موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
ترأس الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا، بطريرك القدس للاتين، القداس الإلهي أمام قبر الخلاص في كنيسة القيامة بمدينة القدس، بمناسبة خميس الأسرار، بمشاركة لفيف من كهنة الأرض المقدّسة. وخلاله تم مباركة الزيوت المقدّسة وجُدّدت مواعيد الكهنوت.
وفيما يلي النص الكامل لعظة غبطته:
أيُّها الإخوة والأخوات الأحبّاء،
السادة الأساقفة والكهنة والإكليريكيّون، الرهبان والراهبات، المؤمنون والحجّاج،
ليكن سلام الرب معكم!
إنّ الذكرى السنوية لفصح المسيح تجمعنا اليوم في هذا المكان بالتحديد، في المكان الذي جرى فيه هذا السرّ العظيم. ففي أسرار خميس الأسرار التي نحتفل بها، يتجلّى لنا الفصح كما لو أنّه قد استُبِق واختصر في لحظة واحدة. هنا، في هذا الموضع المقدّس، يُكشَف لنا عن الرغبة الدفينة في قلب يسوع، والنيّة التي وجّهته خلال أيام آلامه، والطريقة التي بها اختار أن يكون حاضرًا في العالم ليخلّصه.
أودّ، بقدر ما أمكن، أن نضع أنفسنا معًا، في مدرسته، مدرسة العليّة، لنتعلّم منه كيف نكون تلاميذ، ولنحاول أن نكون أيضًا، أدوات خلاص في هذا العالم. فأنا مقتنع بأنّ رسالة خدام الكنيسة، على الرغم من تنوّع الخِدَم والمواهب، هي في جوهرها واحدة: أن نُسهِم، بنعمة الروح القدس، في اللقاء الخلاصيّ للبشريّة مع فصح المسيح. لأنّ سرّي المعموديّة والكهنوت قد جعلا منّا شركاء لله في عمله.
1. الأمر الأوّل الذي نتعلّمه في العليّة هو الوعي
إنّه لافت في روايات الآلام أنّ "يسوع يعلم..." (راجع يو 13: 3؛ 18: 4؛ 19: 28). فالربّ ليس مشتّتًا، وليس مشوّشًا، ولا هو أسير نظرة سطحيّة أو مشوّهة للأحداث. إنّه يعرف خطيئة البشر، ويُدرِك ساعة الظلمة، ويعي خوف التلاميذ وضعفهم. لكنّه يعلم أيضًا أنّ الآب معه؛ لا ينسى الملكوت، ولا يستسلم لِحُكم الحتميّة. بل يعيش ساعته برجاء عظيم، وذلك ليس بتفاؤل ساذج، بل بثقة عميقة بأنّ الظلمات لا تستطيع أن تغلب النور.
وهكذا: أتمنّى أن نتمكّن نحن أيضاً من أن نحيا حاضرنا، المظلِم والمعقَّد، بهذا الشكل. إنّ الشرّ الذي نشهده هو شرّ واقعيّ، وألم شعبنا عميق، والظلم الذي يثقل كاهلنا ثقيل. ولا ينبغي لنا أن نتردّد في الاعتراف والتنديد به. لكنّنا نعلم، مع يسوع، أنّ هذه ليست الكلمة الأخيرة في التاريخ والحياة. وفي هذا اليوبيل، يوبيل الرجاء، نعترف، بثقة متجدّدة، بأنّ الله معنا، وأنّه يفتح في البريّة طرقًا سرّيّة نحو الملكوت الآتي. وأطلب لي ولكم من الربّ أن يُوقظ زيت الموعوظين في كنيستنا هذه القُدرة النبويّة. لا يتعلّق الأمر بالنبوءات المستقبلية، ولا بالانقياد لتوقّعات العالم التي كثيرًا ما ثبُتَ بُطلانُها، بل بالعيش في الواقع مع "فيض" من الرؤية مصدره الثقة بالله ورجاء الملكوت.
2. الأمر الثاني الذي نتعلّمه في العليّة هو القيام واتّخاذ القرار: "يسوع، وهو عالم... قام..." (يو 13: 3)
إنّ هذا الوعي بالذات هو الذي سيوجّهه لاتّخاذ قراراته في أشدّ ليالي حياته الأرضيّة دراميّةً وألماً. فقد قرّر، في تلك الليلة، أن يغسل أقدام التلاميذ، وأن يؤسّس سرّ الإفخارستيّا، وأن يختار الرسل من جديد كأصدقاء. لقد قرّر، بمعنى آخر، أن يفتح طريقًا نحو المستقبل، وأن يفتحها عبر "فيض" من العطاء. ففي تلك الليلة، يُقِيم المعلّم عهدًا جديدًا، لا يقوم على مجرّد حفظ الشريعة، بل على "فيض" المحبّة التي تبذل ذاتها.
إنّ زمننا هذا جائع. وأرضنا المقدّسة جائعة. وبعض مناطقنا جائعة حرفيًّا، محرومة من الكرامة، بل ومن الخبز اليوميّ، من الخبز الأرضيّ. لكنّنا أكثر جوعًا إلى ذلك الخبز الذي يهبه لنا يسوع اليوم، إلى ذاته التي يقدّمها لخلاصنا. قد نكون اليوم، أكثر من أيّ وقت مضى، مُتعبين ومُنهكين، وربّما مُحبَطين ومجروحين من هذا الكمّ من الألم والعنف، عاجزين عن النظر إلى الأمام بثقة. لكن، هل يكفي الخبز الأرضيّ، وعدالة البشر، ومصالح السلطة، القديمة والحديثة، لإشباع جوعنا إلى الحرّيّة والعدالة والكرامة؟ لا يعتمد رجاؤنا على ذلك.
نحن نؤمن، ونؤكّد في هذه الليتورجيا، أنّنا نريد أن نبني حياتنا على صخرة المسيح، وأن نُلبِّي دعوته، وأن نتبنّى مشاعره عينها (راجع فيل 2: 5؛ 1 بط 4: 1). لا يكفينا الخبز الأرضيّ، نحتاج إلى خبز الحياة، كي يجدّد فينا رغبة الحياة، ويمنحنا فرح الاستمرار في الخدمة، في البذل، في بذل أنفسنا بالمحبّة ودون خوف. إنّنا جوعى إلى العدالة، لكن لا إلى عدالة البشر الناقصة، والمخيّبة للآمال، والتي تتركنا دومًا في جوع. إنّنا نطمح إلى العدالة التي تنبع من قلب يسوع، من بذل ذاته على الصليب، وهي "فيض" من المحبّة والمغفرة. ففي قلب المسيح المصلوب تلتقي العدالة والمغفرة وتتعانقان. إنّ الحرّيّة الحقيقيّة لا تُصان بطاعة الناس، بل بطاعة يسوع الكاملة والواثقة للآب حتى الموت على الصليب؛ فبهذه الطاعة يهبنا الحرّيّة الأصيلة، الحرّيّة التي يختبرها أبناء الله بحق. إنّ العدالة والإدانة وحدها، تبقينا أسرى الماضي ولا تبني المستقبل. وحده الحبّ يبني.
تلك العدالة الإلهيّة، اليوم، بحاجة إلى أشخاص يشبهون يسوع، مستعدّين لدفع الثمن بأنفسهم. إنّها تحتاج إلى قلوبٍ منفتحة، وإلى عطاء ذات حتى النهاية، وإلى شجاعة التخلّي عن كلّ شيء، حتى عن الحياة ذاتها، لكي يتعرّف العالم إلى الحياة الحقيقية، ويلتقي بالعدالة والمحبّة في جوهرهما، ويبلغ التحرّر من منطق البشر والسلطة، ذاك المنطق الذي لا ينبع إلّا من الله.
لذا، أطلب من الربّ أن يُعيد زيت الميرون، الذي يجعل منّا جميعًا شعب العهد الجديد، ويجعل منّا نحن الكهنة خدّامًا لمحبّة أعظم، أن يُعيد فينا القدرة على المحبّة والخدمة، على العطاء والغفران، كي نفلح الصحراء وتزهر فيها عدالة الملكوت.
3. الأمر الثالث الذي نتعلّمه في العليّة هو التعزية
قرّر يسوع، في تلك الليلة، ألّا يوبّخ أو يدافع عن نفسه، بل أن يُرافِق ويُعزّي تلاميذه. فالتعزية التي يمنحها الربّ لتلاميذه ليست مجرّد لمسة حنان. بل يعدهم بالروح القدس؛ أي يضمن لهم أنّه سيكون حاضرًا دائمًا. لن تُدمِّر الإهانات والظلم، ولا الخيانة والهجر، صداقته معهم. إنّ التعزية هي القرار بالبقاء معًا، رغم كلّ شيء. والقيامة ليست سوى هذا القرار وقد انتصر. فالفرح الفصحيّ لا يشبه النهايات السعيدة في الروايات، بل هو ثمرة أمانة المحبّة التي تثبت في وجه الشرّ وتنتصر على الموت. الأسرار التي نحتفل بها ونتلقّاها تجعل منّا خدّامًا لهذه التعزية. وأنا أيضًا، خلال هذه السنوات العصيبة، طلب الناس منّي، أكثر من أيّ شيء، المودّة، والقرب، والمرافقة، وكأنّهم يدركون أنّ الإنسان المتألّم لا يحتاج فقط إلى الخبز، بل إلى المحبّة. وهذا الزمن يطلب منّا قدرة جديدة على القرب.
أطلب من الربّ، لي ولكم، أن يُعزّي زيت المرضى جراحنا، ويُعيننا على تجاوز الخوف من الشرّ والموت، ويُشجّعنا على البقاء إلى جانب شعبنا بأمانة، لنتغلب على الصعوبات.
أيها الأحباء،
لنضع أنفسنا في مدرسة العليّة. لنتعلّم ولنطلب من الربّ "فيض" النبوّءة، والعطاء، والشهادة، القادر على منح الرجاء لكنيستنا وللبشريّة. ليجعلنا الجسد المبذول والدم المسفوك لمخلّصنا قادرين على أن نعيش ونتحرّك في تلك المحبّة التي تغلب الموت وتبقى إلى الأبد.
لا نسمح للخوف أو للاستسلام أن يُبطئ أو يُوقِف نمو الإنجيل في أرضنا! لنواصل بفرح توزيع خبز الحياة على الجميع! ولنُصِرَّ على بناء علاقات أُخوّة وروابط مشتركة بيننا ومع الجميع! فلا ليل لا يقدر الحبّ أن يُنيره، ولا فشل لا يقدر الصليب أن يحوّله، ولا جرح لا يقدر الفصح أن يُبدّله! وكما يقول الرسول: "إِنَّه لَقولُ صِدْقٍ: أَنَّنا إِذا مُتْنا مَعَه حَيِينا مَعَه وإِذا صَبَرنا مَلَكنا مَعَه" (2 تيم 2: 11-12).
وما يبدو لنا اليوم علامات نهاية، سيُصبح، بنعمته وبالإيمان، نبوءة لبدايات جديدة!
فصحٌ مجيدٌ، في إيمانٍ يصدِّق كلّ شيء، ورجاءٍ يرى كلّ شيء، ومحبّةٍ تهب كلّ شيء!