موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
في مساءِ ذلكَ اليوم، عندما كانَتْ حوَّاءُ تتمشَّى قليلًا في الجنَّة لوحدِها. خطرَ في ذهنِها سؤالٌ، وكانَ يُلحُّ عليها كثيرًا؛ لماذا أنا هنا، في هذا المكانِ تحديدًا، ولماذا نحنُ فقط، أنا وآدم؟ ألا يوجدُ آخر؟
بقيَ هذا السُّؤالُ يلحُّ عليها يُطالبها بالإجابة. عادَتْ بعدَها إلى آدمَ الَّذي نظرَ إليها فوجدَها غارقةً في أفكارِها. فسألها ما بها، فأجابَتْ بأنَّها تشعرُ بالضّيقِ والملل، وهي تجدُ أنَّ حياتهما فارغةٌ ناقصة.
استغربَ آدمَ مِنْ حوَّاء، فإنَّهُ يسمعُ هذهِ الكلماتِ لأوَّلِ مرَّة، ضيق... ملل... فراغ... لا يعرفُ معنى هذهِ الكلمات، إنَّها كأصواتٍ بالنَّسبةِ له.
فقال آدم: لا أفهمُ ما تقولين.
أجابت حوَّاء: ولا أنا أيضًا.
لقدْ كنتُ أتمشَّى قليلًا، ورأيتُ الأفعى ووصفَتْ لي حالتي وأعطتني هذهِ الكلمات.
ردَّ آدم: وكيف تشعرينَ نحوَ هذهِ الكلمات.
حوَّاء: بالضّيقِ والمللِ والفراغ... لستُ أعلم!
فقالَ آدم: وماذا تريدين الآن؟
أجابَت: لا أعلمُ أيضًا. لعلّي أذهبُ إلى الأفعى في الغدِ وأسألها.
آدم: فكرةٌ جيَّدة. هل تريدينَ أنْ أذهبَ معكِ؟
حوَّاء: لا. أُفضّلُ الذَّهابَ وحدي.
آدم: كما تريدين.
في صباحِ الغد، بكَّرَتْ حوَّاءُ باتّجاهِ مكانِ الأفعى. رأتها مِنْ بعيدٍ في أعلى شجرة، تنظرُ بانتباهٍ حولَها باحثةً عَنْ طعامِ نهارِها. فتوقَّفَ نظرُ الأفعى وكذلكَ لسانُها نحوَ حوَّاء، فرحَّبَت بها.
الأفعى: أهلًا يا صديقتي. كيف حالُكِ اليوم؟
حوَّاء: أهلًا بكِ. إنّي لستُ بخير، وقدْ جئتُكِ باكرًا كي تُساعديني.
الأفعى: ما بكِ؟ هل أصابكِ مكروه؟
حوَّاء: لا أعلمُ ما الأمر، ولكنْ أشعرُ بالضّيقِ والمللِ والفراغ كما قلتِ ليَ البارحة، ولا أعرفُ ماذا يجبُ أنْ أفعل.
الأفعى: ألمْ تفكّري بطلبِ المساعدةِ مِنْ زوجِك؟
حوَّاء: بلا، لكنَّهُ لا يعلمُ ماذا تعني هذهِ الكلمات، فكيف سيساعدني؟
فكَّرَتِ الأفعى للحظات، وقالت: لماذا لا تذهبينَ إلى الحكيمِ الَّذي يسكنُ سَفْحَ ذلكَ الجبل؟ إنَّ منزلَهُ بالقربِ مِنْ شجرةٍ يانعةٍ دائمةِ الثَّمر.
نظرَتْ حوَّاءُ باتّجاهِ الجبل، وشعرَتْ أنَّ المكانَ بعيدٌ جدًّا.
أدركَتِ الأفعى ما تُفكّرُ بهِ حوَّاء فقالت: لا تخافي، إنَّهُ ليسَ ببعيد، يحتاجُ إلى ساعةٍ مِنَ السَّير.
خاطَبَتْ حوَّاءُ نفسَها وقالت: لما لا، سأذهبُ إلى الحكيم لعلَّهُ يملكُ جوابًا على سؤالي. فشكرَتْ حوَّاءُ الأفعى وغادرَتْ.
وَصَلَتْ حوَّاءُ إلى منزلِ الحكيم، بعدَ ساعتينَ مِنْ الزَّمان، فلقد استوقفَها على الطَّريقِ بعضُ المناظرِ الجميلة. كانَ منزلُ الحكيم، غريبًا، فهو لمْ يعشْ في كهفٍ مثلما تفعلُ هي وآدم، بل في منزلٍ مصنوعٍ مِنَ الخشب... يبدو جميلًا قالَتْ في نفسِها.
وقفَتْ أمامَ الباب، وقَرَّبَتْ أُذنَها لتسمعَ شيئًا، فجاءَ الصَّوتُ مِنَ الدَّاخل، أُدخلي يا حوَّاء.
فانتفضَ قلبُها ورجِعَتْ إلى الوراء. فُتِحَ الباب، وظهرَ رجلٌ يُشبهُ آدمَ إلى حدٍّ كبير، لكنَّهُ يبدو أكبرَ عمرًا وأكثرَ حكمة، لكنَّهُ يمتلكُ يدينِ تبدوانِ كأنَّهما لطفلٍ صغير، والغريبُ أيضًا أنَّهُ كانَ يمتلكُ الكثيرَ مِنَ الأشياءِ الغريبةِ في منزلِه.
ابتسمَ الحكيمُ لها ودعاها إلى الدُّخول، فشعرَتْ بالرَّاحة لابتسامته ودخلَتْ.
سألَها الحكيم: كيفَ حالُكِ وكيف هو آدم؟
استغرَبَتْ حوَّاء وقالت: أتعرفُ آدم؟ كيف!
أجابَها: نعم، فنحنُ أصدقاءٌ منذُ زمن.
تعجَّبَتْ حوَّاء، فهي لم تسمَعْ آدمُ يتكلَّمُ عن هذا الحكيم قطّ.
قالَتْ للحكيم: وكيف ذلك؟ لمْ يُخبرني عنكَ أبدًا!
أجابَها: أنا طلبتُ مِنْهُ ذلك.
فازدادُ تعجُّبُها: ولما؟!
قال: لا أُحبُّ أنْ يعرفني النَّاسُ بهذهِ الطَّريقة. أُفضّلُ أنْ أعرفَكِ وتعرفينني مباشرة، كما يحدثُ الآن.
سألتْهُ: هل بإمكانِكَ مساعدتي إذًا؟
قال: سأحاول. أخبريني ما الأمر.
قالت: أشعرُ بالضّيقِ والمللِ والفراغ، ولا أعلمُ ماذا أفعل. سألتُ الأفعى ونصحتني بالقدومِ إليك.
فكَّرَ الحكيمُ قليلًا، وقال لها: لماذا لا تُغمضي عينيكِ وتخبرينني بما يتبادرُ إلى ذهنِك.
حاولَتْ حوَّاءُ ذلك، فلم يتبادرْ إلى ذهنِها سوى آدم، والأفعى وبعضَ الأماكنِ الَّتي استوقفَتْها وهي في طريقِها إلى الحكيم وأخيرًا الحكيم. فهي لم تعرفْ غيرَهم إلى الآن.
قالَ لها الحكيم: إنَّكَما تحتاجانِ إلى المخيّلة، أنتِ وآدم.
عقدَتْ حوَّاءُ حاجبيها، معبّرةً عن عدمِ فهمها.
قال لها الحكيمُ موضّحًا: ألا ترينَ هذا المنزل! إنَّهُ نتيجةُ المخيّلة... أترينَ كُلَّ هذهِ الأشياءَ في منزلي! إنَّها بسببِ المخيّلة.
أضافَ الحكيم: ابحثي عن المخيّلة، تجدينَ الجواب. ولكنْ إيَّاكِ أنْ تأخذي مخيّلةَ شخصٍ آخر.
ثم ابتعدَ الحكيمُ قليلًا، وعادَ يحملُ في يديهِ بعضَ الأقمشةِ المخيطةِ بشكلٍ غريب.
أعطى الحكيمُ الأقمشةَ لحوَّاءَ قائلًا: قدْ تحتاجين لها، أنتِ وآدم. مشيرًا بحزنٍ إلى الأقمشة.
أخذَتْ حوَّاءُ طريقَ العودةِ حاملةً معها الأقمشة، بعدَ أنْ ودَّعَتِ الحكيم.
عندما وصلَتْ إلى آدم، أخبرتْهُ بكلِّ ما جرى معها، وكيف أنَّها تعرَّفَتْ إلى الحكيم، وأخبرَتْهُ ما قالَ لها عَنِ المخيّلة.
قالَ لها آدم: ماذا يجبُ أنْ نفعلَ إذًا؟
أجابَتْ حوَّاء: لا أعلم، فليسَ هناكَ مَنْ نستشيرُ حولَ المخيّلة، إلَّا أنا وأنت، وبعد برهةٍ أضافت... والأفعى.
ففكَّرَ كلاهما، لماذا لا نسألُ الأفعى إذًا، فهي أعلمُ مِنَّا بهذهِ الأمور، فهي تمتلكُ حكمةً لا مثيلَ لها.
ذهبَ آدمُ وحوَّاءُ إلى الأفعى، فوجداها في مكانِها، على تلكَ الشَّجرة تبحثُ عَنْ صيدٍ لها.
سلَّما عليها وقالا لها: كيف حالُكِ أيَّتها الأفعى؟
أجابَتْ الأفعى: إنَّني بخير. نظَرَتْ باتّجاهِ حوَّاء وسألتها عمَّا جرى بينَها وبينَ الحكيم.
ردَّت حوَّاء: لقدْ نصحني بالمخيّلة، ولكن...
قاطعتها الأفعى: ولكن ماذا؟!
أجابَتْ حوَّاء: لا أعلمُ أنا وزوجي ما هي. هل تعلمينَ ما هي المخيّلة الَّتي نصحني بها الحكيم؟
نظرَتْ الأفعى إلى ما وراءِ آدمَ وحوَّاء وقالت: لستُ أعلمُ تمامًا ما هي، لكنَّني أتخيَّلُ نفسي دائمًا قادرةً على أكلِ ثمرِ هذهِ الشَّجرةِ الَّتي أنا عليها.
فقال آدم: ولماذا لا تأكلينَ ثمرَها؟
أجابَتْ الأفعى: لا أستطيعْ، فأنا آكلُ الحيواناتِ فقط. لكنْ لو استطعتُ أكلَ هذهِ الثَّمرةَ لارتحتُ مِنْ عناءِ الصَّيدِ واليقظةِ طوالَ اليوم.
أضافَتِ الأفعى: لكن لا أعلمُ ما ستكونُ المخيّلةِ لكما. لقد تعرّفتما على مخيّلتي وعلى مخيّلةِ الحكيم. لعلَّ ذلكَ يُفيدكما لتجدا مخيّلتكما.
عادَ آدمُ وحوَّاءُ إلى كهفهما، وبقيا صامتينِ يُفكّرانِ بكلامِ الأفعى. طالَ سهرهما ولم يعرفا النَّومَ وهما يفكّران. تململَتْ حوَّاءُ في مضجعِها، وأحسَّ آدمَ بها، فسألها عن حالِها.
فأجابت: لقدْ جافاني النُّومُ وأنا أُفكّرُ بأمرِ المخيّلة. ما رأيكَ أنْ نستعيرَ مخيّلةَ الأفعى، لعلَّ ذلكَ سيساعدُنا على أنْ نجدَ مخيّلتنا؟
فقال آدم: لكن... ولكنَّ الحكيمَ نصحكِ بألَّا تأخذي مخيّلةَ شخصٍ آخر، بلْ علينا أنْ نجدَ مخيّلتنا الخاصَّة.
حوَّاء: هذا صحيح، لكنَّني لا أطيق الانتظار، وشعورُ الضّيقِ والمللِ والفراغِ يُتعبني.
أضافَت بإلحاح: دعنا نقومُ بذلك، لعلّنا نرتاحُ مِنْ عناءِ التَّفكير.
وافقَ آدمُ على مضض.
وذهبا في صباحِ اليومِ التَّالي، ووصلا الشَّجرةَ حيثُ تجلسُ الأفعى عادةً، ولكنَّها لمْ تكنْ موجودةً آنذاك. فنظرا كلاهما إلى الثَّمرة، وقطفاها وأكلا منها.
هبَّتْ ريحٌ قويَّة، لمْ يسبقْ لها مثيل، وشعرا بالبرد. ولكنَّهما شعرا ببرودةٍ داخليَّة، برودةِ الغربة.. فقدْ أخذا ما ليسَ لهما ولا مِنْ حقّهما. عادا إلى كهفهما يمتلكانِ مخيّلةً غريبةً عنهما، مخيّلةً أخذَتْهما إلى قلبِ الأفعى ورغباتِها، وهما كانا لا يطلبانِ إلَّا أنْ يَلِجَا إلى رغباتِهما، وهنا تذكَّرَتْ حوَّاءُ نصيحةَ الحكيم... ثمَّ جالَ نظرُها في الكهف، فوقعَ على الأقمشةِ الَّتي أعطاها لها الحكيم، فلَبِسَتْها وأعطَتْ آدمَ فَلَبِسَ أيضًا. فشعرا بشيءٍ مِنَ الأمانْ، لأنَّها مِنْ رائحةِ ذاكَ الحكيمِ الطَّيّب.
وعندما افترشا الأرضَ ليناما، وعلى ضوءِ النَّارِ الخافتةِ أمامَ الكهف، التقتْ أعينهما ببعضٍ وكانَ يشعُّ منهما قرارٌ بأنَّ يُطيعا نصيحةَ الحكيمِ وأنْ يبحثا عن مخيّلتِهما الخاصَّة، فهو الَّذي فتحَ أعينهما على تلكَ العطيَّةِ... عطيَّةَ الحياة.