موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
ثقافة
نشر الخميس، ١ ابريل / نيسان ٢٠٢١
منقوشة أبو شادي لم تعد وجبة الفقراء في بيروت
أبو شادي (54 عامًا) في فرنه في منطقة رأس بيروت في العاصمة اللبنانية، 27 آذار 2021

أبو شادي (54 عامًا) في فرنه في منطقة رأس بيروت في العاصمة اللبنانية، 27 آذار 2021

أ ف ب :

 

داخل فرنه الصغير في أحد شوارع منطقة رأس بيروت، يتحسر أبو شادي على "بركة" باتت مفقودة، بعدما تضاعف ثمن المنقوشة خمس مرات على وقع انهيار اقتصادي غير مسبوق لم يستثن وجبة الفطور المفضلة عند اللبنانيين.

 

أمام الفرن، أو "بيت النار" كما يسميه، يهندس أبو شادي (54 عامًا) مناقيش الصعتر والجبنة، ويتفنّن في نثر السبانخ الخضراء ورشّ الحرّ عليها، في إضافةٍ تميّزه عن سواه من الأفران وتجذب زبائن من مناطق أخرى، على حد قوله.

 

ويقول الرجل وهو يرتدي ثيابًا رياضية مع قبعة سوداء لوكالة فرانس برس "منذ العام 1987 وأنا على هذه الحال في هذا الفرن، بالبركة والخيرات، لكن اليوم ذهبت البركة وذهبت الخيرات".

 

وبينما يدخل العجين الى الفرن، يتلقى طلبيات عبر الهاتف مرددًا "من عيوني" لكل متصل. ثم يمازح زبونًا ينتظر في المحل تلبية طلبه، ويلوّح بيده لأحد معارفه أثناء مروره بسيارته في الشارع. ويرفع نظره بين الحين والآخر ليرد على تحيات المارة أمام فرنه.

 

ولا يفوت أبو شادي الذي يغنّي بصوت جهوري مرتفع أثناء تحضيره المناقيش، أن يلقي التحية بدوره على سيدة مسنة، متغزلاً بتصفيفة شعرها الأشقر.

 

لكنّ روح الدعابة التي تجعل كل من يقف أمام فرنه مبتسمًا وتدفع أحد زبائنه الى تلقيبه بـ"الملك"، سرعان ما تتلاشى لدى سؤاله عن منقوشة الصعتر وارتفاع ثمنها.

 

ويشرح بإسهاب "المنقوشة هي بمثابة الأم والأب للشعب اللبناني، هي +أكل عيش+ الغني والفقير".

 

لكن على وقع الانهيار الاقتصادي الذي يرزح تحته لبنان منذ خريف 2019، والمترافق مع شحّ في السيولة وارتفاع جنوني في الأسعار، تراجعت قدرة اللبنانيين الشرائية وخسر عشرات الآلاف وظائفهم أو جزءًا من مداخيلهم، وباتت سلع ومنتجات عدة من الكماليات، المنقوشة من بينها بالنسبة لكثيرين.

 

ويقول أبو شادي "للأسف في هذا الوقت، لم يعد الفقير قادرًا على أكل المنقوشة". ويتابع "كان ثمن منقوشة الصعتر بين ألف و1500 ليرة أي ما يعادل دولارًا، وباتت اليوم خمسة آلاف، لكنها لا تعادل نصف دولار"، بينما يصل سعر أصناف أخرى الى عشرة و15 ألفًا.

 

ويشهد لبنان أزمة اقتصادية ومالية غير مسبوقة، تراجع معها سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار من 1500 الى حوالى 12 ألفا في السوق السوداء.

 

 

"مهما بلغ ثمنها"

 

خلال أكثر من ثلاثة عقود عمل فيها يومياً في الفرن، اعتاد أبو شادي خصوصًا في عطلة نهاية الأسبوع إقبال زبائن يطلبون سبعة أو ثمانية مناقيش من الزعتر للفطور، لكن منذ شهرين أو أكثر لم يعد ير أيًا منهم. ويقول "باتت المنقوشة للميسورين فقط، فمن يجني ثلاثين أو أربعين ألفًا يوميًا لن يدفع ثمن منقوشة الزعتر خمسة آلاف، وعليه مصاريف أخرى".

 

وعلى غرار كثر، لم يجد أبو شادي خيارًاً أمامه إلا رفع الأسعار، بعدما ارتفع ثمن كل المواد الأولية التي يحتاجها من زيت وطحين وصعتر وأجبان ومستلزمات الفرن من صحون وأوراق يلفّ بها المناقيش الساخنة. ويشير إلى عبوتي زيت قائلا إن ثمنهما ارتفع من 86 ألف ليرة قبل الأزمة الاقتصادية إلى 980 ألفًا اليوم، جراء تدهور سعر صرف الليرة القياسي مقابل الدولار.

 

ويقول "كنّا بألف نعمة ولا نشعر بأزمة، لكن وضع الناس تدهور كثيرًا.. لم تمرّ علينا مثل هذه الأيام".

 

بعدما تنضج كل منقوشة، وتلمع فقاعات الزيت فيها، يخفّف أبو شادي النار داخل الفرن، توفيرًا لمصروف الغاز. ويتحسّر على أيام خلت كان يُشعل النيران عند الثامنة صباحًا ولا يطفئها قبل الثالثة عصرًا.

 

على براد خلفه، علّق أبو شادي قائمة بالأسعار الجديدة، وعلى جدار قربها مقالاً باللغة الفرنسية داخل إطار خشبي، يقول إن صحيفة نشرته قبل نحو عامين تثني فيه على نكهة وجودة إنتاجه.

 

ويقول محمود بينما يلتهم منقوشة بالكفتة والجبنة لفرانس برس "أتردّد منذ سنوات الى هنا، من يعتاد على منقوشة أبو شادي لا يمكنه استبدالها بأخرى مهما بلغ ثمنها".

 

واسم أبو شادي، في رأي هذا الأخير، يجعله قادرًا على الاستمرار رغم الأزمة، بينما أفران صغيرة أخرى تضطر لإقفال أبوابها تباعًا. ويقول بتأن "بعد هذا العمر والاسم والتعب، ما زلت صامدًا لأنني أعمل بيدي.. ما يدفعه سواي لعامل الفرن، آخذه وأعيش به". ويضيف "اتكالي على الله وعلى زندي" فقط.