موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
في إطار زيارته الرسوليّة إلى مرسيليا، ترأس البابا فرنسيس عصر السبت القداس الإلهي في ملعب فيلودروم، حيث أشار إلى أنّ القلب البارد وغير المبالٍ يصبح قاسيًا وغير حساس أمام جراح الضعفاء، وهو ما نراه اليوم في رفض العديد من المهاجرين، وعدد لا يحصى من الأطفال الذين لم يولدوا بعد والمسنين المهجورين.
وعلى النقيض من ذلك، ومتوقفًا عن "الإيمان الذي يهتز فرحًا"، قال البابا فرنسيس، إنّ قلوب أولئك الذين يؤمنون حقًا بالله ويعترفون بحضوره في أحداث الحياة اليوميّة، "تهتز فرحًا" في الداخل، و"يرقص" بفرح"، كما رقص داود أمام تابوت العهد.
وفيما يلي النص الكامل للعظة:
يروي الكتاب المقدّس أنّ داود الملك، بعد أنّ ثبَّتَ مملكته، قرّر أن ينقل تابوت العهد إلى أورشليم. لذلك، بعد أن دعا الشّعب، نَهضَ ومَضى ليأخذه، وفي أثناء الرّحلة، رَقَصَ هو نفسه أمام التّابوت مع النّاس، مُبتهجًا وفَرحًا بحضور الرّبّ (راجع صموئيل الثّاني 6، 1-15). وعلى خلفيّة هذا المَشهد، روى لنا لوقا الإنجيليّ زيارة مريم لنسيبتها أليصابات: قامت مريم أيضًا ومَضَت إلى منطقة أورشليم، ولمّا دخلت بيت أليصابات، عرف الطّفل الذي كانت تحمله في بطنها بوصول المسيح، فاهتزَّ فرحًا وبدأ يرقص، كما رقص داود أمام تابوت العهد (راجع لوقا 1، 39-45).
مريم هي تابوت العهد الحقيقيّ، الذي يقدّم الرّبّ المتجسّد إلى العالم. إنّها العذراء الشّابة التي ذهبت للقاء المرأة المُسنَّة والعاقر، التي وهي تحمل يسوع، صارت علامة على زيارة الله الذي يَغلِبُ كلّ عُقم. إنّها الأمّ التي صَعِدَت نحو جبال يهوذا، لتقول لنا إنّ الله انطلق نحونا، ليبحث عنّا بمحبّته، ويجعلنا نتهلَّلُ فرحًا.
في هاتَين المرأتَين، مريم وأليصابات، تظهر زيارة الله للبشريّة: واحدةٌ شابّة والأخرى مُسنَّة، واحدةٌ عذراء والأخرى عاقر، مع ذلك كلتاهما حامل بطريقة "مستحيلة". هذا هو عمل الله في حياتنا: يجعل ممكنًا حتّى ما يبدو لنا مستحيلًا، ويولّد الحياة حتّى في حالة العقم.
أيّها الإخوة والأخوات، لنسأل أنفسنا بصدق، سؤالًا من القلب: هل نؤمن بأنّ الله يعمل في حياتنا؟ وهل نؤمن بأنّ الرّبّ يسوع، وبطريقة خفيّة وغالبًا غير متوقَّعة، يعمل في التّاريخ، ويصنع العجائب، ويعمل أيضًا في مجتمعاتنا التي تتَّسِم بالعلمانيّة الدّنيويّة واللامبالاة الدينيّة؟
يوجد طريقة لنميِّز ونعرف هل نثق فعلًا بالرّبّ يسوع. ما هي الطّريقة؟ قال الإنجيل: "فلَمَّا سَمِعَت أَليصاباتُ سَلامَ مَريَم، ارتَكَضَ الجَنينُ في بَطنِها" (الآية 41). هذه هي العلامة: الاهتزاز فرحًا. مَن يؤمن، ومَن يصلّي، ومَن يتلقّى الرّبّ يسوع، يهتزّ في الرّوح القدس، ويشعر أنّ شيئًا ما يتحرّك في داخله، و"يرقص" فرحًا. وأودّ أن أقف عند هذا: الإيمان الذي يهتز فرحًا.
خبرة الإيمان تولِّد أوّلًا اهتزازًا وفرحًا أمام الحياة. والاهتزاز يعني أنّ شيئًا ”حدث في الدّاخل“، فنرتعش في داخلنا، ونشعر بأنّ شيئًا ما يتحرّك في قلبنا. وهذا نقيض قلب مسطَّح بارد، مستريح في حياة هادئة، صار مصفَّحًا باللامبالاة، لا شيء ينفذ إليه، ومتصلِّبًا، لا يُحِسُّ بشيء أو بأحد، حتّى ولا بمأساة من يرفض الحياة البشريّة، إذ يرفض الكثيرون الحياة اليوم، في أشخاصٍ كثيرين يهاجرون، وأيضًا في أطفالٍ كثيرين لم يولدوا بعد، وفي متقدّمين في السّن كثيرين متروكين. القلب البارد والمسطّح يجرّ الحياة وراءه بشكل آليّ، من دون عاطفة، ومن دون دوافع، ومن دون رغبة. وكلّ هذا، في مجتمعنا الأوروبي، يمكن أن يؤدّيَ بنا إلى أمراض متنوعة: التّصلّب أمام ألم الغير، وعدم الاهتمام، والاستسلام، والشّكّ في كلّ شيء، وشعور عام بالحزن. سَمَّى أحدهم هذه الأمراض، ”أهواء حزينة“: إنّها حياة من دون الاهتزاز فرحًا.
لكن، مَن وُلِدَ بالإيمان، يعترف بحضور الرّبّ يسوع، مثل الطّفل في بطن أليصابات. يتعرّف على عمل الله كلما برعمت الأيّام ونمَتْ، ويتلقّى عيونًا جديدة لينظر إلى الواقع. حتّى في وسط التّعب والمشاكل والألم، يرى زيارة الله كلّ يوم ويشعر أنّه يرافقه ويسنده. أمام سرِّ الحياة الشّخصيّة وتحدّيات المجتمع، الإنسان الذي يؤمن يشعر بهزَّة فرح، عاطفة وحُلمٌ ينمّيه، ومصلحة تدفعه إلى أن يلتزم شخصيًّا. الآن كلّ واحد منّا يمكن أن يسأل نفسه: هل أشعر بهذه الأشياء؟ هل لدي هذه الأشياء؟ الذي هو كذلك يعلَم أنّ الرّبّ يسوع حاضر في كلّ شيء، ويكلّمه، ويدعوه إلى أن يشهد للإنجيل لكي يبني عالمًا جديدًا بالوداعة، وبالعطايا والمواهب التي نالها.
تولّد خبرة الإيمان، بالإضافة إلى هزّةٍ أمام الحياة، هزّةً أمام القريب أيضًا. في الواقع، في سِرِّ الزِّيارة، نرى أنّ زيارة الله لم تتمّ من خلال أحداثٍ سماويّة وغير عاديّة، بل في لقاءٍ بسيط. أتى الله إلى باب بيت عائلةٍ، وفي عِناقٍ حنونٍ بين امرأتَين، وفي لقاء امرأتَين حاملَين مليئتَين بالدَّهشة والرَّجاء. وفي هذا اللقاء نجد اهتمام مريم، واندهاش أليصابات، وفرح المشاركة.
لنتذكّر ذلك دائمًا، في الكنيسة أيضًا، الله علاقة، ويزورنا دائمًا من خلال لقاءاتنا مع الناس، عندما نعرف كيف ننفتح على الآخر، وعندما نهتزُّ لحياة الذي يمرّ بجانبنا كلّ يوم، وعندما لا يبقى قلبنا غير متأثّر وغير حسّاس أمام جراح الأضعفين. مدننا الكبيرة ودولٌ أوروبيّة كثيرة مثل فرنسا، التي فيها تتعايش الثّقافات والأديان المختلفة، تشكِّل بهذا المعنى تحدّيًا كبيرًا أمام تفاقم الفرديّة، والأنانيّات والانغلاقات التي تؤدي إلى عزلة وآلام الكثيرين. لنتعلّم من يسوع أن نرتعش ونشعر بمَن يعيش بجانبنا، ولنتعلّم منه، كيف كان يتأثّر أمام الجموع المُتعَبَة والمُرهَقَة، ويشَعَر بالشّفقة تجاهها (راجع مرقس 6، 34)، كانت تهزه الرّحمة أمام كلّ بشر جريح كان يصادفه. وكما أكَّدَ أحد قدّيسيكم الكبار، وهو منصور دي بول: "يجب أن نحاول أن نليّن قلوبنا، ونجعلها حسّاسة لآلام القريب وبؤسه، وأن نصلّي إلى الله لكي يمنحنا روح الرّحمة الحقيقيّ، الذي هو روح الله، إلى حد أن نعترف أنّ الفقراء هم "أسيادنا" (مراسلات، مقابلات، وثائق، باريس 1920-1925، 341؛ 392-393).
أيّها الإخوة والأخوات، أفكّر في "هزّات" فرنسا الكثيرة، وفي تاريخها الغَنيّ بالقداسة والثّقافة والفنّانين والمفكّرين، الذين شُغِفَت بهم الأجيال. واليوم أيضًا، حياتنا، وحياة الكنيسة، وفرنسا، وأوروبا بحاجة إلى هذا: إلى نعمة تهُزُّنا، وإلى إيمانٍ يهُزُّنا من جديد، وإلى محبّة ورجاء. نحن بحاجة لأن نَجِدَ شغَفًا واندفاعًا، وأن نتذوّق من جديد طَعم الالتزام من أجل الأخوَّة، وأن نجرؤ مرّة أخرى ونقبل مغامرة الحبّ في العائلات وتجاه الأضعفين، وأن نَجِدَ من جديد في الإنجيل النّعمة التي تحوّل الحياة وتجعلها جميلة.
لننظر إلى مريم، التي أتعبت نفسها وأقدمت على السّفر. وهي تعلّمنا أنّ الله هو هكذا: إنّه يزعجنا، ويدعونا إلى الحركة، ويجعلنا "نهتزّ"، كما حصل مع أليصابات. نحن نريد أن نكون مسيحيّين يلتقون مع الله بالصّلاة ومع الإخوة بالمحبّة، ومسيحيّين يهتزّون طربًا ويرتعشون ويتلقّون نار الرّوح القدس، ويقبلون أن يحترقوا بأسئلة اليوم، وبتحدّيات البحر الأبيض المتوسّط، وبصرخة الفقراء، "وبأحلام مقدسة" في الأخُوّة والسّلام التي تنتظر أن تتحقَّق.
أيّها الإخوة والأخوات، أصلّي معكم إلى سيّدتنا مريم العذراء سيّدة الحماية، لتسهرَ على حياتكم، ولِتحرسَ فرنسا وأوروبّا كلّها، ولِتجعلَنا نهتزّ بالرّوح القدس. أريد أن أعبِّر عن ذلك بكلمات بول كلوديل (Paul Claudel): "رأيت الكنيسة مفتوحة. […] / ليس لديّ ما أقدّمه ولا ما أطلبه. / أتيت فقط، يا أمّي، لأنظر إليكِ. / أنظر إليكِ وأبكي من السّعادة، وأعرف هذا: / أنّي ابنك وأنّك هنا. […] وأن أكون معك يا مريم، في هذا المكان حيث أنتِ. […] / أنتِ هنا دائمًا، / ببساطة، لأنّك مريم/ ببساطة لأنّك موجودة، / أشكرك يا أمّ يسوع المسيح!" ("العذراء عند الظّهيرة"، قصائد من الحرب 1914-1916، باريس، 1922).