موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء،
يدعونا اليوم العالمي للصّلاة من أجل الدّعوات، في كلّ سنة، إلى التّأمّل في عطيّة الدّعوة الثّمينة التي يعطيها الله لكلّ واحد منّا، نحن شعبه الذي يسير، حتّى نتمكّن من المشاركة في مشروع حبِّه، ولنجسِّدَ جمال الإنجيل في حالات الحياة المختلفة. الإصغاء إلى دعوة الله ليس واجبًا مفروضًا علينا من الخارج، وليست الدّعوة مثالًا دينيًّا ننظر إليه، بل هي الطّريقة الآمنة التي نُشبِعُ بها الرّغبة في السّعادة التي نحملها في داخلنا: تتحقّق حياتنا وتكتمل عندما نكتشف مَن نحن، وما هي صفاتنا، وفي أيّ مجال يمكننا أن نستثمرها، وما هي الطّريق الذي يمكننا أن نسلكه لنصير علامةً وأداةً للمحبّة والتّرحيب والجمال والسّلام في كلّ بيئة نعيش فيها.
هذا اليوم هو إذًا فرصة جميلة لنتذكّر شاكرين أمام الله الالتزام الأمين واليومي، وقد يكون أحيانًا خفيًّا، للذين اعتنقوا دعوة تشمل حياتهم بأكملها. أفكِّر في الأمهات والآباء الذين لا ينظرون أوّلًا إلى أنفسهم ولا يتبعون أسلوب حياة سطحيّ، بل يبنون حياتهم على الاهتمام بالعلاقات، بمحبّة ومجانيّة، وينفتحون على هبة الحياة، ويضعون أنفسهم في خدمة الأبناء وتنشئتهم. وأفكِّر في الذين يقومون بعملهم بروح التّفاني والتّعاون، وفي الذين يلتزمون، في مجالات وبطرق مختلفة، لبناء عالم أكثر عدلًا، واقتصاد فيه تضامن أكثر، وفي سياسة أكثر إنصافًا، ومجتمع أكثر إنسانيّة. أفكِّر في جميع الرّجال والنّساء ذوي النّوايا الطّيّبة الذين يكرّسون أنفسهم للصّالح العام. أفكر في الأشخاص المكرَّسين الذين يقدّمون حياتهم لله في صلاة صامتة أو في العمل الرّسوليّ، وأحيانًا في أماكنَ على الحدود، ولا يدَّخرون طاقاتهم، ويتقدّمون بمواهبهم الخلّاقة ويضعونها في خدمة كلّ من يلتقونهم. وأفكِّر في الذين لَبَّوا الدّعوة إلى الكهنوت، وكرّسوا أنفسهم لإعلان الإنجيل، و”كسروا“ حياتهم مع خبز الإفخارستيا، من أجل إخوتهم، فزرعوا فيهم الأمل وأظهروا للجميع جمال ملكوت الله.
وللشّباب، وخاصّة للذين يشعرون بالبعد أو بعدم الثّقة تجاه الكنيسة، أريد أن أقول: اتركوا يسوع يجتذبكم، اطرحوا عليه أسئلتكم المهمّة، ومن خلال صفحات الإنجيل، اسمحوا لأنفسكم بأن يثير يسوع فيكم القلق، الذي يثير فيكم أزمة مفيدة. ويسوع يحترم حريتكم أكثر من كلّ موجود، فهو لا يفرض نفسه بل يقدِّم نفسه لكم: اتركوا له مكانًا في نفوسكم، وستجدون سعادتكم في اتّباعه، حتّى إذا طلب منكم أن تبذلوا حياتكم كلّها له.
شعب يسير
إن تنسيق المواهب والدّعوات، التي تعترف بها الجماعة المسيحيّة وترافقها، يساعدنا على فهم هويتنا فهمًا كاملًا كمسيحيّين: نحن شعب الله الذي يسير في طرقات العالم، يحرّكه الرّوح القدس، ونحن الحجارة الحيّة في جسد المسيح. كلّ واحد منا يكتشف نفسه أنّه عضو في عائلة كبرى، ابنًا للآب، وأخًا أو أختًا لكلّ إخوته وأخواته. لسنا جزرًا منغلقة على أنفسنا، بل نحن جزء من كلّ. لهذا، يحمل هذا اليوم العالميّ للصّلاة من أجل الدّعوات طابع السّينوديّة: المواهب كثيرة، وكلّنا مدعوّون إلى الإصغاء بعضنا إلى بعض، وإلى السّير معًا لنكتشف هذه المواهب ونعرف إلى أيّ منها يدعونا الرّوح من أجل خير الجميع.
وفي اللحظة التاريخيّة الحاليّة، تقودنا مسيرتنا المشتركة إلى سنة اليوبيل 2025. نحن نسير، حجَّاجًا نحمل الرّجاء، نحو السّنة المقدّسة، وإذا ما اكتشفنا دعوتنا وارتبطنا بمواهب الرّوح المختلفة، أمكننا أن نكون في العالم حاملين لحلم يسوع وشهودًا له، فنُكَوِّنَ عائلة واحدة، يوحِّدُها حبّ الله، ويشدِّدها رباط المحبّة والمشاركة والأُخُوَّة.
هذا اليوم مخصَّص للصّلاة لنطلب من الآب عطيّة الدّعوات المقدّسة لبناء ملكوته: "اسأَلوا رَبَّ الحَصَاد أَن يُرسِلَ عَمَلَةً إِلى حَصادِه" (لوقا 10، 2). والصّلاة، كما نعلَم، هي إصغاء إلى الله أكثر منها كلام منّا إليه. الله يكلِّم قلوبنا ويريد أن يجدها منفتحة وصادقة وسخيّة. كلمته صار جسدًا في يسوع المسيح، الذي يكشف لنا مشيئة الآب ويبلِّغنا إياها. في هذه السّنة 2024، المخصّصة للصّلاة استعدادًا لليوبيل، نحن مدعُوُّون إلى اكتشاف هذه الهبة التي لا تُثَمَّن، والتي هي القدرة على الحوار مع الله، حوارًا من القلب إلى القلب، فنصير حجّاجًا للرّجاء، لأنّ "الصّلاة هي أوّل قوّة تسند الرّجاء. صَلّوا والرّجاء ينمو، وَتقدَّموا. أودّ أن أقول إنّ الصّلاة تفتح باب الرّجاء. الرّجاء موجود، ولكن بصلاتي أفتح له الباب" (التّعليم المسيحيّ، 20 أيّار 2020).
حجَّاج يحملون الرّجاء ويبنون السّلام
ولكن ماذا يعني أن تكون حاجًّا؟ من يقوم بالحجّ يسعى أوّلًا لأن يحدد لنفسه الهدف، ويحمله دائمًا في قلبه وعقله. ولكن في الوقت نفسه، للوصول إلى الهدف، لا بدّ من التّركيز على الحاضر، حتّى تعرف ماذا يجب أن تترك، وما هي الأثقال غير الضّروريّة التي يجب أن تتخلَّص منها، فتحمل الأساسيّات، وتجاهد كلّ يوم حتّى لا يغلبك ويوقفك عن المسير التّعب ولا الخوف أو عدم اليقين أو الظّلام. أن تكون حاجًّا يعني أن تنطلق كلّ يوم، وأن تبدأ من جديد كلّ يوم، وأن تجد كلّ يوم الاندفاع نفسه، والقوّة نفسها، لاجتياز مختلف مراحل الرّحلة التي تفتح أمامنا كلّ يوم، على الرّغم من التّعب والصّعوبات، آفاقًا جديدة ومشاهد مجهولة.
معنى الحجّ المسيحيّ هو هذا: نحن نسير في رحلة لاكتشاف حبّ الله، وفي الوقت نفسه، لاكتشاف أنفسنا، من خلال رحلة داخليّة، تحفِّزُها دائمًا علاقات كثيرة. إذًا، نحن حجّاج لأنّنا مدعُوُّون: مدعُوُّون إلى محبّة الله ومحبّة بعضنا البعض. ولهذا فإنَّ مسيرتنا على هذه الأرض لا تؤدّي أبدًا إلى تعب لا غاية له، أو إلى متاهة بلا هدف. على العكس، نستجيب لدعوتنا، فنسعى لاتخاذ الخطوات الممكنة نحو عالم جديد، حيث نعيش في سلام وعدل ومحبّة. نحن حجّاج الرّجاء لأنّنا نتوجَّه إلى مستقبل أفضل ونلتزم ببنائه ونحن نسير.
هذا هو، أخيرًا، الهدف لكلّ دعوة: أن نصير رجالًا ونساء نحمل الرّجاء. نحن جميعًا، أفرادًا وجماعات، في مختلف المواهب والخدمات، مدعُوُّون إلى تحقيق رجاء الإنجيل وجعله القلب في عالم مليء بالتحدِّيات التاريخيّة: التّهديد بحرب عالميّة ثالثة تدريجيّة، وجموع المهاجرين الذين يهربون من أراضيهم بحثًا عن مستقبل أفضل، والزيادة المستمرّة في عدد الفقراء، وخطر الإضرار بسلامة كوكبنا بشكل لا رجعة فيه. وإلى كلّ هذا نضيف الصّعوبات التي نواجهها في كلّ يوم، والتي قد تدفعنا أحيانًا إلى الاستسلام أو الانهزاميّة.
في عصرنا هذا، من المهمّ بالنّسبة لنا نحن المسيحيّين أن ننَمِّيَ في أنفسنا نظرة مليئة بالرّجاء، لكي نتمكّن من العمل بشكل مثمر، ونستجيب للدّعوة الموكولة إلينا، في خدمة ملكوت الله، ملكوت المحبّة، والعدل، والسّلام. ويقول لنا القدّيس بولس إنّ هذا الرّجاء "لا يُخَيِّبُ" (رومة 5، 5)، لأنّه الوعد الذي وعدنا به الرّبّ يسوع بأن يبقى معنا دائمًا وأن يُشرِكَنا في عمل الفداء الذي يريد أن يحقّقه في قلب كلّ إنسان وفي ”قلب“ الخليقة. وهذا الرّجاء يجد قوته الدّافعة في قيامة المسيح، التي "تحتوي على قوّة الحياة التي اخترقت العالم. وحيث يبدو أنّ كلّ شيء قد مات، تعود وتظهر براعم القيامة في كلّ مكان. إنّها قوّة لا مثيل لها. صحيح أنّه يبدو في كثير من الأحيان أنّ الله غير موجود: حين نرى الظّلم والشّرّ واللامبالاة والقسوة المستمرّة. ولكن من المؤكّد أيضًا أنّه في وسط الظّلام يبدأ يزهر شيء جديد، سيثمر عاجلًا أم آجلًا" (الإرشاد الرّسوليّ، فرح الإنجيل، 276). مرّة أخرى يقول الرّسول بولس إنّنا "في الرَّجاءِ نِلْنا الخَلاص" (رومة 8، 24). إنّ الفداء الذي تمّ تحقيقه في يوم الفصح يمنح الرّجاء، رجاء أكيدًا وموثوقًا، يمكننا به مواجهة تحديّات الحاضر.
أن نكون حجَّاجَ رجاء وبناة سلام يعني إذًا أن نؤسّس حياتنا على صخرة قيامة المسيح، عالمين أنّ كلّ التزام نقوم به، في الدّعوة التي قبلناها وما زلنا نعيشها، ليست عبثًا. وعلى الرّغم من الإخفاقات والانتكاسات، فإنّ الخير الذي نزرعه ينمو بصمت، ولا شيء يمكن أن يفصلنا عن الهدف النّهائي: اللقاء مع المسيح وفرح العيش في الأخُوّة بيننا إلى الأبد. علينا أن نستبق هذه الدّعوة الأخيرة كلّ يوم: إنّ علاقة المحبّة مع الله ومع الإخوة تبدأ منذ الآن بتحقيق حلم الله، حلم الوِحدة والسّلام والأخوّة. لا ينبغي لأحد أن يشعر بأنّه مُستَبعَدٌ من هذه الدّعوة! كلّ واحد منّا، مهما كان صغيرًا، مهما كان وضع حياته، يمكنه أن يكون، بمساعدة الرّوح القدس، زارع رجاء وسلام.
الشّجاعة للمجازفة
من أجل كلّ هذا أقول مرّة أخرى، كما في اليوم العالميّ للشّباب في لشبونة: ”قوموا! - استيقظوا!“. لنستيقظ من النّوم، ولنخرج من اللامبالاة، ولنكسر قضبان السّجن الذي حبسنا أنفسنا فيه أحيانًا، حتّى يتمكّن كلّ واحد منّا من اكتشاف دعوته في الكنيسة وفي العالم، ويصير حاجًّا يحمل الرّجاء ويبني السّلام. لنكن شغوفين بالحياة ولنُلزِمْ أنفسنا برعاية من حولنا بمحبّة، ورعاية البيئة التي نعيش فيها. أكرّر: تشجّعوا وغامروا. الأب أوريستي بنتسي (Don Oreste Benzi) رسول المحبّة الذي لا يكلّ، والذي يقف دائمًا إلى جانب الأقلّ حظًا والذين لا حامي لهم، كان يقول: لا يوجد أحد فقيرًا لدرجة أنّه لا يملك شيئًا يعطيه، ولا يوجد أحد غنيًّا لدرجة أنّه لا يحتاج إلى شيء من غيره.
فلننهض إذًا، وننطلق حجَّاجًا للرّجاء. لأنّه، كما فعلت مريم مع القدّيسة أليصابات، يمكننا نحن أيضًا أن نحمل بشارة فرح، ونولِّد حياة جديدة، ونكون صانعيّ أخُوَّة وسلام.