موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٤ فبراير / شباط ٢٠٢٣
البابا يلتقي إكليروس جنوب السودان: لأرواح شجاعة تعرف كيف تتألّم من أجل إفريقيا

فاتيكان نيوز :

 

في إطار زيارته الرسوليّة إلى جنوب السودان التقى قداسة البابا فرنسيس صباح السبت الأساقفة والكهنة والشمامسة والمكرسات والمكرّسين والإكليريكيين في كاتدرائيّة القديسة تريزيا الطفل يسوع في جوبا وللمناسبة وجّه الأب الأقدس كلمة قال فيها تخالجني منذ فترة طويلة الرغبة في أن ألتقي بكم؛ لهذا أريد اليوم أن أشكر الرب. أنا ممتن للمونسينيور تومب تريل على تحيته ولكم جميعًا على حضوركم؛ لقد سافر البعض منكم ساعات طويلة ليكون هنا! لا زلتُ أحمل محفورة في قلبي بعض اللحظات التي عشتها قبل هذه الزيارة: الاحتفال في ساحة القديس بطرس عام ٢٠١٧، والذي رفعنا خلاله الصلاة إلى الله من أجل عطية السلام؛ والخلوة الروحية لعام ٢٠١٩ مع القادة السياسيين الذين دُعوا من خلال الصلاة لكي يأخذوا في قلوبهم القرار الحازم لتحقيق المصالحة والأخوَّة في البلاد. نحن بحاجة أولاً إلى هذا: لأن نقبل يسوع، سلامنا ورجائنا.

 

تابع الأب الأقدس يقول في حديثي أمس استلهمت من مجرى مياه النيل الذي يمرُّ في بلادكم وكأنه عمودها الفقري. في الكتاب المقدس، غالبًا ما يرتبط الماء بعمل الله الخالق، الرحمة التي يروي بها عطشنا عندما نجد أنفسنا تائهين في الصحراء، الرحمة التي يطهرنا بها عندما نسقط في مستنقعات الخطيئة؛ في المعمودية، قدسنا الله "بغسل الميلاد الثاني والتجديد من الروح القدس". من وجهة نظر بيبليّة، أُريد أن أنظر مُجدّدًا إلى مياه النيل. من جهة تفيض في مجرى المياه هذا، دموع شعب غارق في المعاناة والألم، ويعذِّبه العنف؛ شعب يصلي مثل صاحب المزامير: "على أنهار بابل هناك جلسنا فبكينا". في الواقع، تجمع مياه النهر العظيم أنين جماعاتكم المتألِّمة، وصراخ ألم العديد من الأرواح المحطمة، ومأساة شعب هارب، وأسى قلوب النساء، والخوف المطبوع في عيون الأطفال. ولكن في الوقت عينه، تُعيدنا مياه النهر العظيم إلى قصة موسى، وبالتالي فهي علامة تحرير وخلاص: في الواقع، نجا موسى من تلك المياه وإذ قاد شعبه وسط البحر الأحمر، أصبح أداة خلاص، وأيقونة لخلاص الله الذي يرى معاناة أبنائه، ويسمع صرختهم، وينزل لكي يحرِّرهم. بالنظر إلى قصة موسى، الذي قاد شعب الله عبر الصحراء، لنسأل أنفسنا ماذا يعني أن نكون خدام الله في تاريخ مطبوع بالحرب والكراهية والعنف والفقر. كيف نمارس خدمتنا في هذه الأرض، على طول ضفاف نهر مغمور بدماء الأبرياء، بينما تحفر دموع الألم وجوه الأشخاص الذين أوكِلوا إلينا؟ لكي أحاول أن أُجيب، أريد أن أتوقّف عند موقفين لموسى: الطاعة والشفاعة.

 

أضاف البابا فرنسيس يقول إن أول ما يلفت انتباهنا في قصة موسى هو طاعته لمبادرة الله، ولكن لا يجب أن نفكر في أن الأمر كان دائمًا على هذا النحو: في البداية ادعى أنه يقوم وحده بمحاربة الظلم والقمع. إذ أنقذته ابنة الفرعون من مياه النيل، عندما اكتشف هويته سمح بأن يلمسه ألم وذلُّ إخوته، لدرجة أنه قرر في أحد الأيام أن يحقق العدالة بمفرده فقتل مصريًا كان يسيء معاملة يهودي. لكن بعد هذه الحادثة، اضطر إلى الهروب والبقاء في الصحراء لسنوات عديدة. هناك عاش فترة من التأمُّل الداخلي: لقد فكر في مواجهة الظلم بمفرده، ونتيجة لذلك، وجد نفسه هاربًا، مضطرًا للاختباء، والعيش في عزلة، يختبر شعور الفشل المرير. ما هو خطأ موسى؟ الاعتقاد بأنه المحور، والاعتماد فقط على قواه. لكنه بذلك أصبح أسيرًا لأسوأ الأساليب البشرية، كالردِّ على العنف بالعنف.

 

تابع الأب الأقدس يقول في بعض الأحيان، يمكن أن يحدث شيء مشابه أيضًا في حياتنا ككهنة وشمامسة ورهبان وإكليريكيين: نعتقد في أعماقنا أننا المحور، وأنّه يمكننا أن نتّكل، إن لم يكن من الناحية النظرية على الأقل في الممارسة العملية، بشكل حصري تقريبًا على مهاراتنا؛ أو أن نجد ككنيسة، الجواب على آلام الشعب واحتياجاته من خلال أدوات بشرية، مثل المال والمكر والسلطة. لكنَّ عملنا يأتي من الله: هو الرب ونحن مدعوون لكي نكون أدوات مطيعة بين يديه. لقد تعلّم موسى هذا عندما أخذ الله المبادرة يومًا وجاء للقائه وظهر له "في لهيب نار من وسط عليقة". سمح موسى لله أن يجذبه، وأفسح مجالًا للدهشة، ووضع نفسه في موقف الطاعة ليسمح بأن ينيره سحر تلك النار، التي فكر أمامها: "أدور وأنظر هذا المنظر العظيم ولماذا لا تحترق العليقة". هذه هي الطاعة التي نحتاجها في خدمتنا: أن نقترب من الله بذهول وتواضع، ونسمح له أن يجذبنا ويوجّهنا؛ الأولويّة ليست لنا، بل لله، لكي نوكل أنفسنا لكلمته قبل أن نستخدم كلماتنا، ولكي نقبل بالطاعة مبادرته قبل أن نركّز على مشاريعنا الشخصية والكنسية.

 

أضاف الحبر الأعظم يقول إن هذا السماح المُطيع لله بأن يصوغنا هو الذي يجعلنا نعيش خدمتنا بطريقة متجددة. أمام الراعي الصالح، نفهم أننا لسنا زعماء قبائل، وإنما رعاة شفوقين ورحماء؛ وبأننا لسنا أرباب الشعب بل خدمًا ينحنون ليغسلوا أرجل اخوتهم واخواتهم، وبأننا لسنا منظمة دنيوية تدير الخيور الأرضية، وإنما جماعة أبناء الله. لنصنع إذن مثل موسى أمام الله: لنخلع نعلينا باحترام متواضع، ولنتجرّد من ادعائنا البشري، ولنسمح للرب أن يجذبنا فنعزز اللقاء معه في الصلاة؛ ولنقترب كل يوم من سر الله، لكي يحرق أجمَّةَ كبرياءنا وطموحاتنا المفرطة، ويجعلنا رفقاء سفر متواضعين للذين قد أُوكلوا إلينا.

 

تابع الأب الأقدس يقول إذ طهّرته النار الإلهية وأنارته، أصبح موسى أداة خلاص لشعبه المتألم، لقد جعلته الطاعة لله قادرًا على أن يتشفّع لإخوته. هذا هو الموقف الثاني الذي أريد أن أتحدث معكم عنه: الشفاعة. اختبر موسى إلهًا شفوقًا لا يقف غير مبالٍ أمام صرخة شعبه وينزل لكي يحرّره. إنه فعل جميل: النزول. إنَّ الله، بامتثاله بنا، جاء بيننا وأخذ بيسوع جسدنا، واختبر موتنا وجحيمنا. هو ينزل على الدوام لكي يُنهضنا مجدّدًا. والذي يختبر الله يُدعى لكي يقتدي به. وهكذا فعل موسى، الذي "ينزل" بين شعبه: وسيفعل ذلك مرارًا أثناء العبور في الصحراء. فهو في الواقع، في اللحظات الأكثر أهمية وصعوبة، يصعد وينزل من جبل حضور الله لكي يشفع للشعب، أي لكي يضع نفسه في تاريخه ويقرِّبه من الله. إن الشفاعة في الحقيقة "لا تعني ببساطة أن نصلّيَ من أجل شخص ما"، كما نعتقد غالبًا. يعني أصل الكلمة "اتخاذ خطوة نحو الوسط"، "اتخاذ خطوة بحيث يضع المرء نفسه في وسط موقف ما"؛ وبالتالي فالتشفع يعني أن ينزل لكي يضع نفسه في وسط الشعب، و"يجعل من نفسه جسرًا" يربطه بالله.

 

أضاف الحبر الأعظم يقول لذلك يُطلب من الرعاة أن يطوروا فنَّ "السير في الوسط" هذا: في وسط الآلام والدموع، في وسط الجوع إلى الله والعطش إلى محبّة الإخوة والأخوات. إنَّ واجبنا الأول ليس أن نكون كنيسة منظمة بشكل كامل، وإنما كنيسة تقف، باسم المسيح، في وسط معاناة الشعب وتلتزم لصالح الناس. لا يجب أبدًا أن نمارس خدمتنا ساعينَ وراء الامتيازات الدينية والاجتماعية، وإنما علينا أن نسير في الوسط ومعًا وأن نتعلم كيف نصغي ونتحاور ونتعاون فيما بيننا ككهنة ومع العلمانيين. وهنا أود أن أكرر هذه الكلمة المهمة: معًا. أساقفة وكهنة، كهنة وشمامسة، رعاة وإكليريكيون، كهنة ورهبان – بالاحترام الدائم للميزة الرائعة للحياة الرهبانيّة: لنحاول أن نتغلّب على تجربة الفردية والمصالح الحزبية فيما بيننا. إنه لأمر محزن عندما لا يكون الرعاة قادرين على الشركة وغير قادرين على التعاون، لا بل يتجاهلون بعضهم البعض! لنُعزز الاحترام المتبادل والقرب والتعاون الملموس. إذا لم نعش هذا بيننا، فكيف يمكننا أن نعظ الآخرين به؟

 

لنعُد إلى موسى، ولكي نُعمِّق فن الشفاعة، لننظر إلى يديه. يقدم لنا الكتاب المقدس ثلاث صور في هذا الصدد: موسى وفي يده عصا، وموسى ويداه ممدودتان، وموسى ويداه مرفوعتان إلى السماء.

 

تابع الأب الأقدس يقول تخبرنا الصورة الأولى، صورة موسى وفي يده عصا، أنه يتشفّع بالنبوءة. بهذه العصا سيصنع العجائب، علامات لحضور وقوة الله، الذي يتكلم باسمه، ويدين بصوت عالٍ الشر الذي يتألّم الشعب بسببه ويطلب من فرعون أن يطلقه. أيها الإخوة والأخوات، لكي نشفع لصالح شعبنا، نحن مدعوون أيضًا لكي نرفع أصواتنا ضد الظلم وسوء استخدام السلطة، اللذان يسحقان الناس ويستخدمان العنف لإدارة الأعمال في ظل الصراعات. إذا أردنا أن نكون رعاة يتشفّعون، فلا يمكننا أن نقف محايدين إزاء الألم الذي يسببه الظلم والعنف لأنه، حيثما يجرح امرأة أو رجل في حقوقهما الأساسية، يتعرَّض إنجيل المسيح للإهانة. لقد سعدتُ لسماع شهادة الأب لوكا بأن الكنيسة لا تتوقف أبدًا عن تأدية خدمة نبوية ورعوية في الوقت عينه. شكرًا! شكرًا لأنه إذا كان هناك تجربة يجب أن نتنبّه منها، فهي تجربة أن نترك الأشياء كما هي وألا نهتمَّ بالأوضاع خوفًا من أن نفقد امتيازاتنا ومكاسبنا.

 

أضاف الحبر الأعظم يقول الصورة الثانية: موسى ويداه ممدودتان. يقول الكتاب المقدس "ومد موسى يده على البحر". إن يديه الممدودتين هما العلامة أن الله هو على وشك أن يعمل. فيما بعد، سيحمل موسى لوحي الشريعة في يديه ليريهما للشعب؛ وستشير يداه الممدودتان إلى قرب الله الذي يعمل ويرافق شعبه. في الواقع، إنَّ النبوءة لا تكفي لكي نتحرّر من الشر، نحن بحاجة إلى أن نمدَّ أذرُعنا لإخوتنا وأخواتنا، ونعضد مسيرتهم. يمكننا أن نتخيل موسى يشير إلى المسيرة ويمسك بيد شعبه لكي يشجّعه على المضي قدمًا. لمدة أربعين عامًا، وكمُسنٍّ، بقي بالقرب من شعبه: ها هو القرب. ولم تكن مهمة سهلة: فقد اضطر في كثير من الأحيان إلى إعادة إحياء شعب محبط ومتعب، جائع وعطش، يستسلم للتذمر والكسل. ولكي يمارس هذه المهمة، كان عليه أيضًا أن يكافح ضدَّ نفسه، لأنه عاش أحيانًا لحظات ظلام ويأس، مثل تلك التي قال فيها للرب: "لم أسأت إلى عبدك، ولم لم أنل حظوة في عينيك، حتى ألقيت عليَّ عبء هذا الشعب كله... لا أطيق أن أحمل هذا الشعب كله وحدي، لأنه ثقيل عليَّ". ومع ذلك، هو لم ينسحب: بقي موسى قريبًا من الله، وقريبًا من شعبه. نحن أيضًا لدينا هذه المهمة: أن نمد يدنا ونُنهض إخوتنا ونذكرهم أن الله أمين لوعوده، ونحثهم على المضي قدمًا. إنَّ أيدينا قد "مُسحت بالروح القدس" ليس فقط للطقوس المقدسة، وإنما لكي نشجّع الأشخاص ونساعدهم ونرافقهم لكي يخرجوا مما يشلهم ويغلقهم ويجعلهم خائفين.

 

تابع الأب الأقدس يقول أخيرًا - الصورة الثالثة - اليدان المرفوعتان إلى السماء. عندما خطئ الشعب وبنى لنفسه عجلًا من ذهب، صعد موسى إلى الجبل مرة أخرى – لنفكر في مدى صبره! – ورفع صلاةً هي صراع حقيقي مع الله لكي لا يترك شعب إسرائيل. ووصلت به إلى حد القول: "قد خطئ هذا الشعب خطيئة عظيمة، وصنع لنفسه آلهة من ذهب. والآن إن غفرت خطيئته. وإلا فامحني من كتابك الذي كتبته". أخذ جانب الشعب حتى النهاية، ورفع يده لصالحهم. لم يفكر في أن ينقذ نفسه، ولم يبع الشعب من أجل مصالحه! بل تشفّع وتصارع مع الله وأبقى ذراعيه مرفوعتين في الصلاة بينما كان إخوته يقاتلون في الوادي. أن نعضد بالصلاة أمام الله جهاد الشعب، ونطلب المغفرة وندير المصالحة كقنوات لرحمة الله الذي يغفر الخطايا: هذه هي مهمتنا كشفعاء!

 

أضاف الحبر الأعظم يقول أيها الأعزاء، هاتان اليدان النبويتان، الممدودتان والمرتفعتان، تُتعبان صاحبهما. أن تكونوا أنبياء ومرافقين وشفعاء، وأن تُظهروا بواسطة حياتكم سر قرب الله من شعبه يمكنه أن يتطلب الحياة أيضًا. إنَّ العديد من الكهنة والراهبات والرهبان – وقد سمعنا ذلك في شهادة الأخت ريجينا - كانوا ضحايا للعنف والاعتداءات التي فقدوا فيها حياتهم. في الواقع، لقد قدّموا حياتهم من أجل قضية الإنجيل وقربهم من إخوتهم وأخواتهم هو شهادة رائعة تركوها لنا ويدعوننا لكي نمضي قدمًا في مسيرتهم. يمكننا أن نذكر القديس دانياليه كومبوني، الذي حقق في هذه الأرض مع إخوته المرسلين عمل بشارة كبير: لقد كان يقول إنّه على المُرسَل أن يكون مُستعدًّا لكلِّ شيء من أجل المسيح ومن أجل الإنجيل، وأن هناك حاجة لأرواح شجاعة وسخيّة تعرف كيف تتألّم وتموت من أجل إفريقيا.

 

وختم البابا فرنسيس كلمته بالقول لذا أريد أن أشكركم على ما تقومون به في وسط الكثير من المحن والمصاعب. أشكركم باسم الكنيسة كلها على تفانيكم وشجاعتكم وتضحياتكم وصبركم. أتمنى لكم، أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، أن تكونوا على الدوام رعاة وشهودًا أسخياء، يتسلّحون فقط بالصلاة والمحبة، ويسمحون لنعمة الله بأن تُدهشهم فيُصبحوا أدوات لخلاص الآخرين؛ وأنبياء قرب يرافقون الشعب، وشفعاء بأذرع مرفوعة. لتحفظكم مريم العذراء القديسة. ومن فضلكم لا تنسوا أن تصلّوا من أجلي.