موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الإثنين، ١٩ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٠
وائل سليمان يكتب: البوصلة الى أين؟!
وائل سليمان، مدير عام كاريتاس الأردن

وائل سليمان، مدير عام كاريتاس الأردن

وائل سليمان :

 

منذ اللحظة الأولى من حياة الأطفال نبدأ بتعليمهم مبادئ وقيم وأساسيات بحسب اتجاهات البوصلة الإنسانية والإجتماعية والدينية التي تربينا عليها نحن منذ الصغر: أحبوا بعضكم بعضًا، مشاركة القليل الذي نملك مع الجيران والأقارب والأصدقاء، مساندة بعضنا بعضا في الأفراح والأحزان، بناء العلاقات الإجتماعية، إحترام الأكبر منا سنًا، التعامل بأدب ولطف مع المعلمين بالمدرسة، التواضع والمرونة والإنتماء والبساطة...

 

قصصنا كلها عن الأعمال الإنسانية والخيرية وبطولات كل ما هو إيجابي... وفقط للدعابة تمر قصة طريفة فيها ما هو غير مألوف لتغيير الأجواء!

 

مع مرور الوقت، بدأ ذلك الطفل بالإنخراط في عالم النضوج الابطأ لكائن حي (النضوج الإنساني). وبدأ يكتشف بأن إتجاهات البوصلة إنحرفت عن تلك التعاليم وتلك التربية وإكتشف الحقيقة الحقيقية فنحن: نحب من يحبنا فقط، نعيش ثقافة الأخذ وليس العطاء، التعامل بمصلحة مع الأطراف التي تعيش حولنا، العيش بإنعزالية قدر الإمكان، أحترام من يحترمني فقط،  العين بالعين والسن بالسن، نتصارع في المدرسة والعمل والشارع مع من لا يُعجبنا مهما كانت وظيفته ومركزه وعمره، التحجّر والكبرياء والمعارضة مع او بدون أسباب....

 

لقد فقدنا اتجاه البوصلة!

 

نقرأ التاريخ ونلاحظ بأننا تخبطنا في ردات فعلنا، خطاباتنا في مكان، وأعمالنا في مكان آخر.. الروحانيات هي فقط دروس تقوية تُحفظ عن غيب لكن مرفوض أن تكون حقيقة للحياة بتاتًا!

 

الصوت الوحيد المسموع في هذا الكون هو صوت صدى: الصراع، الحرب، النزاع، الموت، القتل، الفساد، الكراهية، الهدم، الدمار، اللاعدالة، الانتقام، غني وفقير، أسود وابيض... حتى في قلب المؤسسات الدينية العالمية، فقد فقدت حاسة الشم والذوق، وفقدت اتجاهات البوصلة، فأصبحت تلك مدارس وكليات وجامعات لتعليم مواد متنوعة من علوم المحبة والرحمة والإنسانية، وفاقد الشيء لا يعطيه إلا في الحصة المدرسية النظرية وبعدها تتلاشى أساليب التطبيق العملية!

 

تغيرات في اتجاهات البوصلة!

 

كل ما هو موجود اليوم كان شكله مختلفًا في الماضي البعيد.. مدن أضحت مكان مدنٍ آخرى.. الألوان تغيرت.. الطبيعة تغيرت.. الكثير من الحيوانات أصبحت من الذكريات وانقرضت.. جغرافية الأماكن تغيرت.. وحتى التاريخ الحامل قصص من التاريخ إختفى، ولم نعد نعلم عنه شيء الا بعض القصص الخيالية التي ألفناها نحن وابتكرناها لنقول أن التاريخ كان موجودًا قبلنا!

 

الحال ذاته يَلف الإنسان وحياته وكل ما يرتبط به... فقد إختلفت الأشكال والأحجام، وطرق التصرفات، والعادات والتقاليد... وتحوّل الإنسان من كينونة بها بذور سماوية، إلى إنسان بشري، أرضي، خالٍ من المحتوى الإلهي السماوي!

 

البوصلة اليوم إلى أين؟

 

في السنوات المائة الماضية، أسسنا مدارس جديدة لفن القتال، وفن زرع فتيل الأزمات أينما أردنا ومع أي جهة أردنا... بحثنا عن كل الأسباب التي تعطي القوة لطرف على حساب طرف آخر... سيطر الجزء السيء من الإنسان على الجزء الجيد... غيّرنا إتجاهات البوصلة إلى مكان يحمل بطياته كل ما يهدم ما بناه أجدادنا وبطرق فنية... نستخدم العنف وكأننا نريد أن ننتقم من وجودنا على هذه الأرض!

 

آلام في كل زاوية من زوايا الكرة الارضيّة... صراخ الأطفال الذين يقضفون ويموتون ويخسرون الحاضر، ولا آمل لهم بمستقبل، لا صدى له سوى صدى صوت البكاء والدموع! يكفي أن نرى مئات الآلاف في مخيمات اللاجئين... فقر مدقع في كل قطعة من قطع الأرض... إنقسامات وخلافات على أرض خلقها رب الكون هبة مجانية للجميع، ومنا لا زال يحمل ورقة كوشان بإسمه... حدود أرضية وجوية... حواجز في كل زاوية من زوايا الحياة... قتل عنصري... وقتل مزاجي... ووباء مفتعل... وفيضانات وزلازل بكبسة زر!

 

البوصلة في الإتجاه المعاكس! ونحن مواظبون على ملاحقتها والسير خلفها بإلتزام وتقيد لا مثيل له، معتقدين بأنها ستوصلنا إلى بر الأمان مع أن الحقيقة أننا بإتجاه الهاوية!

 

تغيير الاتجاه يتطلب شجاعة!

 

نحن نعلم بأن النهاية قريبة، ونعلم جيدًا المصير ولا أعلم لماذا نستمر في السير وراء بوصلة فقدت الإتجاه! اكتفى الإنسان بالقشور والسطحيات، وألغى من قاموسه الغوص في عمق الأشياء. والكارثة بأننا لا زلنا نُعلم الأطفال على كيفية السير خلف بوصلة هشة وغير صالحة للإستخدام البشري!

 

يتطلب تغيير الإتجاه شجاعة ورغبة وإرادة، ومع هذا وذاك لم يستطع أصحاب الرسالات الإلهية ذات السمو المرتفع تغيير واقع الحال! بالرغم من عودة البعض للسير بالإتجاه الصحيح، إلا أن قوة التيار المعاكس الممتد عبر سنوات طوال من الغيبوبة هدم المساعي لإنتصار جديد للخير على الشر... واليوم الكلمة الأخيرة مع الأسف لما نعيشه ونراه ونسمعه في صفحات الأخبار!

 

أي بوصلة نختار اليوم!

 

بما أن الحياة قصيرة وقصيرة جدًا.. وبما أننا لا نستطيع أن نعاود التجربة مرة جديدة لأننا وُجدنا على الأرض فقط لحياة واحدة... لا بدّ من كلٍ منا أن يصنع له بوصلة للسعادة! لقد خُلقنا لنعيش لا لنموت! لقد خُلقنا لخوض تجربة إلهية إنسانية ذات مدة محدودة! إذًا لماذا لا يختار كل منا بوصلة تُوجه حياته للمكان الذي يرغب أن يكون فيه! نختار الطريق ونصنع له بوصلة حتى توصلنا إلى عيش لحظات من الحياة.. لحظات من السعادة.. لا يهم المكان أو الزمان أو العنوان أو السؤال أو الجواب.. لا يهم الماضي ولا الأفراح ولا الأحزان ولا حتى الآلام.. المهمّ تشغيل البوصلة إينما إردنا نحن ذلك!

 

كل فكرة مسؤولية!

 

على الإنسان قراءة جزء من التاريخ الذي مضى، ويرسم تاريخًا جديدًا للمستقبل.. إتجاهات البوصلة الجديدة نرسمها بأيدينا، وبما أن كل فكرة مسؤولية لنختار بعناية طريقًا يوصلنا لعيش تلك الحياة التي نريد!

 

الأمل موجود، والرجاء لا زال يُخيم علينا، والحب لا يمكن أن يختقي حتى بعد انتهاء الأزمنة.. لذا لتستمر المغامرة ولتستمر الحياة.. المكان لا قيمة له! والزمان لا نستطيع أن نتحكم به! يجب أن نحرر اللغة من قواعدها ولنُطلق سربٌ من حرية الحياة للحياة!

 

إرادتنا بوصلة، ومحبتنا للحياة بوصلة.. رغبتنا بالتحرر بوصلة.. وإحترام الآخر هي بوصلة.. بثّ روح الإيجابية من حولنا هي بوصلة.. وإبتسامتنا هي بوصلة.. محبة الناس هي بوصلة، وفرض محبة الناس لنا هي بوصلة.. العيش من أجل القطبين (الأنا والـ نحن) هي البوصلة!

 

وللقصة بقية...