موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
استهلّ البابا فرنسيس اليوم الثالث والأخير من زيارته إلى كازاخستان بلقاء الأساقفة والكهنة والشمامسة والمكرسين والإكليريكيين والعاملين الرعويين، وذلك في كاتدرائية سيدة المعونة الدائمة، حيث شدّد في خطابه على أنّ جمال الكنيسة تكمن في كونها "عائلة واحدة، لا أحد غريب فيها".
وقال: "إنّني أكرّر ذلك: لا أحد غريب في الكنيسة، نحن شعب الله المقدّس الغنيّ بشعوب كثيرة! وتكمن قوّة شعبنا الكهنوتي والمقدّس بالتّحديد في أن نجعل من التنوّع غنًى بالمشاركة، نتشارك فيما نحن وفيما لنا: صِغَرُنا يتضاعف بالمشاركة".
وفيما يلي النص الكامل للخطاب:
يسعدني أن أكون هنا بينكم، وأن أحيّي مجلس أساقفة آسيا الوسطى وألتقي بكنيسة مكوّنة من وجوه عديدة وقصص وتقاليد مختلفة، وكلّها متّحدة بإيمان واحد بالمسيح يسوع. المونسنيور مومبييلا سييرا، الذي أشكره على كلماته التّرحيبية، قال: "معظمنا غرباء". هذا صحيح، لأنّكم أتيتم من أماكن ودول مختلفة، لكن جمال الكنيسة هو هذا: نحن عائلة واحدة، لا أحد غريب فيها. أكرّر ذلك: لا أحد غريب في الكنيسة، نحن شعب الله المقدّس الغنيّ بشعوب كثيرة! وتكمن قوّة شعبنا الكهنوتي والمقدّس بالتّحديد في أن نجعل من التنوّع غنًى بالمشاركة، نتشارك في ما نحن وفي ما لنا: صِغَرُنا يتضاعف بالمشاركة.
المقطع الذي أصغينا إليه من كلمة الله يؤكّد بالتّحديد هذا: يقول القدّيس بولس: سرّ الله أُوحِيَ لجميع الشّعوب. ليس فقط للشعب المختار أو لنخبة من أناس متديّنين، بل للجميع. كلّ إنسان يمكنه أن يصل إلى الله، لأنّ جميع الناس، كما يقول الرّسول، مدعوّون إلى أن يكونوا "شُرَكاء في المِيراثِ والجَسَدِ والوَعْد في المسيحِ يسوع، ويَعودُ ذٰلِك إِلى البشارة" (أفسس 3، 6).
أودّ أن أركِّز على كلمتَين استخدمهما بولس الرّسول: الميراث والوَعْد. من ناحية، الكنيسة ترث دائمًا تاريخًا، هي دائمًا ابنة الإعلان الأوّل بالإنجيل، ولحدث يسبقها، وابنة رسل ومبشرين آخرين الذين أسّسوها على كلمة يسوع الحية. ومن ناحية أخرى، الكنيسة هي أيضًا جماعة أولئك الذين رأوا أن وعد الله قد تحقّق في يسوع، وهم أبناء القيامة، يعيشون على رجاء التتمّة في المستقبل. نعم، نحن سائرون نحو المجد الموعود الذي يُحيي، بالانتظار، مسيرتنا. الميراث والوَعْد: الميراث الماضيّ هو ذاكرتنا، ووَعْد الإنجيل هو مستقبل الله الذي يأتي للقائنا. أودّ أن أتوقّف معكم مع هذه الفكرة: كنيسة تسير في التاريخ بين الذاكرة والمستقبل.
أوّلًا، الذاكرة. إن كان بإمكاننا اليوم في هذا البلد الشاسع ومتعدّد الثقافات والأديان أن نرى جماعات مسيحيّة نابضة بالحياة وحسًا دينيًّا يسري في حياة السّكان، ذلك أوّلًا بفضل التاريخ الغنيّ الذي سبق. أفكّر في انتشار المسيحيّة في آسيا الوسطى، الذي حدث من قَبل في القرون الأولى، والمبشّرين والمرسلّين الذين بذلوا جهودهم لنشر نور الإنجيل، فأسّسوا الجماعات والمزارات والأديرة ودور العبادة. هناك إذن ميراث مسيحيّ مسكونيّ يجب تكريمه والحفاظ عليه، وكان نقل الإيمان على يدّ شخصيّات عديدة من البسطاء، والعديد من الأجداد والجدات والآباء والأمهات. في المسيرة الرّوحيّة والكنسيّة يجب ألّا نفقد ذكرى الذين بشَّرونا بالإيمان، لأن التذكّر يساعدنا على تنمية روح التأمّل في العجائب التي صنعها الله في التاريخ، حتى في وسط مصاعب الحياة والضّعف الشّخصيّ والجماعيّ.
لكن لننتبه: هذا لا يعني أن ننظر إلى الوراء، ويغلبنا الحنين إلى الماضيّ، ونبقى متجمدين في أمور الماضيّ ونسمح للشلل والجمود أن يسيطرا علينا: هذه تجربة الرّجوع إلى الوراء. النظرة المسيحيّة، عندما تتذكّر، تريد أن تفتح أنفسنا للاندهاش أمام سرّ الله، ولنملأ قلوبنا بحمد الله وشكره لما صنعه لنا. القلب الشّاكر، الذي يفيض بالحمد، لا يغذّي أيّ ندم، بل يَقبل اليوم الذي يعيشه كنعمة. وهو يريد الانطلاق والمضيّ قُدُمًا، ليُوصِّل يسوع إلى الناس، مثل نساء وتلميذَي عمواس في يوم الفصح!
إنّها ذكرى يسوع الحية، التي تملأنا بالدهشة والتي نستمدها خاصّة من الذكرى الإفخارستيّة، إنّها قوّة المحبّة التي تدفعنا. إنّها كنزنا. لذلك، بدون ذاكرة لا يوجد دهشة. إن فقدنا ذاكرتنا الحية، فإنّ الإيمان والعبادات والأنشطة الرّعويّة توشك أن تتلاشى، وتصير مثل نار القش، التي تشتعل على الفور ولكنّها تنطفئ بسرعة. عندما نفقد ذاكرتنا، ينفد الفرح. ويَقِلُّ أيضًا شكر الله والإخوة، لأنّنا نقع في تجربة الاعتقاد بأنّ كلّ شيء يعتمد علينا. ذكّرنا الأب روسلان بشيء جميل: أن تكون كاهنًا، هذا شيء كثير أصلًا، لأنّنا في الحياة الكهنوتيّة ندرك أن ما يحدث ليس من عملنا، بل هو عطية من الله. والأخت كلارا وهي تتحدّث عن دعوتها، أرادت أوّلًا أن تشكر الذين بشَّروها بالإنجيل. شكرًا لهذه الشّهادات، التي تَدْعُوَنا إلى أن نتذكّر بشكر الميراث الذي قبلناه.
إن نظرنا إلى داخل هذا الميراث، ماذا نرى؟ نرى أنّ هذا الإيمان لم ينتقل من جيلٍ إلى جيل مثل مجموعة من الأمورٍ يجب أن نفهمها ونعمل بها، ولا مثل قانون ثابت بشكل دائم. لا، انتقل الإيمان مع الحياة، ومع الشّهادة التي حملت نار الإنجيل إلى قلب المواقف لتُنيرها وتطهّرها وتنشر دِفء يسوع المعزّي، وفرح محبّته المُخلّصة، والرّجاء في انتظار وعده. ومن ثمّ، إذا تذكّرنا، فإنّنا نتعلّم أنّ الإيمان ينمو بالشّهادة. والباقي يأتي لاحقًا. هذه دعوة للجميع، وأودّ أن أكرّرها للجميع، المؤمنين العلمانيّين، والأساقفة، والكهنة، والشّمامسة، والمكرّسين والمكرّسات الذين يعملون بطرق مختلفة في حياة الجماعات الرّعويّة: لا نتعب ولا نكلّ من الشّهادة لما هو جوهر الخلاص، ما هو جديد في يسوع، الأمر الجديد الذي هو يسوع. ليس الإيمان معرضًا جميلًا لأمور من الماضيّ– هذا سيكون متحفًا -، بل هو حدث يحدث دائمًا، هو لقاءً مع المسيح يحدث هنا والآن في الحياة! لذلك لا يمكن أن نوصله إلى الآخرين بتكرار الأمور المعتادة فقط، بل بنقل كلّ ما هو جديد في الإنجيل. هكذا يبقى الإيمان حيًا ويكون لهُ مستقبل. لهذا السّبب أحبّ أن أقول إنّ الإيمان يُنقَل ”باللغة المحكيّة“.
وهذه هي الكلمة الثّانية، المستقبل. ذكرى الماضيّ لا يُغلِقنا على أنفسنا، بل يفتحنا على وعد الإنجيل. أكّد لنا يسوع أنّه سيكون معنا دائمًا، لذلك، ليس الوعد فقط بأمورٍ مرتبطة بمستقبلٍ بعيد، بل نحن مدعوّون اليوم إلى أن نستقبل الجديد الذي يصنعه الرّبّ القائم من بين الأموات في الحياة. على الرّغم من ضعفنا، إنّه لا يتعب من البقاء معنا، وبناء مستقبل كنيسته وكنيستنا معنا.
بالتّأكيد، أمام تحدّيات الإيمان الكثيرة -وخاصّة تلك التي تتعلّق بمشاركة الأجيال الشّابّة– وأيضًا أمام مشاكل ومتاعب الحياة، وبالنّظر إلى أعدادنا، في اتّساع مساحة بلدٍ مثل هذا البلد، يمكننا أن نشعر بأنفسنا ”صغارًا“ ولا مكان لنا. مع ذلك، إن تبنّينا نظرة يسوع المليئة بالرّجاء، سنكتشف اكتشافًا مذهلًا، لأنّ الإنجيل يقول: أن تكونوا صغارًا، وفقراء في الرّوح، فهذه تطويبة، وهي التّطويبة الأولى (راجع متّى 5، 3)، لأنّ الصِّغَر يسلّمنا بتواضع إلى قدرة الله، ويحملنا على ألّا نؤسّس العمل الكنسيّ على قدراتنا. وهذه نعمة! أكرّر وأقول: توجد نعمة مخفيّة في أن نكون كنيسة صغيرة، وقطيعًا صغيرًا، وبدل أن نستعرض قوّتنا، وتعدادنا، وهيّكليّاتنا وكلّ شكل آخر من الأمور المهمّة بشرِيًّا، نترك الرّبّ يسوع يقودنا، ولنضع أنفسنا بتواضع بجانب الأشخاص.أغنياء بلا شيء وفقراء في كلّ شيء، لِنَسِرْ ببساطة، إلى جانب الإخوة والأخوات في شعبنا، ولنحمل فرح الإنجيل في مواقف الحياة. مثل الخميرة في العجين ومثل أصغر البذور التي تُلقى في الأرض (راجع متّى 13، 31-33)، لنعِش الأحداث السّعيدة والحزينة في المجتمع الذي نعيش فيه، ولنخدمه من الدّاخل.
أن نكون صغارًا، هذا يذكّرنا بأنّنا لسنا مكتفين ذاتيًّا، أنّنا بحاجة إلى الله، وأيضًا إلى الآخرين، كلّ الآخرين: أي للإخوة والأخوات من الطّوائف الأخرى، والذين يعترفون بمعتقدات دينيّة مختلفة عن معتقداتنا، وكلّ الرّجال والنّساء أصحاب النّوايا الحسنة. نُدرِك، بروح التّواضع، أنّنا معًا فقط، وفي الحوار والقبول المتبادل، يمكننا حقًّا أن نحقّق شيئًا جيّدًا للجميع. هذه هي مهمّة الكنيسة الخاصّة في هذا البلد، وهي: ألّا تكون مجموعة تجرّ نفسها في الأمور الاعتياديّة، أو تنغلق على نفسها في قوقعتها لأنّها تشعر بنفسها صغيرة، بل أن تكون جماعة منفتحة على مستقبل الله، ومشتعلة بنار الرّوح القدس: حيّة، ومفعمة بالرّجاء، ومستعدّة لكلّ جديدٍ من الرّوح القدس وفي علامات الأزّمنة، ونحن منتعشون بمنطق البذرة في الإنجيل التي تُثمر في المحبّة المتواضعة والخصبة. بهذه الطريقة، يتمّ الوعد بالحياة والبركة التي يسكبها الله الآب علينا بوساطة يسوع، وليس فقط من أجلنا، بل يتحقّق أيضًا من أجل الآخرين.
وهو يتحقّق في كلّ مرّة نعيش فيها الأخوّة في ما بيننا، وفي كلّ مرّة نعتني فيها بالفقراء وبكلّ جريح في الحياة، وفي كلّ مرّة نشهد فيها، في العلاقات الإنسانيّة والاجتماعيّة، للعدالة والحقيقة، ونقول ”لا“ للفساد والباطل. يجب أن تكون الجماعات المسيحيّة، وخاصّة الإكليريكيّة، ”مدارس إخلاص“، وليس بيئة متزمّتة وشكليّة، بل أماكن تدريب على الحقيقة، والانفتاح والمشاركة. وفي مجتمعاتنا – لنتذكّر هذا الأمر - نحن كلّنا تلاميذ للرّبّ يسوع: كلّنا تلاميذ، وكلّنا أساسيّون، وكلّنا متساوون في الكرامة. ليس فقط الأساقفة والكهنة والمكرّسون، بل كلّ معمَّد غُطِّسَ في حياة المسيح وفيه -كما ذكّرنا القدّيس بولس– هو مدعو إلى قبول الميراث ووعد الإنجيل. لذلك، يجب أن نعطي مساحة للعلمانيّين، وهذا سيفيدكم، حتّى لا تتصلّب الجماعات ولا تصبح إكليريكيّة متسلّطة. الكنيسة السينوديّة، التي تسير نحو مستقبل الرّوح القدس، هي كنيسة مُشارِكة ومسؤوليّة مشتركة. إنّها كنيسة قادرة على أن تخرج للقاء العالم، لأنّها مُدرّبة على الشّركة والوَحدة. أثّر فيّ أنْ تكرَّرَ، في جميع الشّهادات، أمرٌ واحد وهو: ليس فقط الأب رُسلان والرّاهبات، بل أيضًا كيريل، أبُو العائلة، كلّهم ذكّرونا أنّنا نتعلّم، بالاتّصال بالإنجيل، في الكنيسة، نتعلّم كيف ننتقل من الأنانيّة إلى المحبّة غير المشروطة. إنّه خروجٌ من الذّات يحتاج إليه كلّ تلميذ باستمرار. إنّها الحاجة إلى أن نغذّي العطيّة التي قبلناها في المعموديّة، والتي تدفعنا إلى كلّ مكان: في اجتماعاتنا الكنسيّة، وفي العائلات، وفي العمل، وفي المجتمع، لنصير رجال ونساء شركة ووَحدة وسلام، يزرعون الخير أينما وُجِدوا. الانفتاح والفرح والمشاركة هي علامات الكنيسة الأولى، وهي أيضًا علامات كنيسة المستقبل. لنحلم ولنبنِ، بنعمة الله، كنيسة يسكنها فرح الرّبّ القائم من بين الأموات، الذي يُبعد المخاوف والشّكاوى، ولا تتصلّب فيإرشادات عقائديّة وأخلاقيّة مبتذلة.
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، لنطلب كلّ هذا من شهود إيمان هذا البلد العظماء. أودّ أن أذكر على وجه الخصّوص الطّوباوي بوكوفينسكي، الكاهن الذي قضى حياته في رعاية المرضى، والمحتاجين والمهمّشين، ودفع بروحه وجسده ثمن أمانته للإنجيل، وحُكِم عليه بالسّجن والأعمال الشّاقّة. قالوا لِي إنّه قبل تطويبه، كانت دائمًا أزهار نضرة وشمعة مضاءة على قبره. هذا إثبات أنّ شعب الله يعرف أين توجد القداسة، وأين يوجد راعٍ عاشق للإنجيل. أودّ أن أقول هذا خصّوصًا للأساقفة والكهنة والإكليريكيّين أيضًا: هذه هي رسالتنا: لسنا مدبّرين للأمور المقدّسة أو شرطة تهتمّ بأن يتمّ احترام الأحكام الدينيّة، بل نحن رعاة قريبون من النّاس، وأيقونات حية لقلب المسيح الرّؤوف. أذكر أيضًا شهداء الرّوم الكاثوليك الطّوباويّين، المطران بودكا، والكاهن زاريسزكي وجيرترود ديتزيل، التي بدأت قضيّة تطويبها. كما قالت لنا السّيّدة ميروسلافا: لقد حملوا محبّة المسيح في العالم. أنتم ورثتهم: كونوا وعدًا لقداسة جديدة!
أنا قريب منكم وأشجّعكم: عيشوا هذا الميراث بفرح واشهدوا له بسخاء، حتّى يدرك كلّ الذين تقابلوهم أنّ هناك وعدًا بالرّجاء، وهو موجّه إليهم أيضًا. أنا أرافقكم بالصّلاة، والآن، لنوكل أنفسنا بطريقة خاصّة إلى قلب مريم الكاملة القداسة، التي توقّرونها بطريقة خاصّة بلقب ملكةِ السّلام. قرأت عن آية والدية جميلة حدثت في الأوقات العصيبة: بينما كان يتمّ ترحيل أشخاص كثيرين وكانوا مجبرين على تحمّل الجوع والبرد، أصغت، الأم الحنونة والرّؤوفة، إلى الصّلاة التي وجهّها إليها أبناؤها. ففي فصل من أقسى فصول الشّتاء، ذاب الثّلج بسرعة، وظهرت بحيرة فيها أسماك كثيرة، فأطعمت الكثير من الجّياع. لتذوّب سيّدتنا مريم العذراء برد قلوبنا، ولتغمر جماعاتنا بدفء أخويّ متجدّد، ولتعطنا رجاءً وحماسًا جديدَين للإنجيل! أبارككم وأشكركم بمودّة. وأطلب منكم، من فضلكم، أن تصلّوا من أجلي.