موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ١١ مايو / أيار ٢٠١٨
نكبات النكبة: نكبة الفكر، ونكبة القهر، ونكبة الكسر، ونكبة الفقر

الأب د. بيتر مدروس :

<p dir="RTL"><strong>مقدّمة عائليّة</strong></p><p dir="RTL">لا يأتي هذا المقال عن النّكبة في صيغة &quot;الغائب&quot; أو &quot;الغائبين&quot;، وإن كان منهم خلق كثير قضى نحبه، منهم الوالدان الغاليان، رحم الله روحهما. بل يجيء في صيغة المتكلّم الجمع: &quot;بيتنا في القطمون، هجرة أسرتنا إلى البلدة القديمة ولجوء إلى دير راهبات الورديّة الفاضلات بقرب البطريركيّة اللاتينيّة المقدسيّة&quot;. ونحن عائلة من مئات الآلاف ومعاناتنا غيض من فيض ونقطة من محيط المعاناة الفلسطينيّة واللّبنانيّة والعراقيّة والسّوريّة واليمنيّة والليبيّة... والعربيّة بشكل عامّ إذ ما نجا أيّ من أقطارها من الاستعمار! وبما أنّ &quot;الفلسفة أو محبّة الحكمة هي معرفة الأمور بأسبابها&quot;، فهذا تحليل مختصر غير مستفيض ولا يدّعي الكمال عن أسباب النّكبة خصوصًا الإيديولوجيّة وعلى رأسها التّحوير للدّين وتجييره للعنصريّة والظّلم والتّوسّعيّة.</p><p dir="RTL"><strong>نكبة الفكر</strong></p><p dir="RTL">هذه المصيبة ليست &ndash;أو على الأقلّ لم تكن- مصيبتنا نحن العرب، ولا سيّما الفلسطينيّين: كنّا أو كان أهلنا (فالأحداث قبل مولد الدّاعي) يعيشون ويتركون النّاس يعيشون بما فيهم يهود فلسطين. قابعين تحت الانتداب البريطانيّ كانوا يبنون على قدر الإمكان حياة شريفة عائلية مع مؤسسات وطنيّة محدودة الصّلاحيات بسبب الانتداب، وشعبنا أعزل في حين كان غيره مسلّحًا. وما علم شعبنا ما كان يُحاك حوله من مكايد &quot;بريطانيا العظمى&quot; التي كانت تختفي وراء ابتسامة صفراء باردة. بالاختصار، السّبب الأوّل للتّصميم الجائر على اقتلاع الشّعب الفلسطينيّ، صدر عن سوء فهم يهوديّ لفكرتَي &quot;أرض الميعاد&quot; و&quot;الشعب المختار&quot;، بشكل يسحق غير اليهود ويأخذ أراضيهم بذريعة أنها أصلاً موعودة للعبرانيّين وطردهم منها، وكأنّ الوعد والعهد الإلهيّين المفروضَين يلغيان الوصايا العشر ولا سيّما: &quot;لا تقتل، لا تسرق، لا تشهد بالزّور، لا تشته مقتنى قريبك&quot;!</p><p dir="RTL">إنها من ناحية ثانية نكبة انحراف الفكر عن الإنجيل الطّاهر لدى &quot;الاتّحاد البروسياني، واليوم زاد الطّين بلّة مع الحركات &quot;الصّهيونيّة المسيحيّة&quot; بلا إحراج ولا خجل، والرّئيس الأمريكي الحاضر وحكومات أمريكا السابقة خير دليل على ذلك. ونكبة هذا الفكر المسيء لفهم الكتاب المقدس والمنشقّ طبعًا عن الكنيسة الرّسوليّة أنّه اعتنق المفهوم اليهوديّ الحاخاميّ الربابينيّ ( لا مضمون العهد القديم بتفسيره السليم) في &quot;المشيحانية العبريّة المحاربة&quot; التي لا تدرك خلاص اليهود إلاّ بهلاك غيرهم واستقرار العبرانيّين إلاّ بتشريد غيرهم وكرامة اليهود إلاّ بإذلال غيرهم واستقلال اليهود باستغلال غيرهم واستعباده.</p><p dir="RTL">شتّان بين موقف &quot;الصّهاينة المسيحيّين&quot; وموقف الكنيسة الكاثوليكية والأرثوذكسية وخصوصًا قداسة البابا بيّوس العاشر مع ثيودور هرتسل في لقائهما يوم السّادس والعشرين من شهر يناير كانون الثّاني سنة 1904 حيث قال الحبر الأعظم: &quot;لا نستطيع أن نؤيّد ككنيسة كاثوليكية توطين يهود في فلسطين، خصوصًا مدينة القدس، وهم لا يعترفون بالمسيح&quot;، بحيث ما عادوا شعبًا مختارًا ولا تحقّ لهم أرض موعد، خصوصًا وأنها أرض غيرهم منذ مئات السنين. ويزيد المرء أنّ هذه الأرض هي أصلاً أرض كنعان قبل اليهوديّة بقرون طويلة.</p><p dir="RTL">ومن المؤثّر في ورع قداسة البابا بيّوس العاشر عدم تهاونه، بلا مهادنة ولا &quot;مداهنة&quot;ولا مجاراة للباطل ولا مسايرة على حساب الحقّ والحقيقة، بل غيرة رسولية حبريّة بطرسيّة إنجيليّة أصيلة على جلب اليهود إلى الإيمان بالمسيح، كما تدعو الكنيسة الكاثوليكيّة في صلوات الجمعة الحزينة، إلى أيّامنا. وينتهز المرء المناسبة، من هذا المنبر الأغرّ، ليستنكر أيّ موقف صهيونيّ لأيّ رجُل دين كاثوليكيّ ولا سيّما من الأعاجم أو من أصل يهوديّ. فهو يغرّد خارج السّرب ولا يمثّل إلاّ نفسه وسوء فهمه للقضيّة. ولعلّنا أحيانًا مسؤولون عن ذلك نسبيًّا ونحن بصراعاتنا الدّاخليّة مشغولون.</p><p dir="RTL">وترافق نكبة الفكر اليهوديّ والمسيحيّ الغربيّ السّكسونيّ (المنشقّ) ورطة الأنانيّة لدى معشر العبرانيّين. اختبروا الذّلّ والمنفى والعبوديّة وبكوا وانتحبوا &quot;على ضفاف أنهار بابل&quot;. وكتب صاحب المزمور:&quot;هناك جلسنا وبكينا إذ تذكّرنا&quot; المدينة المقدسة، وهي أصلاً يبوس الكنعانيّة أوروشالم. وها هم يُبكوننا (بضمّ الياء)&ndash; ويُبكون أهلنا في سورية والعراق وسواهما، &quot;على ضفاف أنهار&quot; بابل والأردنّ ودجلة والعاصي... وأنهار أمريكا واستراليا وأوروبا! وفي حين يقول الكتاب أن يعامل الإنسان أخاه كما يودّ أن يعامله أخوه، لا يعدّ قوم التّلموديين غير اليهوديّ إنسانًا مثلهم ولا أخًا ولا نظيرًا. وبخلاف كلام الكتاب: &quot;أحبب قريبك كنفسك&quot; (أحبار 19: 18، مرقس 12: 31) وبخلاف نهي المسيح: &quot;لا تفعلوا ما لا تريدون أن يعمل الناس لكم&quot;، وبخلاف التعليمات الرّسولية: &quot;لا تردّوا على الشّر بالشّرّ&quot;، يتّقد الغيظ العبرانيّين حتّى اليوم على من ظلموا اليهود قبل مئات أو عشرات السّنين، فيبحث العبرانيّون عن مظلومين تظلمهم الصّهيونية الحديثة ومغبونين تغبنهم ومقهورين تقهرهم، ولسان حالها قولها أو فكرها:&quot;كما تألمتُ أنا، يجب أن تتألّم أنت!&quot;</p><p dir="RTL">ومن المخالف للمسيحيّة وللإنجيل وللروح الإنجيليّة أن يؤيّد العالم البروتستنتي أنانيّة العبرانيّين (طبعًا على حساب الآخرين)، والمسيح محبة وعدل وخلاصة المسيحيّة في التفاني والمحبة للآخر والتضحية في سبيل الآخر! وهكذا يرى المرء بسهولة وجه الأنانية اليهودية تحت التأييد الأمريكي البريطاني السكسونيّ &quot;الإفانجيليكالي&quot; الذي لا يحمل من الإنجيل الطّاهر إّلا الاسم ومن العهد الجديد إلاّ الرّسم، زورًا وبهتانًا.</p><p dir="RTL"><strong>نكبة القهر</strong></p><p dir="RTL">هي التي نعيشها منذ سبعين سنة، تزيد ولا تنقص، تتعمّق ولا تتبخّر، على كلّ الشعب الفلسطينيّ، في الوطن (أو ما تبقّى منه) والشّتات. ولا أمل في الأفق! ويعلّمنا أشقّاؤنا اللّبنانيّون، ولا سيّما الموارنة، ألاّ نقول &quot;ضاع الرّجاء لأنّ للباطل جولة&quot; بتفضيلهم لفظة &quot;الانتشار&quot; على &quot;الشّتات&quot;.</p><p dir="RTL">أمّا قهر الشّعب الفلسطينيّ فقد بدأ قبل سنة 1948. وكان ينظر إلى جيرانه مسرورًا لاستقلالهم عن الاستعمار والانتداب في حين بقي هو تحت الانتداب المتعاطف مع &quot;اليهود&quot;. وقد رجا شعبنا الفلسطينيّ، ويبدو أنّ رجاءه أمنية صعبة المنال &ndash; أمل أن يلحق ركب عزّتهم وقطار سيادتهم. وهذه بعض تواريخ استقلال جيراننا أشقّائنا الأحبّاء: مصر سنة 1922 والعراق سنة 1932 وسورية سنة 1941 والأردنّ ولبنان سنة 1946. ونحن الفلسطينيّين اليوم سنة 2018 ويعلم الله إذا بقي لنا أن نحلم &nbsp;في المنام باستقلال كامل وسيادة شاملة ونحن في كابوس بل واقع أليم اسمه انقسام!</p><p dir="RTL"><strong>نكبة &quot;الكسر&quot;</strong></p><p dir="RTL">الكسر أي الانقسام بين العرب سنة 1948 ولكن أيضًا انقسامنا اليوم بين &quot;عرب الدّاخل&quot; (الّذين نسي نفر منهم كثير أنّهم فلسطينيّون!) وضفّة وقطاع... يا ليت ذكرى النّكبة تخلّصنا من نكبة الانقسام!</p><p dir="RTL"><strong>نكبة الفقر</strong></p><p dir="RTL">هي نتيجة لكلّ ما سبق، وأخطر قسم فيها فقر الفكر وضحالة الفهم والعداوة مع الكتاب وتعطيل الدّراسة وعدم التّعلّم من أخطاء الماضي (وكيف يكون ذلك إن لم نعترف بها أصلاً ؟)</p><p dir="RTL"><strong>خاتمة: &quot;كيف نُنشد أناشيد المولى ونحن في أرض غربة؟&quot;</strong></p><p dir="RTL">في هذه الفترة لدينا نحن المسيحيّين أعياد فصحيّة بهيجة يعكّر احتفالاتنا الاجتماعية والعائلية بها كدرُ نكبتنا وحسرة نكستنا وحزن انقسامنا وانتشار انتشارنا أي سعة شتاتنا في بقاع المعمور حيث &nbsp;لنا نحن الفلسطينيّين لا &quot;مكان تحت الشّمس&quot; ولا دولة. ويا ليت الغربة بقيت على &quot;سيدني&quot; و&quot;نيويورك&quot; و&quot;باريس&quot; ولندن&quot;... بل هنالك اغتراب في القدس والنّاصرة وحيفا ويافا والرّملة وغربة مع أهل رام الله وجنين وجفاء مع سكّان غزّة ودير البلح... غربة تنكّر الشّقيق لشقيقه والصّديق لصديقه والعربيّ للعربيّ.</p><p dir="RTL">والدّواء للنّكبة هو المحبّة، &quot;إنّها تصبر على كلّ شيء وترجو كلّ شيء&quot;. المحبّة لله وللقريب وللجار هي ملخّص الوصايا واختصار الأخلاقيّات &quot;والدّين المعاملة&quot;. والمودّة سلوى القلوب تكفكف الدّموع عن العيون وتنصر اليتامى والأيامى. وبحول الله سيُشرق العدل لأنّه أساس السّلام!</p>