موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ٥ يونيو / حزيران ٢٠٢٢
البابا في أحد العنصرة: الروح القدس ذكرى فاعلة تُشعل وتُعيد إحياء محبة الله في قلوبنا

فاتيكان نيوز :

 

بمناسبة عيد العنصرة ترأس الكاردينال جوفاني باتيستا ريه صباح يوم الأحد القداس الإلهي في بازيليك القديس بطرس بحضور قداسة البابا فرنسيس، وللمناسبة ألقى الأب الأقدس عظة قال فيها في الجملة الأخيرة من الإنجيل الذي سمعناه، قال يسوع شيئًا يمنحنا الرجاء ويجعلنا نفكّر في الوقت عينه. يقول للتلاميذ: "الرُّوحَ القُدُس الَّذي يُرسِلُه الآبُ بِاسمي هو يُعَلِّمُكم جَميعَ الأشياء ويُذَكِّرُكُم جَميعَ ما قُلتُه لَكم". تؤثر فينا هاتان العبارتان "جَميع الأشياء" و"جَميعَ ما قُلتُه لَكم" ونسأل أنفسنا: بأي معنى يعطي الروح القدس هذا الفهم الجديد والكامل للذين يقبلونه؟ إنها ليست مسألة كمِّية لأنَّ الله لا يريد أن يصنع منا موسوعات أو علماء. لا. إنها مسألة جودة ومنظور. إنَّ الروح القدس يجعلنا نرى كل شيء بطريقة جديدة، بحسب نظرة يسوع، وأود أن أعبر عن ذلك بهذه الطريقة: في مسيرة الحياة العظيمة، هو يعلمنا من أين ننطلق، وما هي المسارات التي يجب أن نسلكها وكيف علينا أن نسير.

 

تابع البابا فرنسيس يقول أولا: من أين ننطلق. في الواقع، يرينا الروح القدس نقطة انطلاق الحياة الروحية. وما هي؟ يتحدث يسوع عنها في الآية الأولى اليوم، حيث يقول: "إِذا كُنتُم تُحِبُّوني، حَفِظتُم وَصاياي". إِذا كُنتُم تُحِبُّوني، حَفِظتُم: هذا هو منطق الروح القدس. لكننا غالبًا ما نفكر بالعكس: إذا حفظنا، فنحن نحب. لقد اعتدنا على التفكير في أن الحب ينبع أساسًا من التزامنا ومهارتنا وتديننا؛ ولكنَّ الروح القدس يذكِّرنا أنه بدون الحب في الأساس يكون كل شيء آخر باطلاً. وأن هذا الحب لا يولد من قدراتنا وإنما هو عطية منه. إنه روح المحبة الذي يضع المحبة فينا، وهو الذي يجعلنا نشعر بأننا محبوبون ويعلمنا أن نحب. إنه "محرك" حياتنا الروحية. هو نفسه يذكرنا بهذا، لأنه ذكرى الله، الذي يذكرنا بجميع كلمات يسوع. الروح القدس هو ذكرى فاعلة تشعل وتعيد إحياء محبة الله في قلوبنا؛ وقد اختبرنا حضوره في مغفرة الخطايا عندما امتلأنا بسلامه وحريته وعزائه. من الجوهري أن نُغذّي هذه الذاكرة الروحية. نحن نتذكر على الدوام الأشياء الخاطئة: غالبًا ما يتردد فينا صدى ذلك الصوت الذي يذكرنا بفشلنا وعيوبنا، والذي يقول لنا: "انظر، سقطة أخرى، خيبة أمل أخرى، لن تنجح أبدًا، أنت غير قادر". أما الروح القدس فيذكرنا بشيئ آخر: "أنتَ ابن الله، أنتِ ابنة الله، أنت مخلوق فريد، ومختار، ثمين ، ومحبوب على الدوام: حتى لو فقدت الثقة بنفسك، فإن الله يثق بك!".

 

أضاف الأب الأقدس يقول ولكن يمكنك أن تعترض: إنها كلمات جميلة، ولكن لدي الكثير من المشاكل والجراح والهموم التي لا يتمُّ حلها بتعزيات سهلة! حسنًا، هذا هو المكان الذي يطلب فيه الروح أن يكون قادرًا على الدخول. لأنه هو المعزي، إنّه روح الشفاء والقيامة، ويمكنه أن يحوِّل تلك الجراح التي تُحرقك من الداخل. هو يعلمنا ألا نقطع ذكريات الأشخاص والمواقف التي أساءت إلينا، وإنما أن نسمح لها بأن تُقيم في حضوره. هكذا فعل مع الرسل وإخفاقاتهم. كانوا قد تخلوا عن يسوع قبل الآلام، وبطرس كان قد أنكره، و بولس قد اضطهد المسيحيين: كم من الأخطاء، وما أكبر الشعور بالذنب! وحدهم لم يكن هناك من مخرج. وحدهم لا؛ أما مع المعزي فنعم. لأن الروح يشفي الذكريات. كيف؟ من خلال إعادة ما يهم إلى رأس القائمة: ذكرى محبة الله، ونظرته لنا. وهكذا يُنظم حياتنا: يعلّمنا أن نقبل بعضنا البعض، وأن نغفر لبعضنا البعض، وأن نتصالح مع الماضي، وأن نبدء من جديد.

 

تابع الحبر الأعظم يقول بالإضافة إلى تذكيرنا بنقطة الانطلاق، يعلمنا الروح أي طرق علينا أن نسلكها. ونتعلم ذلك من القراءة الثانية، التي يوضح فيها القديس بولس أن "الذين ينقادون لروح الله"، "لا يسلكون سبيل الجسد، بل سبيل الروح". بمعنى آخر، عندما نكون أمام مفترق طرق الحياة، يقترح علينا الروح القدس أفضل طريق يجب اتباعه. لذلك من المهم أن نعرف كيف نميِّز صوته عن صوت روح الشر. لنعطِ بعض الأمثلة: الروح القدس لن يقول لك أبدًا أن كل شيء على ما يرام في مسيرتك. لا، هو يصلحك، ويقودك أيضًا إلى البكاء على خطاياك؛ ويحفزك على التغيير وعلى محاربة أكاذيبك وازدواجيتك، حتى لو تطلَّب ذلك جهدًا وصراعًا داخليًا وتضحية. أما الروح الشرير فيدفعك إلى فعل ما تريده وما تحبه؛ ويقودك إلى الاعتقاد بأن لديك الحق في استخدام حريتك كما يحلو لك. ولكن بعد ذلك، عندما تبقى مع الفراغ في داخلك، يتَّهِمُك ويلقي بك على الأرض. إنَّ الروح القدس، الذي يصلحك في مسيرتك، لا يتركك على الأرض أبدًا، بل يمسكك بيدك ويعزّيك ويشجعك على الدوام. كذلك، عندما ترى أن المرارة والتشاؤم والأفكار الحزينة تتحرك فيك، من الجيد أن تعرف أن هذا لا يأتي أبدًا من الروح القدس. بل يأتي من الشر، الذي يرتاح في السلبية وغالبًا ما يستخدم هذه الاستراتيجية: يغذي عدم التسامح ودور الضحيّة، ويجعلك تشعر بالحاجة إلى الشعور بالأسف على نفسك، والرد على المشاكل من خلال النقد، وإلقاء اللوم على الآخرين. ويجعلنا متوترين وشكّاكين ومتذمرين. أما الروح القدس فيدعونا لكي لا نفقد الثقة أبدًا ولكي نبدأ من جديد على الدوام. كيف؟ بالمشاركة أولاً، دون أن ننتظر أن يبدأ شخص آخر. ومن ثم من خلال حملنا إلى كل شخص نلتقي به الرجاء والفرح وليس الشكاوى؛ ومن خلال عدم الشعور بالحسد إزاء الآخرين، وإنما بالفرح لنجاحاتهم.

 

أضاف البابا فرنسيس يقول كذلك، الروح القدس هو ملموس، وليس مثاليًا: فهو يريدنا أن نركز على الحاضر، لأن المكان الذي نحن فيه والوقت الذي نعيش فيه هما مكانا نعمة. أما روح الشر فيريد أن يشتت انتباهنا عن الحاضر، ويأخذنا بذهننا إلى مكان آخر: غالبًا ما يُرسخنا في الماضي: في الندم، والحنين، وفي ما لم تعطنا الحياة إياه. أو يوجهنا إلى المستقبل، ويغذي المخاوف، والأوهام، والآمال الزائفة. لكن الروح القدس لا يفعل ذلك، بل يحملنا لكي نُحبَّ هنا والآن: لا عالمًا مثاليًا وكنيسة مثالية، وإنما ما هو موجود، في الشفافية والبساطة. ما أكبر الفرق مع الشرير الذي يثير الأشياء التي تقال من وراء ظهرنا والشائعات والثرثرة!

 

تابع الحبر الأعظم يقول إنَّ الروح القدس يريدنا معًا، يؤسسنا ككنيسة واليوم - الجانب الثالث والأخير - يعلِّم الكنيسة كيف تسير. لقد كان التلاميذ مختبئين في العلية، ثم نزل الروح القدس وجعلهم يخرجون. بدون الروح القدس كانوا فيما بينهم فقط، مع الروح القدس انفتحوا على الجميع. في كل عصر، يقلب الروح القدس مخططاتنا ويفتحنا على حداثته، ويعلِّم الكنيسة على الدوام الضرورة الحيوية للخروج والانطلاق، والحاجة الفيزيولوجية للإعلان، لكي لا تبقى منغلقة على نفسها: ألا تكون قطيعًا يقوي الحظيرة، بل مرعى مفتوحًا لكي يتمكن الجميع من أن يتغذوا بجمال الله؛ وتكون منزلًا مضيافًا بدون جدران فصل. إن روح العالم يضغط علينا لكي نركز فقط على مشاكلنا ومصالحنا، وعلى الحاجة لأن نظهر مُهمِّين، وعلى الدفاع الثابت عن انتماءاتنا القومية والجماعية. أما الروح القدس فلا: هو يدعونا لكي ننسى ذواتنا وننفتح على الجميع. وهكذا تستعيد الكنيسة شبابها. ولكن لنتنبّه: هو الذي يعيد إليها شبابها ولسنا نحن. لأن الكنيسة لا تُبَرمَج أبدًا ومشاريع التحديث لا تكفي. إنَّ الروح القدس يحررنا من الهوس بالإلحاح ويدعونا لكي نسير على دروب قديمة وجديدة على الدوام، درب الشهادة والفقر والرسالة، لكي يحررنا من ذواتنا ويرسلنا إلى العالم.

 

وختم البابا فرنسيس عظته بالقول أيها الإخوة والأخوات لنضع أنفسنا في مدرسة الروح القدس لكي يعلمنا جَميع الأشياء. لنستدعيه يوميًّا، لكي يذكرنا أن ننطلق على الدوام من نظرة الله لنا، وأن نتحرك في خياراتنا من خلال الاصغاء إلى صوته، ونسير معًا، ككنيسة، مطيعين له ومنفتحين على العالم.