موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
عدل وسلام
نشر الخميس، ١٤ مارس / آذار ٢٠٢٤
هل يمكن إنقاذ البشرية في عالم تملؤه الحروب والمظالم
التحدي الأساسي يتمثل في الصفات البشرية الضالة والمظلمة. والمخاوف تكمن دائما في عدم القدرة على كبحها وترويضها وتعزيز بيئات تتكاثر وتزدهر بها مثل تلك السمات من طمع وشجع وغيرة وغطرسة.

ربى عياش :

 

كيف من الممكن أن ننظر إلى حال المجتمعات البشرية اليوم في ظل تصاعد الحروب والأزمات والتحديات وفي ظل المزيد من خطاب الكراهية والعنف والتطرف؟

 

لماذا في 2024، حصلنا على عالم مظلم، هش إنسانيا.. فلسطين، السودان، اليمن، أوكرانيا، أفريقيا، سوريا، العراق، ليبيا.. والكثير من المناطق التي تعاني بعمق من تشظ قيمي وفكري وواقعي مادي؟

 

كيف يمكن اجتماعيا وفلسفيا وأخلاقيا إنقاذ البشر في مرحلة قريبة؟

 

إن الإصلاح البشري لن يكون هينا، ولكن ستكون فقط محاولة في فهم ماهية الطريق الذي اتخذه البشر، فمن الواضح أن في مناطق عديدة في العالم حاد الإنسان عن الطريق القويم.

 

من المفترض أن الفلسفة الأساسية للحياة كانت بسيطة وسلسة، نحتاج في الصورة العامة إلى المزيد من "الأفراد" القادرين على بناء مجتمعات صحية، إلى حد ما، مع إمكانية التوصل إلى أفضل مناخ وبيئة مجتمعية قادرة على السماح لأكبر قدر من "الأفراد" بالتعايش فيما بينهم.

 

لكن، يصطدم العقل البشري بكثرة التحديات المجتمعية الواقعية العاجزة عن إيجاد مثل هذه البيئة المسالمة الساكنة الإنسانية التي توفر أفضل احتمالات معيشية يومية ممكنة للغالبية من البشر والكائنات الأخرى.

 

أعتقد أن التحديات العقلية والنفسية لهؤلاء "الأفراد" حقيقية وخطيرة، لأنها المسؤولة عن برمجة عقليتهم وفكرهم، ما تؤدي إلى إنشاء بيئات سلبية ومدمرة لذواتهم وللآخرين.

 

أي عدم الاستقرار النفسي، والكم الهائل من البرمجة القائمة على الندرة، التحديات، المخاوف، التهديدات، الكره، العنصرية والتفرقة تخلق جحيما للأفراد يصعب التعامل معه والخروج منه، تماما كحال العديد من الدول اليوم.. وأما البرمجة القائمة على احترام القانون والآخر والنفس الإنسانية والذات، والإيمان بالوفرة وتعدد الاحتمالات فتخلق ما يشبه الجنان في واقع الإنسان.

 

كل ذاك يتم تعزيزه عبر برمجيات قائمة على تجذير ثقافات معينة، من خلال أفكار وأساطير وخزعبلات أو قوانين، وفي بعض المجتمعات المتأخرة يتم غالبا تغليف هذه البرمجيات بقشور تبدو ملائكية لكنها في باطنها ومضمونها تخفي عفنا فكريا.

 

وإن سألنا، كيف من الممكن أن نحكم على الثقافات والأفكار والبرمجيات بصلاحها أو فسادها؟

 

ربما من خلال النتائج والواقع اللذين تتجلى وتتمخض عنهما.

 

أي هل هذه البرمجيات تجلب سلاما وسكونا ولطفا وتعايشا بين الأفراد؟ هل توفر احتياجات البشر الأساسية؟ هل هذه الأفكار والقيم قابلة للتطوير لإعمار واقع الإنسان أم أنها تجلب دمارا وكرها وغضبا وسخطا أم تجلب جهلا أكثر؟

 

إذا النتيجة قد تكون معيارا جيدا للحكم على طريقة تفكير المجتمعات والقوانين التي تسير بها والطرق الروحية التي تتخذها.

 

التحدي الأساسي يتمثل في الصفات البشرية الضالة والمظلمة. والمخاوف تكمن دائما في عدم القدرة على كبحها وترويضها، وتعزيز بيئات تتكاثر وتزدهر بها مثل تلك السمات، من طمع وشجع وغيرة وغطرسة الأنا الهشة المتعالية المتضخمة في دواخل الإنسان، والحاجة إلى السيطرة والتعاظم واستمداد الفرد قيمته بشكل مرضي من الخارج خصوصا في ظل عالم رأسمالي مادي متطرف، والبرمجة السلبية القائمة على الاقتناع بوجود تهديد وجودي من “الآخر” بناء على اختلاف الشكل والإيمانيات والفكر والرأي وأسلوب العيش وتعظيم وتعزيز وترسيخ هذه المخاوف من التهديد الوجودي.

 

والحقيقة كل هذا ما هو إلا برمجة عقلية غير دقيقة وغير صحيحة، أي وهم،  تُستخدم لخلق المزيد من الوحوش المستعدة للقتل وللتشويه وللتدمير في أي زمان ومكان، من أجل ذاتها الهشة.

 

وكل ما سبق من الصفات يمكن أن ينطبق على الأفراد والدول والمؤسسات.

 

والسؤال، هل ما يصبو نحوه الإنسان هو الانتقام والبقاء أسيرا في حلقة لا تجلب سوى المزيد من الخسائر وميلاد دائم للمأساة، أم الهدف إيجاد حلول للأزمات وإحلال العدالة بكسر حلقة الظلم والنزيف وإرجاع الحقوق إلى الأفراد بتوزيع عادل للموارد، مع إيجاد قيم أخلاقية تضمن حياة أفضل للإنسان بحاضره ومستقبل الأجيال القادمة؟

 

إن السماح للغضب بالسيطرة على المجتمعات سيعمل على إحراق الجميع، أما البدء في التفكير بمخرج حقيقي فهو ما يضمن البداية لإحلال واقع مغاير وأفضل.

 

وللبدء بإيجاد حلول من المهم أن يبدأ كل فرد، بنفسه، مراجعة دقيقة لقيمه وأفكاره ومقارنتها بالنتائج الملموسة لواقعه وعلاقاته بنفسه والآخرين، ومدى تصالحه وانسجامه بين عقله وواقعه.

 

على كل فرد أن يفهم حدوده مع نفسه والآخرين، أين يبدأ بارتكاب الآثام المجتمعية؟ وما مدى الضرر الذي يسببه للآخر، من تقليل احترام الآخرين وتعميق الظلم وكسر القانون وازدراء الأفكار والتعددية وتعزيز الكره والأذية والعنف؟

 

في مستوى بسيط، إن بدأ كل فرد بنفسه، يمكن البدء بثورة فكرية ناعمة، ثم على مستوى آخر، من الضروري مراجعة وتقييم الأحزاب الفكرية والسياسية وأهمية السماح بالتنوع الفكري للمحاولة للبدء بالحوار والمجادلة فيما بينها بدلا من التسطيح والمهاجمة والتكفير والإبادة والتحقير والنفي الذي يتعاظم اليوم بشكل مخيف ومدمر.

 

من الضروري عمليا العودة إلى وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، وإعادة النقد والتحليل والبحث عن أصوات المفكرين، وإعادة تأهيل معيار الحكم على الأشخاص. المدارس والمؤسسات الثقافية أيضا لها دور مهم في الإصلاح، إضافة إلى الفن والدراما والإعلام، وحتى وسائل التواصل الاجتماعي لإيجاد نهج حياتي فكري جديد بدلا من الغوغائية والعبثية والفوضى المتعاظمة في أيامنا هذه.

 

وحتى لا تبدو كلماتي بعيدة عن الواقع ومتحاملة على المجتمعات أو تصبو نحو مجتمعات خيالية، أود التأكيد على أن من الطبيعي جدا، والضروري أن يكون هناك هامش من الخطأ، محاولات لكسر الصحيح والقويم، لا بأس في ارتكاب الأخطاء، وجود مشاعر إنسانية جامحة من كره وعنصرية وغيرة.. ومن وجود حوادث ضالّة من قتل وسرقة وكسر قوانين وآثام عاطفية وضياع روحي وخلل قيمي وحروب ونزاعات.

 

أي، لا بد من وجود تعرجات في رحلة وجود الإنسان وتطوره. لكن أن يسيطر الضلال والظلام والحالات الشاذة على المجتمعات، ويجعل منها فوضوية ومتراجعة ومتأخرة وغوغائية، لم يكن الهدف ولن يكون أفضل احتمال للبشر.

 

أيضا، أن تسيطر مدارس اقتصادية أو أحزاب سياسية أحادية أو أسلوب حياتي أو فكر أو بصير واحد على الغالبية، يساعد في وجود مجتمعات ضائعة روحيا، ونائمة في بصيرتها وفكرها، ما يخلق تطرفا بتطبيق الأفكار وحيادا عن الصواب والطريق الوسطي المتوازن، ويجعل المجتمعات تحيد عن توفير بيئة اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية وفكرية تعمل على تطوير المجتمعات وازدهارها ودفعها نحو النور. وهنا يعود دور الإنسان الواعي المستيقظ فكريا، الوسطي في حكمه على الأمور، العاقل في تقييمه للواقع، لإعادة رسم طريق جديد للمجتمعات، لعله يحصل على مستقبل يحترم إنسانيته ووجوده بشكل أفضل.

 

(العرب)