موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
حوار أديان
نشر الإثنين، ٢٢ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢١
في الدفاع عن أخلاق العلمانية

رشيد سعدي - المغرب :

 

تُعتبر العلمانية من أكثر المفاهيم التباسًا وعُرضة لسوء الفهم في مجتمعاتنا؛ ما يفسر رفضها باعتبارها مبدأً سياسيًّا ينظم العلاقة بين الدين والدولة. فالثقافة العامة الإسلامية لم تَخرج بعْدُ من فهم العلمانية في كثير من الأحيان باعتبارها مؤامرة غربية استعمارية، تُحاك لهدم أسس الإسلام. ثم إنَّ شيطنة العلمانية وتكفيرها أصبحت جزءًا من الأساطير المؤسِّسة للمواقف الدينية الأصولية، الرافضة لقيم الحداثة والتعددية.

 

قد شهدت مواقع التواصل الاجتماعي في العالم الإسلامي أخيرًا، عودةً قوية للنقاش حول العلمانية وعلاقتها بالإسلام، وذلك بعد حدثَين اثنَين: الأول منهما هو رحيل المفكر المصري حسن حنفي، الذي اعتَبر -من خلال إعادة قراءته للتراث ومشروع اليسار الإسلامي- أن "العلمانية روح الإسلام"، وأساس الوحي الإلهي الذي جاء ليعيد للإنسان حريته، قبْل أن تستحوذ عليها مؤسسات الكهنوت والوصاية. أيضًا اعتَبر أن الدولة الدينية هي هرطقة دخيلة في الجوهر العلماني والتحريري للإسلام. فهي تمنح الدين سلطة اجتماعية تكرِّس النفاق والانفصام، في حين تُشكل العلمانية موقفًا روحيًّا وسياسيًّا، يَضمن انسجام الإنسان مع نفسه من خلال ممارسته حريته. لذا، أكد أنه لا حاجة إلى علمانية مستورَدة ما دامت صيانة حرية العقيدة والتفكير، ومِن ثَمَّ الفصل بين السلطة السياسية والمجال الديني، هما جوهر الخطاب الإلهي.

 

بحسب ما جرت العادة، عندما يرحل مفكر تنويري، تتناسل الخطابات التي تُكفِّر المفكر ومشروعه حول العلمانية، على اعتبار أن هذه الأخيرة نقيضًا للدين، بل ومن "نواقض الإيمان". تعرضت العلمانية للتكفير أيضًا، عندما قام مجلس أوروبا بالتراجع عن حملة للنهوض بالتنوع بين النساء، والدفاع عن حقهن في ارتداء الحجاب. أثارت الحملة حفيظة اليمين الفرنسي المتطرف، الذي عبَّر عن رفضه لارتداء الحجاب في الأماكن العامة، لأنه رمزٌ لاستعباد النساء ومَسِّ مَبدأَيِ المساواة والحرية؛ ما جعل الحكومة الفرنسية تُطالب بسحب الحملة. اعتَبر الكثيرون هذا الموقف تعبيرًا عن العداء العلماني للإسلام، متناسين أن فكرة الحملة المدافعة عن الحجاب انبثقت من داخل بلدان يجمعها النظام العلماني نفسه. ثم إنه يجب أن ننسى أن النموذج العلماني الفرنسي لا ينفك يتعرض للانتقاد، بسبب تَحوُّله التدريجي إلى إيديولوجية علمانية أصولية ومعادية للدين.

 

ليست العلمانية أداة للهيمنة، بل إنها جوهر أخلاق العصور الحديثة. هي أوَّلًا تنظيم إجرائي ينبني على رفض هيمنة أي دين على الدولة، لكنها أيضًا موقف للضمير الإنساني الذي عانى طويلًا ويلاتِ الطائفية والاستبداد الديني، ثم خلَص إلى أن الخلاف بين الأديان والمذاهب لا يمكن حسمه بالعقل ولا بالعلم؛ ما يعني ضرورة الفصل بين الدين والسلطة الروحية باعتبار ذلك مجالًا للنسبية والسياسة، أو الفصل بين الدين والسلطة الزمنية باعتبار ذلك مجالًا للمعقولية، المبنية على التعاقد والتوافق من أجل الخير الإنساني العام.تحاول الأخلاق العلمانية تَجاوُز النسبية الأخلاقية الدينية أو الثقافية. فهي تنبني على أسس إنسانية، مثل: التعاطف أو المنطق الأخلاقي، ولا تحيل بصريح العبارة على مرجعيات أو تعاليم دينية، ولكنها في عمقها تتقاطع مع المبادئ الدينية الكبرى، مثل: مبدأ معاملة الآخر بما نحب أن يعاملنا به. وهي مبادئ قد تكون مقبولة من طرف المؤمنين وغير المؤمنين على حد سواء.

 

قانونيًّا، تعتمد العلمانية على الحياد الديني للدولة. وهو حياد إيجابي، لأنه يضمن نظامًا قانونيًّا عادلًا وضامنًا للحريات الدينية. ليس الحياد  تهميشًا للأديان، ولا حتى لامبالاة بها، بل تمثيلًا لمبدأ الكرامة البشرية الذي تؤكده الأديان نفسها بدون استثناء. ولكونها ليست دولة دينية، فإن الدولة العلمانية تسمح بمجال من الحرية الدينية أو الفكرية لا يحق لها أن تتدخل فيه، وتَضمن حماية الأقليات من هيمنة الأغلبية وديكتاتوريتها. من البديهي إذًا أن تكون العلمانية -مقرونةً بالديمقراطية- شرطًا أساسيًّا لدولة الحق والقانون. لذا، من المهم التشديد على أن العلمانية ليست نظامًا إيديولوجيًّا أو سياسيًّا، بل إجرائية أخلاقية لا تتوقف عن الوعي بهشاشتها. فهي  مشروع تاريخي دائم التحْيِين.

 

أعتقِدُ أن مجتمعاتنا في حاجة عميقة إلى الأخلاق العلمانية، بوصفها أُفقًا حضاريًّا لا مَحيد عنه، أيْ إلى أخلاق تسعى لتحرير الدين من التوظيف الإيديولوجي، وتفكيك ثقافة الوصاية والاستبداد التي لا يزال يجترُّها أولئك الذين يُكفِّرون العلمانية، ويُشَرعِنون سطوة الأغلبية على الأقلية. أعتقِدُ فعلًا -بحسب ما قال الراحل حسن حنفي- أن الجوهر الأخلاقي للتنظيم السياسي في الإسلام هو العلمانية. لذا، وجب الشروع جدِّيًّا في بناء برنامج إسلامي لأخلاقيات العلمانية والاعتراف، تنخرط فيه المؤسسات الدينية بصفتها مؤسسات تنوير لا مؤسسات وصاية، ممتلئة بالقناعة بأنه لا سلطة للدين إلا سلطة النفاذ إلى الروح بواسطة الكلمة: {فذكِّرْ إنَّما أنتَ مُذكِّر، لستَ عليهم بِمُصَيطِر}. والله أعلم

 

 

(تعددية)