موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الأحد، ١٣ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٤
نتعلّم بما نتألّم

أشخين ديمرجيان :

 

"نتعلّم بما نتألّم" (عب 5: 8) من أقوال القديس بولس رسول الأمم والإناء المختار، موجّه إلى المتألّمين ليحتملوا الآلام التي سمح بها الله. ويبدو أنّ القديس بولس تألّم كثيرًا وتعلّم كثيرًا... ولكي نخفّف من الألم ينبغي أن نكون واقعيين ونتصالح ونتعايش بحكمة مع الظرف الجديد الذي استجدّ في حياتنا .

 

المعاناة تجربة شخصية مريرة، لا يمكن منعها أو إيقافها، يشعر فيها الإنسان بالخوف، أو تنتابه مشاعر القلق أو الحزن، أو ينظر إلى الحياة بمنظار التشاؤم الأسود، أو تتسلّط عليه الرغبة في الانطواء، أو يفكّر في الانتحار متمنّيًا عدم وجود هذه الحياة على الإطلاق، لأنّها مليئة بالمشقّات التي لا تُطاق. والحياة في رأيه تافهة ليست ذات قيمة أو أهمّيّة ليستمرّ فيها، وفي رأيه يكون التعلّق بالحياة الخطأ الشنيع وغير العاقل!

 

تعود كلّ هذه الانفعالات المتنوّعة إمّا إلى سبب محسوس كالألم الجسمي، أو إلى عوامل نفسيّة تعود الى مشاكل عائلية أو حياتية، أو الانتكاسات الوظيفية، أو الإخفاق في  تلبية الحاجات الشخصية، أو فقدان أحد الأفراد المقرّبين وغيرها كثير.

 

وينكشف معدن المرء الأصيل أو الهزيل في اللحظات الصعبة، ويظهر على حقيقته، سواء كان إيمانه قويًا راسخًا كالصخر لا يتزعزع، أو ضعيفًا هشًا مبنيًا على الرمل يتأرجح في مهب الريح، يصعب عليه التعايش مع العسر الشديد، ينسى فيه المرء أو يتناسى أنّ المعاناة فرصة لا تعوّض ومحكّ لاختبار إيمانه بصبرطويل وأمل كبير. والألم فرصة للتقدّم الروحاني من خلال تحمّل المشاكل وصعوبات الحياة، وقبولها مع السعي إلى الحلّ إن أمكن، أو التخفيف من شدّة الوجع بطريقة إيجابيّة وبأناة وحِلم وجَلَد ورويّة.

 

وتسعى القلوب الإنسانيّة النبيلة - بأعمالها الخيريّة وجهودها في ممارسة  الرحمة، وإغاثة المنكوبين ومساعدة ذوي الحاجة، وصيانة كرامتهم - تسعى إلى تخفيف الألم عن أكبر عدد ممكن من بني البشر، وإلى إدخال الفرح إلى قلوبهم الجريحة قدر المستطاع.

 

إنها حقيقة لا يمكن إنكارها، أنّ أولئك الذين عانوا كثيرًا في حياتهم، هم الأفضل والأقدر على تشديد عزائم الذين يمرّون في اختبارات أليمة صعبة. إنّهم يعلمون تمامًا معنى العذاب ويُدركون، أكثر بكثير من غيرهم كلّ ما يختبره الإنسان المتألّم جسديًا وعاطفيًا وروحانيًا. وبإمكانهم أن يتعاطفوا مع مصائب الآخرين بسبب معاناتهم الدائمة في حياتهم الخاصة. وقد ورد في رسالة مار بولس إلى العبرانيين عن تفهم السيد المسيح لآلام الناس. وأوّل شرط من شروط الكهنوت بين البشر أن "يكون الكاهن الأعظم جديرًا بأن يُشفق على الذين يضعفون لكونه هو أيضًا لابسًا الوهن" (عبر 5: 1).

 

إنّ معاناة الإنسان تلعب دورًا هامًّا في الإيمان. فالتجربة التي يقبلها المؤمن بإيجابية تُعطي حياته بعدًا أكبر ومعنىً أعمق. تمامًا مثل السيّد المسيح الذي حمل عبء الألم من أجل حياة أتباعه. وقد يكتشف الإنسان المؤمن فجأة قيمة الإيمان وجوهره في أثناء تعرّضه للنوائب، فيواجه التجربة ببطولة وهدوء ويتقرّب من الذات الإلهيّة، حينئذ لا تهمّه الرياح العاتية، وبقدرة المولى ورحمته يطبّق عليه المَثَل: "يا جبل ما يهزّك ريح!". وكتب صاحب المزامير عن المؤمن الصالح المتواضع: "مهما طغت المياه الكثيرة، ما استطاعت إليه وصولا".

 

 

خاتمة

 

يتعلّم الإنسان بمقدار ما يتألّم. ولكي يتعلّم يجب أن يتألّم. ونحن نعاني من الحدث لأننا نعجز عن إعادة الظروف إلى ما كانت عليه فيما مضى. وعليه أفضل حلّ هو ايجاد مكامن القوة في داخلنا كي نتصالح مع ذواتنا بحسناتها وسيئاتها، ومع الحياة، ومعه تعالى "مستودعًا إيّانا كلمة المصالحة" (2 قور 19:5).