موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، صباح الخير!
في درس التّعليم المسيحيّ اليوم، أودّ أن أتأمّل معكم في الاسم الذي يُدعى به الرّوح القدس في الكتاب المقدس.
أوّل شيء نعرفه عن الشّخص هو اسمه. وبه نسمّيه ونميِّزه ونتذكّره. الأقنوم الثّالث من الثّالوث الأقدس له أيضًا اسم: يُدعى الرّوح القدس. لكن لفظة (Spirito) أي ”الرّوح“، هو الاسم في اللغات اللاتينيّة. اسم الرّوح، الذي عرفه أوّل من أرسل الله إليهم الوحيّ، والذي به ابتهل الأنبياء ومؤلّفو المزامير ومريم ويسوع والرّسل، هو "الرّيح " (Ruach)، ومعناه نسمة، ريح، نفَس.
الاسم في الكتاب المقدّس مهمّ جدًّا، فهو مرتبط بالشّخص نفسه. فتقديس اسم الله هو تقديس وإكرام الله نفسه. فالاسم ليس عادة أو تقليدًا فقط. بل له معنى مرتبط بالشّخص وأصله ورسالته. وينطبق الشّيء نفسه على الرّوح (Ruach). فهو يعني الوحيّ الأساسيّ الأوّل عن الشّخص وعن عمل الرّوح القدس.
وبمراقبة الرّيح ومظاهره، أرشد الله مؤلّفي الكتاب المقدّس إلى اكتشاف ”ريح“ ذات طبيعة مختلفة. وليس من قبيل الصّدفة أن نزل الرّوح القدس على الرّسل في يوم العنصرة مصحوبًا "بدَوِيّ كَريحٍ عاصِفَة" (أعمال الرسل 2، 2). وكأنّ الرّوح القدس أراد أن يطبع سِمَتَه في ما كان يحدث.
فماذا يقول لنا اسم الرّيح (Ruach) عن الرّوح القدس؟ صورة الرّيح تفيد أوّلًا للتعبير عن قدرة الرّوح القدس. ”الرّوح والقدرة“ أو ”قدرة الرّوح“ هي صورة ذات حدَّين تتكرّر في كلّ الكتاب المقدّس. في الواقع، الرّيح هي قوّة دافعة لا تُقهر، وقادرة حتّى على تحريك المحيطات.
ولكن حتّى في هذه الحالة، لكي نكتشف المعنى الكامل للواقع الذي يذكره الكتاب المقدّس، يجب ألّا نتوقف عند العهد القديم، بل يجب أن نصل إلى يسوع. إلى جانب القوّة، سيسلِّط يسوع الضّوء على ميزة أخرى للرّيح، وهي الحرّيّة. قال يسوع لنيقوديمُس الذي جاء إليه ليلًا، معلِّمًا وبصورة رسمية: "الرِّيحُ تَهُبُّ حَيثُ تَشاء، فتَسمَعُ صَوتَها، ولكنَّكَ لا تَدْري مِن أَينَ تَأتي وإِلى أَينَ تَذهَب. تِلكَ حالَةُ كُلِّ مَولودٍ لِلرُّوح" (يوحنّا 3، 8).
الرّيح هي الأمر الوحيد الذي لا يمكن تقييده، ولا يمكن ”حصرها في زجاجة“ أو ضمن أيّ حدود. إن حاولنا أن نحصر الرّوح القدس في مفاهيم أو تعريفات أو أطروحات أو مؤلّفات، كما حاول أن يفعل ذلك أصحاب المذهب العقلي الحديث، هذا يعني أن نفقده ونلاشيه، وأن نحصره في مفهوم إنسانيّ محض بسيط. مع ذلك، يوجد تجربة مماثلة في المجال الكنسيّ أيضًا، وهي أنّنا نريد أن نحدّد الرّوح القدس في قوانين ومؤسّسات وتعريفات. الرّوح القدس يخلق ويحيي المؤسّسات، لكن لا يمكن أن يكون هو نفسه ”مؤسّسة“. الرّيح تهبّ ”حيث تشاء“، وهكذا الرّوح القدس يوزّع مواهبه ”كما يشاء“ (1 قورنتس 12، 11).
سيجعل القدّيس بولس من ذلك كلّه القانون الأساسيّ للعمل المسيحيّ، قال: "حَيثُ يَكونُ رُوحُ الرَّبّ، تَكون الحُرِّيَّة" (2 قورنتس 3، 17). الشّخص الحرّ، المسيحيّ الحرّ، هو الذي يملأه روح الرّبّ. إنّها حرّيّة خاصّة جدًّا، وتختلف كلّ الاختلاف عمّا يُفهَم عامة بهذه اللفظة. ليست الحرّيّة في أن نصنع ما نريد، بل الحرّيّة في أن نصنع ما يريده الله وبحرّيّة! وليست الحرّيّة في أن نختار بين الخير أو الشّرّ، بل أن نصنع الخير، ونحن أحرار، منجذبين إلى الخير، لا أحد يُكرِهنا عليه. بعبارة أخرى، أن يكون لدينا حرّيّة الأبناء، لا حرّيّة العبيد.
أدرك القدّيس بولس جيّدًا إمكانيّة سوء استعمال الحرّيّة أو قلَّة فَهمها. كتب إلى أهل غلاطية ما يلي: "إِنَّكم، أَيُّها الإِخوَة، قد دُعيتُم إِلى الحُرِّيَّة، بِشَرطٍ واحِدٍ وهو أَن لا تَجعَلوا هذِهِ الحُرِّيَّةَ فُرصَةً لِلجَسَد، بل بِفَضلِ المَحَبَّةِ اخدِموا بَعضُكم بَعضًا" (غلاطية 5، 13). هذه هي الحرّيّة التي يتمّ التّعبير عنها في ما يبدو معارضًا لها، أي في الخدمة، وفي الخدمة يوجد الحرّيّة الحقيقيّة.
نعلَم جيّدًا متى تصير هذه الحرّيّة ”فُرصَةً لِلجَسَد“. أورد بولس قائمة تنطبق على أيامنا أيضًا: "الزِّنى والدَّعارةُ والفُجور وعِبادةُ الأَوثانِ والسِّحرُ والعَداوات والخِصامُ والحَسَدُ والسُّخْطُ والمُنازَعاتُ والشِّقاقُ والتَّشيُّع والحَسَدُ والسُّكْرُ والقَصْفُ وما أَشبَه" (غلاطية 5، 19-21). والحرّيّة التي تسمح للأغنياء بأن يستغلّوا الفقراء، وللأقوياء بأن يستغلّوا الضّعفاء، وللجميع بأن يستغلّوا البيئة دون عقاب، هذه أيضًا فرصة للجسد. إنّها حرّيّة سيّئة، وليست حرّيّة الرّوح القدس.
أيّها الإخوة والأخوات، أين يمكننا أن نجد حرّيّة الرّوح القدس هذه، التي تتعارض مع حرّيّة الأنانيّة؟ الجواب في الكلمات التي وجّهها يسوع يومًا لمستمعيه، قال: "فإِذا حَرَّرَكُمُ الِابنُ كُنتُم أَحرارًا حَقًّا" (يوحنّا 8، 36). لنطلب من يسوع أن يجعلنا، بروحه القدّوس، رجالًا ونساءً أحرارًا حقًّا. أحرارًا لكي نخدم، في المحبّة والفرح. شكرًا!