موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
أُطلق في دور السينما في التاسع عشر من شهر شباط الماضي فيلم القائم من بين الأموات "Risen" في جميع أنحاء العالم، وهو انتاج هوليووديّ يروي قصّة قيامة يسوع المسيح من نظرة غير مؤمنة. يأتي هذا الفيلم بعد اثني عشر سنة من انتاج فيلم "آلام المسيح" للممثل والمُخرج العالميّ ميل جيبسون. إلى أي مستوى فنّيّ وروحيّ ارتقى هذا الفيلم؟ وما هي الرسالة الروحيّة الّتي حاول إيصالها؟ وأين أخفق في الوصول إلى غايته؟ في السطور التالية، سنقدّم لكم رأينا من منظور روحيّ، ونترك الأمور الفنّيّة التقنيّة لأهل الاختصاص.
موجز الفيلم:
تقع أحداث هذا الفيلم في مُعظمها، في مدينة القدس خلال الأيّام القليلة التالية لصلب يسوع المسيح. وتروي قصّة "كلافيوس" القائد الرومانيّ (جوزيف فينيز - شيكسبير عاشقًا، العدو على الأبواب) الّذي عيّنه بيلاطس البُنطيّ لإيجاد جسد يسوع المصلوب المُختفي بعد أصداء عن قيامته في الأوساط اليهوديّة. ويُساعده في التحقيق "لوسيوس" (توم فيلتون - هاري بوتر)، الجنديّ الشاب الّذي يحاول اثبات نفسه في مُحيط اليهوديّة عن طريق خدمة بيلاطس (بيتر فيرث - بيرل هاربر). وفي رحلة تحقيقهم وبحثهم عن المؤامرة الّتي أحاكها تلاميذ يسوع (الّذي يعلب دوره كليف كيرتس - عِش حُرًّا أو مُتْ، يوم التدريب) كما زعِم قادة اليهود لخشيتهم من ثورة قد تندلع بين الأوساط اليهوديّة، يكتشف هذان العسكريّان حقائق مُذهِلة حول هذه الجماعة الصغيرة ومُعلّمها الغامض، الّذي سيُغيّر وجه العالم.
يلتزم الفيلم بالرواية الإنجيليّة إلى حدٍّ بعيد، وهذا ما قصدت هوليوود القيام به، بعد انتقاداتٍ طالتها أثر الشطحات الّتي تضمّنتها الانتاجات السينمائيّة لبعض الأفلام الدينيّة، مثل فيلميّ "نوح" و"الخروج". لذا، يستهدف هذا الفيلم شريحة المسيحيّين المؤمنين في المقام الأوّل، والخدعة التسويقيّة لم تنطلِ على الشرائح الأُخرى، ففي دعاية الفيلم الـ"trailer" كُنا أمام دعاية لمُسلسل التحقيقات الشهير (CIA) أكثر منه لفيلم دينيّ إذ وعدنا الفيلم أنّه سيُقدِّم نظرةً موضوعيّةً لِما جرى من أحداث بعد القيامة، من وجهة نظر مُحايدة (الرومان). وهذا ما أخفق فيه الفيلم، إذ يتحوّل في نصفه الثاني إلى فيلم دينيّ إيمانيّ بحت. ويشرد عن روح التحقيق الموضوعيّ، ليضعنا أمام مسيرة اهتداء القائد الرومانيّ كلافيوس بطريقةٍ لطيفة، وإن حاولت التخلّص من المشاهد الدينيّة الوعظيّة الصريحة، ونقصد هنا مشاهد سبق وأن شاهدناها في أفلام دينيّة تروي قصّة يسوع المسيح بحرفيتها. فهو لم يُقدِّم أي فرضيّة جديدة ليُجيب على تساؤلات العلمانيين أو المُلحدين. لكن يُحسب له في نهاية المطاف، أنّه لم يوجّه أيّ هجومٍ في روايته لهذين الفريقين.
إنّ التزام الفيلم بالرواية البيبليّة لم يكُن تامًا، فسمح، بالطبع، لبعض المشاهد الخارجة عن النصّ الكتابيّ كي يُقدّم سيناريو يخدم الروايّة الأساسيّة للفيلم. كمشهد البحث عن مريم المجدليّة، وشخصيّة برثلماوس الفُكاهيّة بعض الشيء. لكن كاتب السيناريو لم يسمح لتلك الإضافات أن تذكر دور أكبر لمريم العذراء أمّ يسوع، سوى لمشهد وقوفها بعيدًا أمام الصليب. مع أنّ تقاليدًا روحيّة تؤكّد على دورها الأساسيّ مع جماعة التلاميذ الأولى، فيسوع أوصى بها يوحنا الحبيب (المُغيّب كُليًّا في الفليم لتبرير غياب مريم). يدعونا القدّيس إغناطيوس دي لويولا في كتابه "الرياضات الروحيّة" إلى التأمّل أوّلاً في لقاء القائم من بين الأموات مع أمّه، وهو لا يجد أي منطق غير أنّ يسوع أوّل ما ظهر، ظهر لأمّه مريم (راجع الرياضات الروحيّة رقم ٢١٩).
يُخفِق الفيلم مرّةً أُخرى بجذب المُشاهد "غير الورِع"، فإن غضضنا الطرف عن الأسلوب الفنّيّ الرخيص (من حيث التكلفة الماديّة) لمشهد شفاء الأبرص، أو معجزة اصطياد السمك على بحيرة الجليل. تُخاطب هذه المشاهد عاطفة الجمهور أكثر منه عقله وشغفه بالبحث أو الشكّ (هذا ما وعد به الفيلم). وإن كان الفليم يتكلّم عن رحلة تحوّل لغير مؤمن وثني، فإن المُعجزات المنظورة كانت سبيل اهتدائه. ففي لقاءه الأوّل كان بطرس أقرب للصواب في إجابته على سؤال كلافيوس: "لماذا تؤمن بيسوع القائم؟" فقال له: لا أدري! لكن يسوع لم يقُم بالمعجزات في المقام الأوّل ليؤمن به الوثنيين، بل إنّ الّذين آمنوا به، هم من شفاهم من عِللهم الروحيّة والنفسيّة أكثر منها الجسديّة، من خلال لقائه الشخصيّ بهم.
وتبقى النهاية غير محبوكة بشكلٍ جيّد، فالمشاهد المُطّلِع على الكتاب المقدّس، يعرف أنّ المسيح سيُرسل تلاميذه، وسيصعد إلى السماء. وتترك ابتسامة كلافيوس (اللقطة الختاميّة) المُشاهد من دون أي تساؤل إيمانيّ عميق… وكما يقول أحّد النُقّاد السينمائيّين: "إنّ الفيلم لا ينتهي، بل يتوقّف عن عرض المشاهد، وكأنّ جُعبة المُخرج قد فرُغَت من أي جديد".
كلا، الفيلم ليس بالفارغٍ على المستوى الروحيّ، فثمّة رسالة عميقة وبسيطة تتكرّر في الفيلم، وتُحيك مشاهده بعضها مع بعض، لتُقدّمها بأناقة وعمق. الرسالة هي رسالة اللاعنف والسلام. ففي مجتمع يسوع ساد العنف، وكان السلاح يعلو على الجميع، وبذلك بسطت روما سيطرتها. يبدأ الفيلم بمشهد أقرب لفيلم (300) منه إلى فيلم دينيّ، يبسط كلافيوس "السلام المزعوم" بقوّة السلاح، هذا السلام الّذي بحث عنه بيلاطس، فأهدى سلامًا لليهود بصلب يسوع، دون أن يشعر به داخليًّا طيلة حياته.
إن الفيلم بحسب رأينا، هو رحلة تحوّل وقيامة لشخص يبحث عن "يومٍ من دون موت"، هذا القائد الرومانيّ كان يبحث عن السلام. وفي لقاء يسوع له في لحظة صفاء، يحوّل يسوع أخيرًا كلافيوس إلى رجل سلام (يتخلّى أخيرًا عن الخاتم الرومانيّ الخاص بقادة الجيش). وكأنّ به يسير على منهج الكثير من القدّيسين ومنهم القدّيس إغناطيوس دي لويولا، الّذي تخلّى عن سلاحه وثياب الفروسيّة أمام تمثال العذراء مريم، وتبِع المسيح.
"إغمد سيفك" (متى ٢٦: ٥١-٥٢). عبارة توجّه بها يسوع إلى أحّد التلاميذ، المُرجّح أنّه بطرس، ليلة اعتقال يسوع في بستان الزيتون. يتحوّل بطرس في الفيلم إلى رجل سلام على مثال مُعلّمه، ويلعب بطرس دورًا أساسيًّا في اهتداء كلافيوس، إذ يحاوره أكثر من محاورته ليسوع. في ردّة فعل بطرس المُسالمة على الندبة الّتي خلّفها كلافيوس له في رجله، إشارة واضحة إنّ بطرس الّذي كان يؤمن بالسيف قبل أيّام قدّ تغيّر. وهاهو يحوّل بدوره كلافيوس ليُصبح شاهدًا على إنّ إحلال السلام هو القيامة الحقيقيّة، إن من سيحكم العالم في النهاية هو أمير السلام، لا أمير الحرب. ويسوع ليس ملكًا من هذا العالم، وهو قادرٌ على تحويل منطق العالم إلى منطق السلام… تتكرّر هذه اللازمة في الفيلم، ونراها موفّقة في مشهد تتبع الجنود الرومان لكلافيوس وإيمانه أنّ الرحمة أكثر عدلاً من القصاص. وفي اقتناع بيلاطس أنّ القتل لا يؤدّي إلّا لموت الجميع فيصبحوا جُثثًا. وما أهمّ هذه الرسالة الّتي يُقدّمها الفيلم!
إن نهجنا منهج الافتراض الإيجابيّ، نستطيع أن نقول أنّ هذا الفيلم في مُجمله جيّد. فنحن نعلم أنّ هوليوود لن تُغامر بطرح ميزانيّة ضخمة لفيلمٍ دينيّ، يبقى جمهوره جمهورًا محدودًا. وفي ظلّ هذا الواقع، لن نشهد فيلمًا دينيًّا دون دعاية سياسيّة بانتاجٍ ضخم. فضمن إمكانيات هذا الفيلم، لجئ فريقه إلى تقديم أفضل ما عندهم: في تقديم شخصيّة يسوع بملامح شرقيّة فلسطينيّة (وداعًا للشعر الأشقر والعينين الزرقاوتين)، فيلم بعيد كلّ البُعد عن التأثيرات السينمائيّة المُذهلة، يتلافى قدر الإمكان الأخطاء التاريخيّة، ويُقدّم محتوىً توافقيًا قدر المُستطاع.
(نقلاً عن موقع الرهبنة اليسوعية في الشرق الأوسط)