موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
"إن الجماعة الكنسيّة تعيش في انسجام فرح وأخوي بقدر ما يسير أعضاؤها في طريق التواضع، رافضين التفكير والتحدّث بسوء عن بعضهم البعض". هذا ما جاء في خطاب البابا فرنسيس إلى الكوريا الرومانيّة، لمناسبة عيد الميلاد المجيد، مجدّدًا تحذيره من الآثار المدمّرة للشائعات السلبية والنميمة التي، كما قال، "تدمّر الروابط، وتسمّم القلوب، ولا تؤدي إلى أية نتيجة".
وركز البابا فرنسيس على حثّ القديس بولس الرسول على "البركة وعدم اللعن" (الرسالة إلى أهل روما 12، 14)، وهو موضوع خطابه، مشجّعًا أعضاء الكوريا الرومانيّة على الامتناع عن الكلام الخبيث، وبدلاً من ذلك، تعزيز مجتمع عمل متناغم ومبتهج.
استهلّ اللقاء بكلمة للكاردينال جوفاني باتيستا ريه، سلط فيها الضوء على زماننا الحاضر الذي يشهد حروبًا في مختلف أنحاء العالم، وأعمالاً لا إنسانيّة وفظائع تُدمي القلب. وتعليقًا على ما قاله الكاردينال الإيطاليّ، استهل البابا فرنسيس خطابه متوقفًا عند الحرب المستمرّة في قطاع غزة، حيث قتلت الغارات الجويّة الإسرائيليّة، الجمعة، ما لا يقل عن 25 فلسطينيًا، من بينهم سبعة أطفال من عائلة واحدة في مخيم جباليا، بينما تواصل إسرائيل قصف المناطق المدمّرة بالفعل.
وقال: "تحدّث الكاردينال ريه عن الحرب. بالأمس، لم يُسمح للبطريرك [بطريرك القدس للاتين] بدخول غزة، كما وعدوا؛ وأمس تمّ قصف الأطفال. هذه وحشيّة. هذه ليست حربًا. أريد أن أقول هذا لأنه يمسّ القلب. شكرًا لك على هذه الإشارة، نيافة الكاردينال، شكراً لك!".
ثم تابع الحبر الأعظم التأمل في فضيلة التواضع وأهميتها العميقة للحياة المسيحيّة والمجتمع، وربطها بسرّ التجسّد. وقال: إنّ التحدّث بشكل جيّد، وعدم التحدّث بالسوء، هو تعبير عن التواضع. والتواضع هو علامة التجسّد، وخاصة سرّ ميلاد الرّب الذي نحن على وشك الاحتفال به.
وكطريقة لتنمية التواضع، اقترح البابا فرنسيس ممارسة اتهام النفس، على غرار ما فعله العديد من قديسي القرون الأولى، مثل دوروثيوس من غزة. دعت حكمة دوروثيوس إلى التأمل الذاتي وتحويل الأفكار السلبية عن الآخرين إلى أفكار إيجابية.
وأشار البابا فرنسيس إلى أن اتهام النفس "هو الأساس لقدرتنا على قول "لا" للفردية و"نعم" للعيش ضمن جماعة كنسيّة" حيث "يكون الجميع حراسًا لبعضهم البعض، ويسيرون معًا في التواضع والمحبة"، و"يتحرّرون تدريجيًّا من الشك وعدم الثقة، ويترك فسحة لعمل الله".
وقال: "عندما يرى المرء عيبًا في شخص ما، لا يستطيع أن يتحدّث إلا مع ثلاثة أشخاص: مع الله، ومع الشخص المعنيّ، وإذا لم يستطع أن يتحدث مع الشخص، فإنه يستطيع أن يتحدّث مع الشخص في الجماعة الذي يمكنه أن يهتمّ بالأمر. لا أكثر من ذلك".
وأوضح البابا فرنسيس بأنّ ممارسة اتهام الذات تعكس "تنازل" (synkatabasis) الله في التجسّد، وهو عمل من أعمال التواضع الإلهي حيث "اختار العليّ أن يصبح صغيرًا، مثل حبة الخردل، مثل بذرة رجل في رحم امرأة"، آخذًا على عاتقه عبء خطيئة العالم التي لا تُحتمل.
وتابع إنّ هذا الأمر يتجسّد في العذراء مريم، التي شاركت طواعيّة في خطة الله بتواضع، مما جعلها نموذجًا لهذه الفضيلة اللاهوتية: "لم يكن لديها سبب لاتهام الذات، ومع ذلك اختارت بحريّة أن تتعاون بشكل كامل في تنازل الله، وفي اتضاع الابن وفي نزول الروح القدس".
وذكر أن تجسّد الكلمة يظهر لنا أن الله لم يلعننا، بل على العكس، باركنا، وأكد أنه "لأننا بوركنا من قبل الله، لا بدّ أن نبارك الآخرين بدورنا، وإلا أصبحنا مثل الجداول الجافة، التي لا تحمل قطرة مياه واحدة". ولفت إلى أنّ هذه البركة تنبع من الغوص الكامل في نعمة الله، من خلال "لحظات اللقاء والصداقة، وبروح الانفتاح والكرم"، والتي يمكن أن تساعدنا على إعطاء حياة جديدة لعمل المكتب الذي قد يصبح جافًا لولا ذلك.
ولفت إلى أن العمل ضمن بيئة المكتب لا يغني الإنسان، لذا لا بدّ أن يتغذى المرء من الخبرات الرعوية، ومن لحظات اللقاء والعلاقات الودية والخدمة المجانية. ومن الأهميّة بمكان أن نشارك سنويًّا في الرياضات الروحية، لكي نغوص بالكامل في نعمة الله. وإذا ما انغمس قلبُنا في هذه البركة الإلهية، نصبح قادرين بالتالي على مباركة الجميع، بما في ذلك الشخص الغليظ العشرة، أو من عاملنا بالسوء.
وواصل البابا فرنسيس حديثه أمام أعضاء الكوريا الرومانيّة مؤكدًا أنه باعتبارنا أعضاء في الكنيسة "علامة وأداة لبركة الله للبشرية"، فإننا جميعًا مدعوون إلى أن نصبح "صانعي بركة"، وأن نتصوّر الكنيسة كنهر واسع يتفرّع إلى جداول عديدة لجلب بركة الله للعالم.
ووصف الكوريا الرومانيّة بأنها "ورشة عمل" حيث تساهم الأدوار المتنوعة في هذه المهمة: "أحب أن أفكر في الكوريا الرومانية كورشة عمل كبيرة يوجد فيها عدد لا يحصى من الوظائف المختلفة، ولكن حيث يعمل الجميع لنفس الغرض: مباركة الآخرين، ونشر بركة الله والكنيسة الأم في العالم".
وأشاد البابا بشكل خاص بالعمل "الخفي" الذي يقوم به موظفو المكاتب الذين يقومون بإعداد الرسائل ونقل البركات إلى الأفراد المحتاجين. وقال إن عملهم المتواضع هو "وسيلة لنشر البركات"، إنه "طريق الله نفسه، الذي يتنازل في يسوع ليشارك في حالتنا البشرية، وبالتالي يمنحنا بركاته".
وفي ختام كلمته، شجّع البابا فرنسيس أعضاء الكوريا الرومانيّة على تبني التواضع والعيش كـ"صناع نعمة" حقيقيين في العالم، من خلال عدم التحدث بسوء عن الآخرين: "لا يمكننا أن نكتب البركات، ثم نتحدّث بسوء عن أخينا أو أختنا"، كما قال.