موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
شجب البابا فرنسيس "النظام البائس" التاريخي للمدارس الداخليّة في كندا، واصفًا إياه بأنه مثال مأساوي على "إلغاء الثقافة"، داعيًا إلى "تعزيز الحقوق المشروعة للسكان الأصليين، وتأييد مسيرات الشفاء والمصالحة بينهم وبين السكان غير الأصليين للبلاد".
أدلى الأب الأقدس بهذه الكلمات خلال لقائه السلطات المدنيّة وممثلي الشعوب الأصليّة وأعضاء السلك الدبلوماسي في مدينة كيبك، المحطة الثانيّة من زيارة الحبر الأعظم إلى البلاد. وقد أقيمت مراسم استقبال رسميّة في قلعة كيبك، بحضور الحاكم العام ماري سيمون ورئيس الوزراء جاستن ترودو.
هذا ويقوم البابا "برحلة توبة" إلى كندا، في الفترة من 24 إلى 30 تموز، مكرسة لشفاء ومصالحة ومعانقة الشعوب الأصليّة التي عانت من سوء المعاملة والإيذاء عبر القرون، حيث شاركت القوى الاستعماريّة، بما في ذلك العديد من المسيحيين، في، أو التواطؤ، في محاولة لمحو ثقافتهم وهويتهم.
وفي المرحلة الأولى من الرحلة البابويّة، في مدينة إدمونتون، شارك البابا فرنسيس في العديد من اللقاءات مع الشعوب الأصليّة، واعتذر عن أخطاء الماضي "الكارثيّة" في نظام المدارس الداخليّة، داعيًا إلى إجراء تحقيق لمعرفة كيفية منع حدوث مثل هذه المآسي من أي وقت من الأوقات.
في لقاء البابا فرنسيس مع السلطات المدنيّة والسكان الأصليين، الأربعاء 27 تموز 2022، في مدينة كيبك، شكر قداسته أولاً الحاكم العام ماري سيمون، ورئيس الوزراء جاستن ترودو على كلمات الترحيب، متحدثًا عن "التراث الطبيعي الاستثنائي" للبلاد وجمالها الشاسع.
واستذكر قداسته الرمز الوطني الكندي لورقة القيقب، كمناسبة لملاحظة أن "الحجم الكبير لأوراق القيقب، والتي تمتصّ الهواء الملوث من ناحيّة وتطلق الأكسجين من ناحيّة ثانيّة، تدعونا للإعجاب بجمال الخلق وتقدير القيم الصحيّة الموجودة في ثقافات السكان الأصليين".
وقال: "يلتزم الكرسي الرسولي والجماعات الكاثوليكية المحليّة، بشكلٍ ملموس، بتعزيز ثقافات الشعوب الأصليّة من خلال طرق محدّدة ومناسبة من المرافقة الروحيّة والتي تشمل الاهتمام بتقاليدهم الثقافيّة وعاداتهم ولغاتهم وعملياتهم التعليمية، بروح إعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الشعوب الأصليّة".
وشجب قداسته الأضرار التي لحقت بمحو ثقافتهم. وقال: "أفكر قبل كل شيء في سياسات الاستيعاب التي شملت نظام المدارس الداخليّة، وأضرت بالعديد من عائلات السكان الأصليين من خلال تقويض لغتها وثقافتها ونظرتها للعالم. وفي هذا النظام البائس، الذي روجته السلطات الحكوميّة في ذلك الوقت، وفصل العديد من الأطفال عن عائلاتهم، كان للمؤسسات الكاثوليكية المحليّة المختلفة دور فيه".
البابا الذي قدّم اعتذارًا صادقًا للسكان الأصليين في إدمونتون، لم يخجل من فعل الشيء نفسه في كيبيك.
قال: "أعبر عن شعوري بالعار والحزن العميق، ومع أساقفة هذا البلد، أجدد طلبي بالمغفرة عن الخطأ الذي ارتكبه العديد من المسيحيين للشعوب الأصليّة. إنه لأمر مأساوي أن بعض المؤمنين، كما حدث في تلك الفترة من التاريخ، توافقوا مع أعراف العالم بدلاً من الإنجيل"، مشيرًا إلى أنّ الإيمان المسيحي لعب دورًا أساسيًّا في تشكيل مُثل عليا في كندا، التي تتميّز بالرغبة في بناء دولة أفضل لجميع شعبها.
تابع: "في الوقت نفسه، من الأهميّة بمكان، وعند الاعتراف بأخطائنا، العمل معًا لتحقيق هدف أعلم أنكم تشاركونه جميعًا: تعزيز الحقوق المشروعة للسكان الأصليين وتأييد مسيرات الشفاء، والمصالحة بينهم وبين السكان غير الأصليين للبلاد". وقال إنّ هذا ينعكس في الالتزام باستجابة مناسبة لنداءات لجنة الحقيقة والمصالحة، وكذلك في الاهتمام بالاعتراف بحقوق الشعوب الأصليّة.
وجدّد البابا التأكيد بأنّ الكرسي الرسولي والمجتمعات الكاثوليكية المحلية ترغب في تعزيز حقوق الشعوب الأصليّة بشكل ملموس. وقال: "إننا نرغب في تجديد العلاقة بين الكنيسة والشعوب الأصليّة لكندا، وهي علاقة تميّزت بكل من المحبة التي أثمرت ثمارًا رائعة، وجروحًا عميقة بشكل مأساوي نلتزم بفهمها وتضميدها".
وأعرب عن امتنانه للقاءاته الخمسة في الفاتيكان حيث أصغى لممثلي الشعوب الأصليّة، وقال بأنّه سعيد بتجديد هذه العلاقات الطيبة في كندا اليوم. أضاف: "لقد ترك الوقت الذي قضيناه معًا انطباعًا لديّ، وترك رغبة قويّة في الاستجابة على السخط والعار على معاناة الشعوب الأصليّة، والمضي قدمًا في رحلة أخوية وصبورة مع جميع الكنديين، وفقًا للحقيقة والعدل والعمل من أجل الشفاء والمصالحة والرجاء على الدوام".
ولاحظ البابا أن "هذا التاريخ من المعاناة والازدراء، ثمرة عقلية الاستعمار، لا يشفى بسهولة". وبالإضافة إلى هذا الاعتذار، والتنديد بالمخالفات التي ارتكبت بحق السكان الأصليين، دعا البابا إلى التعدديّة. وقال إنّ "التعددية الثقافيّة أمر أساسي لتماسك مجتمع متنوّع مثل الألوان المرقطة لأوراق شجر القيقب".
واعترافًا بأن إدراج الوافدين الجدد يمكن أن يمثل تحديًّا ويتطلب قبول الاختلافات واحتضانها، أشاد البابا بكندا للكرم الذي أظهرته في قبول العديد من المهاجرين الأوكرانيين والأفغان. وحثّ على تجاوز "خطاب الخوف تجاه المهاجرين وإعطائهم، حسب إمكانيات البلد، فرصة ملموسة للانخراط بشكل مسؤول في المجتمع".
ولكي يحدث هذا، قال أنّه "لا غنى عن الحقوق والديمقراطيّة". وأشار البابا فرنسيس إلى أن الكنيسة الكاثوليكيّة "ببعدها العالمي، واهتمامها بالأكثر ضعفًا، وخدمتها العادلة للحياة البشريّة في كل لحظة من وجودها، من الحمل إلى الموت الطبيعي، يسعدها أن تقدّم مساهمتها الخاصة".
وتطرّق أيضًا إلى الحروب في العالم، حيث تدور الحرب في أوكرانيا، والعديد من الحروب التي تدور في العديد من مناطق العالم والتي غالبًا ما تُنسى. وقال: "لا داعي لتقسيم العالم إلى أصدقاء وأعداء، وخلق مسافات ومن جديد تسليح أنفسنا".
وأشار إلى أن "سباق التسلح واستراتيجيات الردع لن تجلب السلام والأمن". وناشد بالقول: "علينا أن نسأل أنفسنا ليس كيف نشن الحروب، ولكن كيف نوقفها"، داعيًا إلى "سياسات إبداعية وبعيدة النظر، قادرة على تجاوز تصنيفات المعارضة من أجل تقديم إجابات للتحديات العالمية".
وقال: "إنّ التحدّيات الكبيرة في عصرنا، مثل السلام وتغيّر المناخ وآثار الوباء وحركات الهجرة الدوليّة، تشترك جميعها في شيء واحد: أنها عالميّة؛ فهي تنظر إلى الجميع"، مشيرًا إلى أنه "نظرًا لأننا جميعًا نتحدّث عن ضرورة النظر إلى الكلّ، فالسياسة لا يمكن أن تظل حبيسة المصالح الحزبية"، حاثًا كل القوى على العمل "باتفاق مشترك، يدًا بيد" لمواجهة تحديات اليوم الملحة.
واختتم البابا فرنسيس كلمته بتقديم الشكر لكندا على كرم ضيافتها واهتمامها واحترامها.
وقال: "بعاطفة كبيرة، أؤكد لكم أن كندا وشعبها قريبون حقًا من قلبي".