوم في هذا الاحتفال المهيب، هي من أجل تعزيته، ومن أجل الفرح المسيحاني. الحقل هو العالم. بيتنا المشترك – المُثخن بالجراح – والأخوّة الإنسانية، التي يُنكَر وجودها ولكنها لا تُمحى، يدعواننا إلى اتخاذ مواقف حازمة. إنّ حصاد الله مُعدٌّ للجميع: إنّه حقل حيّ، يثمر مئة ضعف عمّا زُرع فيه. ليُحرِّكنا، في الرسالة، فرح الملكوت، الذي يعوّض كل تعب. إنّ كلّ فلاحٍ، في الواقع، يعرف مواسم لا يرى فيها زرعًا يخرج من الأرض، وهكذا هي حياتنا أيضًا، لا تخلو من المواسم الجدباء. ولكن الله هو الذي يُنبت، وهو الذي يَمسح عبيده بزيت الابتهاج.

وخلص الكاردينال دومينيكو كالكانيو إلى القول: أيها المؤمنون الأعزاء، شعب الرجاء، صلّوا اليوم من أجل فرح الكهنة. وليأتِ إليكم أنتم أيضًا ذلك التحرير الذي وعد به الكتاب المقدّس، والذي تُغذّيه الأسرار المقدسة. هناك، مخاوف كثيرة تسكننا، وتحيط بنا أشكال ظلم هائلة، لكنّ عالمًا جديدًا قد بدأ بالولادة. إنَّ الله أحب العالم حتى إنه جاد بابنه يسوع. هو الذي يَمسح جراحنا، ويجفف دموعنا. "هاهوذا آتٍ في الغمام". له الملك والمجد إلى أبد الآبدين. آمين.