موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٢٨ مايو / أيار ٢٠٢١
"فرنسيس: فقير وراء جدران الفاتيكان".. كتاب جديد لـ"إميل أمين"
المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام يبارك للصديق إميل أمين إصداره الجديد
"فرنسيس: فقير وراء جدران الفاتيكان".. كتاب جديد لـ"إميل أمين"

"فرنسيس: فقير وراء جدران الفاتيكان".. كتاب جديد لـ"إميل أمين"

أبونا :

 

صدر حديثًا كتاب جديد للكاتب والباحث والصديق إميل أمين، بعنوان: "فرنسيس: فقير وراء جدران الفاتيكان".

 

ويقع الكتاب في 320 صفحة من القطع الكبير، وتدور أحداثه في 17 فصلاً، تتمحور حول رؤية المؤلف للدور الذي قام به ولا يزال يقوم به الحبر الاعظم في سنوات حبريته، وكيف استطاع تغيير كثير من الأفكار النمطية عن البابا والبابوية.

 

والكتاب الجديد من منشورات المركز الثقافي الفرنسيسكاني، ويحمل في غلافه الكلمات التاليّة:

 

"إليكم صفحات من ثورة فرنسيس على الكراهيّة والأحقاد، على الجدران العالية التي تفصل البشر عن بعضهم البعض، على الاقتصاد الإقصائي الذي يهمّش المستضفين على الأرض، على أولئك الذين يرون في الحياة صفقة ماديّة، واعتبروا الأرض دار مقرّ إلى الأبد، على الذين يسخّرون الأديان لتضع العقبات من أجل الافتراق لا الاتفاق. فرنسيس، البابا الفقير وراء جدران الفاتيكان، أحد رجال عصرنا الخيّرون والمغيّرون، صنّاع السلام. وما أحوج عالمنا إليه، وإلى نظراته".

 

وفيما يلي النص الكامل لمقدّمة الكتاب:

 

ولدتُ في حبرية سعيد الذكر البابا بولس السادس، كان ذلك في النصف الثاني من عقد الستينيات من القرن المنصرم، حيث تفتحت عيناي وأذناي وأدرك قلبي قبل عقلي الأطر الروحية والتعليمية للكنيسة الرومانية الكاثوليكية، التي امتلكت شغاف قلبي فيها صلوات طقسية، وعبادات تقوية، ورياضات وقراءات روحية، وسياحة في فضاء المؤسسة التي وصفها المؤرخ الأمريكي الشهير وِل ديورانت في موسوعته قصة الحضارة بأنها: "أهم مؤسسة بشرية عرفها التاريخ".

 

حين حلَّ عام (1978) كنت أبلغ من العمر أحد عشر عامًا، وفي السادس من أغسطس آب، قُرعت أجراس كنيستي العريقة والعتيقة في عمق صعيد مصر معلنةً النبأ الحزين.. ثلاث دقات متقطعة.. تليها ثلاث أخرى.. لنحو ساعة، وكانت تلك أداة ذلك العصر في التواصل الإنساني، فأدركنا أن خطبًا جللًا قد أصاب شخصية عظيمة في الكنيسة، هي شخصية البابا غالبًا، وبالفعل كانت السماء قد استدعت بولس السادس بعد جهاد عظيم على الأرض.

 

في السادس والعشرين من الشهر نفسه، وبعد نحو ثلاثة أسابيع فقط، سادت فيها أجواء الحزن، قرعت الأجراس عينها، لكنها هذه المرة بدقات متتالية ولساعات، حاملة أنغام البهجة والفرح باختيار بابا جديد، هو «ألبينو لوتشياني»، الذي سيحمل اسم يوحنا بولس الأول، وسيُعرف باسم بابا الابتسامة، ذاك الذي سيغادر سريعًا إلى الأخدار السماوية بسرعة غير مسبوقة في 28 سبتمبر أيلول 1978، ما يعني أنه لم يستقر على كرسي ماربطرس سوى نحو شهر من الزمان.

 

لفَّ الحزن من جديد المؤمنين، وانجلى سريعًا عبر طواحين السماء التي تطحن ببطء ولكنها تطحن دقيقًا ناعمًا؛ إذ كانت الإرادة الإلهية تُعِد كارول جوزيف فوتيلا، كاردينال بولندا العتيد، ليُضحي بابا الكنيسة الكاثوليكية الرابع والستين بعد المائة، الذي دامت حبريته نحو ستة وعشرين عامًا، من 16 أكتوبر تشرين الأول 1978 حتى 2 أبريل نيسان 2005.

 

أمضيت مع يوحنا بولس الثاني الكبير عقود الصبا والشباب، وعايشنا معه الملحمة التاريخية التي تستحق مؤلفات قائمة بذاتها، حين استخدم سلطانه الروحي، ليكون أول مسمار يدق في نعش الشيوعية بوصفها نظامًا ماديًّا إلحاديًّا، وأول صيحة نبوية معاصرة تتكلم عن كرامة الإنسان في مواجهة الاتحاد السوفييتي، ذاك الذي سحق ومحق البشر في الداخل والخارج.

 

حين غادر البابا القديس عالمنا الأرضي، ذاهبًا إلى بيت الآب، كنت أقترب من العقد الرابع من العمر، وخلال ثلاثة عقود زاد الشغف بالبابا، أيِّ بابا، وبالبابوية، ولاسيما أن الجالس على كرسي ماربطرس، لا تحدُّه وثيقة دستورية، وإنما يمتلك سلطة كاملة غير محدودة في اتخاذ قراراته، ويبقى دائمًا وأبدًا  سلطة إقناع معنوية.

 

توقفت طويلًا أمام تندُّر جوزيف ستالين، الزعيم الشيوعي الشهير، على البابا بيوس الثاني عشر، الذي رغب في المشاركة في مؤتمر يالطا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ذلك الاجتماع الذي شارك فيه ستالين وتشرشل وروزفلت، وفيه تساءل: كم فرقة عسكرية يمتلك البابا؟ وقد جاءه الرد من خليفة بطرس: «قولوا لابننا جوزيف أنه سيلاقي كتائبنا في السماء»، ومن تدابير السماء أن خَلَف بيوس الثاني عشر سيُقدَّر له بدء ضربات المطارق التي هوت بالشيوعية نفسًا ورسمًا وجسمًا، ومن غير فرق عسكرية أو كتائب بشرية.

 

استوقفني تاريخ البابوية الذي قارب ألفي عام في العقد القادم، منذ أن تسلم بطرس الرسول الوعد الإلهي: «أنت الصخرة وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها».

 

عرفت البابوية عصور ازدهار، وفترات انحدار، كشأن أي مؤسسة بشرية، لكن الوعد صاحَبَها، ويد القدير رعتها وأمسكت بها لتعبر بحر الآلام، من زمن نيرون الطاغية إلى آوان هتلر الذي كاد أن يهدد وجودها في خلال الحرب العالمية الثانية، ولكنه ذهب أدراج الريح، وبقي وعد السيد المسيح لبطرس الصياد قائمًا، يُقرأ في قبة بازيليك القديس بطرس، ذلك الوعد الذي يستمد البابا منه موقعه، فوق التاريخ البدهي للإنسانية.

 

ظلت الرغبة في نفسي دفينة في الاقتراب من عالم البابا والبابوية، وتقديم عمل مستقل طوال العقد الماضي، ولم تسنح الفرصة، مع أنني تناولت في الكثير من الدراسات والمقالات العديد من شؤون الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، وشجونها في بعض الأحيان، ولاسيما أن ديالكتيك الحديث عنها يتقاطع فيه الديني مع الدنيوي، الروحي مع الأرضي؛ فالڤاتيكان دولة، وإن كانت أصغر دولة في العالم، والبابا رئيس زمني أرضي، وإن كان الأب الروحي لأكثر من مليار وثلاثمائة مليون نسمة منتشرين عبر قارات الأرض الست.

 

مؤخَّرًا قدرت العناية الإلهية فرصة طيبة لإخراج هذا العمل المتواضع، ولعله يحمل، على صغره ونقائصه، ولو فكرة مبسطة عما يدور وراء جدران الفاتيكان وأسواره، تلك التي قام على تشييدها البابا ليون الرابع، البابا الـ103 في تاريخ باباوات روما، الذي انتخب في 10 أبريل نيسان عام 847، وتوفي في 17 يوليو تموز 855، أي أن حبريته لم تتجاوز الثماني سنوات.

 

والشاهد أنه لا الجدران ولا ما يدور وراءها من مسارات ومساقات للكوريا الرومانية المعاصرة هو ما لفت انتباهي، وإنما شخص البابا فرنسيس، الذي أنطق التاريخ بكلماته، ومنطقه بمحبته وحكمته، وقد ظهر في زمن مثير؛ حيث العالم القديم يُحتضَر والجديد لم يولد بعد، وفي ظل هذا الفراغ، عادة ما تظهر أعراض مرضية غاية في التنوع، على حد وصف المثقف العضوي الإيطالي الشهير أنطونيو غرامشي.

 

لكن من هو فرنسيس الآتي من بعيد، وللمرة الأولى، من أمريكا اللاتينية، أرض الفقراء رغم غناها بالثروات الطبيعية وفقرها للإدارة البشرية؟

 

في الثاني عشر من مارس آذار 2013، احتفل الكرادلة، أمراء الكنيسة، بالقداس الإلهي في كاتدرائية القديس بطرس، حيث ألقى عميد مجمع الكرادلة الكاردينال أنجيلو سودانو عظة طلب فيها من الرب أن يمنح كنيسته راعيًا أمينًا جديدًا، ووجه التحية للبابا الفخري بندكتُس السادس عشر، والذي كان قد تقدم باستقالته في 11 فبراير شباط 2013، لتقدمه في السن وحالته الصحية، بعد حبرية لم تزد عن ثماني سنوات.

 

تمنى الكاردينال سودانو أن يكون «الكونكلاف»، أي اجتماع الكرادلة الخاص باختيار البابا، قصيرًا، وهو ما قد جادت به السماء بالفعل.

 

بعد ظهر الثلاثاء توجه الكرادلة إلى كنيسة «سيستين»، الموقع والموضع التقليدي، لانتخاب البابا الجديد، في موكب جماعي مرتِّلين طَلِبَة جميع القديسين، ثم النشيد التقليدي في هذه الأجواء «هلمَّ أيها الروح الخالق»، مستخدمين لغة الڤاتيكان الرسمية.. اللاتينية في ترديد كلماته: Veni Creator Spiritus.

 

أقسم الكرادلة قسم السرية الخاص بالحفاظ على ما يدور داخل جلسات التصويت، وفي مساء ذلك النهار كان الدخان الأسود يخرج من المدخنة التاريخية، فأدركت الجموع في ساحة القديس بطرس أن المجتمعين لم يصلوا إلى إجماع حول شخص البابا القادم.

 

في صباح الأربعاء الثالث عشر من مارس عينه، فشل الكرادلة كذلك في الجلستين الصباحيتين في الوصول إلى أصوات كافية لتأمين اسم البابا الجديد.

 

وفي مساء الأربعاء وخلال الجلسة الرابعة، بدا واضحًا أن الكرادلة قد أدركوا ثلثي الأصوات لاختيار الحبر الأعظم الجديد، وما هي إلا دقائق حتى تصاعد الدخان الأبيض لتهتف الجماهير مع قرع الأجراس، التي أعلنت بدورها انتهاء أحد أقصر المجامع الخاصة في التاريخ القريب.

 

خلال نصف ساعة تقريبًا من تصاعد الدخان الأبيض، أطل الكاردينال الشماس الأول، الفرنسي الجنسية، جان لوي توران، على الجماهير المحتشدة في ساحة القديس بطرس ليعلن الخبر المفرح التقليدي باللغة اللاتينية: Habemus papm، أي: «لدينا بابا»، تلك العبارة التي لها فاعلية السحر عند المليار والثلاثمائة مليون كاثوليكي حول العالم، ولسان حالهم في تلك اللحظة يردد العبارة الشهيرة المنسوبة للقديس خوسيماريا أسكريفا: Omnes cum Petro ad Iesum per Mariam، التي تعني بالعربية: «نحب البابا كائنًا من يكون... فكلنا مع بطرس نحو يسوع عبر مريم».

 

مضت نصف ساعة قبل أن يطل البابا الجديد المنتخب، كاردينال الأرجنتين، خورخي ماريو برغوليو، الذي فوجئت الجماهير بسلوكه المخالف لتقاليد الڤاتيكان المَرْعِيَّة وبروتوكولاته الرئيسية والفرعية، ولاسيما في اللحظات الأولى لظهور الباباوات المنتخبين.

 

استهل البابا المنتخب تواصله مع الحشود الغفيرة المجتمعة في ساحة القديس بطرس بتحية المساء، ثم طلب من الجميع تلاوة صلاة الأبانا، من أجل سلفه بندكتس السادس عشر، ولاحقًا سأل الجماهير أن تصلي من أجله وتباركه، قبل أن يقوم هو بمنح البركة التقليدية لروما المدينة المقدسة وللعالم المعروفة بـ: Urbi et Orbi.

 

اختار بروغوليو للمرة الأولى في تاريخ باباوات الكنيسة الرومانية الكاثوليكية اسم فرنسيس، وقد كشف الاختيار عن الخلفية الروحية للفقير الجديد، الذي سيحل بوصفه بابا وراء جدران الڤاتيكان، وعن طريقته المتوقعة في إدارة شؤون الكنيسة؛ فمن ناحية وجد فرنسيس في المتصوِّف الإيطالي الشهير القديس فرنسيس الأسيزي من أعمال  القرن الثالث عشر الميلادي، مثالًا روحيًا متقدمًا للفقر الاختياري الذي سيطبع بابويته، ولعالم الحوار وبناء الجسور الذي سينسحب على حبريته مع الآخرين، وقد كان الأسيزي رسالة تسامح وتصالح في أزمنة صعبة، أزمنة حروب الفرنجة كما أسماها العرب.

 

وينطوي أيضًا اختيار البابا اسم فرنسيس، على تكريم اسم القديس فرنسيس كسفاريوس، الراهب اليسوعي الأسباني، الذي ينتمي برغوليو إلى جماعته الرهبانية.

 

رفض فرنسيس منذ اليوم الأول لحبريته العيش في السكن التقليدي للبابوات في القصر الرسولي، وفضَّل عليه شقة صغيرة في «نزل سانتا مارتا»، مكوَّنة من غرفتين، وهو ديدنه من قبل، حين كان رئيسًا لأساقفة العاصمة الأرجنتينية بيونس أيرس.

 

ردد فرنسيس في مناسبات عدة ولقاءات شتى مقولة: «شعبي فقير وأنا واحد منهم»؛ أما ما يُروى عنه أفعال يسديها لهولاء الفقراء فهو كثير، ويكفي أن بعض الصحافيين الاستقصائيين، قد رصدوه في أثواب مغايرة للثوب الأبيض الرسمي، يخرج سرًّا في الليالي ليوزع بنفسه الصدقات على الفقراء والمشرَّدين في جوار الڤاتيكان ولاسيما في أزمنة البرد القارس.

 

على أن الأمر الآخر الذي سيرسم ملامح فرنسيس ومعالمه، هو الرحمة؛ فقد كان من قبل ينصح كهنته بإظهار الرحمة والشجاعة الرسولية، وإبقاء أبوابهم مفتوحة أمام الجميع.

 

في صباح الأحد الموافق 17 مارس آذار 2013، أقام البابا فرنسيس قُدَّاسه الأول مع الشعب بعد انتخابه حبرًا أعظم وأسقفًا على روما، وفي مساء يوم الأربعاء السابق، أقام القداس في كنيسة القديسة حنه في الفاتيكان، والتي تبعد قليلًا عن الباب المعروف بالاسم نفسه، وهو باب الدخول إلى أصغر دولة في العالم.

 

كانت الكنيسة في ذلك النهار مكتظَّة بالمصلين، ويومها ألقى فرنسيس عِظته الثانية بوصفه بابا، وقد ارتجل عباراتها التي دارت حول فكرة واحدة.. «رسالة السيد المسيح هي الرحمة».

 

ركز فرنسيس على أن الكنيسة لم توجد لتدين الناس، بل لتضعهم وجهًا لوجه مع المحبة الخالصة النابعة من صميم رحمة الله، وحتى يتم ذلك كان يكثر من النصح لكهنته بوجوب الخروج من الكنائس والرعايا، والذهاب للبحث عن الناس حيث يعيشون، وحيث يتألمون، بل حيث يعيشون آمالهم.

 

من تلك العظة الأولى برزت مركزية رسالة الرحمة التي ستميز السنوات الأولى من حبرية فرنسيس، ودرجت كلماته على أن تكون بسيطة وعميقة في آن واحد، إنه وجْه الكنيسة التي لا توبخ البشر بسبب ضعفهم وجراحهم، بل تعالجهم بدواء الرحمة.

 

حذر فرنسيس دوما من أن أسوا ما يمكن أن يحدث للكنيسة، وكما أشار إلى ذلك من قبل الأب والمؤرخ وكاتب سير القديسين البلجيكي، فيكتور دي باك، (1817-1876)، هو «الاتصاف بالروحية الأرضية أو الحياتية»، أي الروحانية المتمركزة والمتمحورة حول الذات.

 

فتح فرنسيس أعيننا على أنين البشرية وكارثية المجتمعات ذات التركيبة الأحادية، وفيها اعتاد الجميع على عدم الاعتراف بالمسؤولية وتحمل عواقبها؛ ففي زمن الرأسمالية المتوحشة، والنيوليبرالية الاقتصادية غير الخلَّاقة، تعودنا أن نقول الآخرون هم الذين يخطئون، الآخرون هم عديمو الأخلاق، الآخرون هم المذنبون، أبدًا نحن، وأحيانًا نختبر نوعًا من «الروح الإكليريكية الراجعة»، التي تركز على رسم الحدود، وادعاء تنظيم حياة الآخرين، فتفرض عليهم أوامر ونواهي، تثقل الحياة اليومية، وهي أصلًا ثقيلة، إنه موقف مستعد دائمًا للحكم لا للاستقبال والرحمة، موقف يميل فقط إلى إدانة الآخرين ولا ينحني بشفقة على شقاء البشرية.

 

من هذا المنطلق كانت رسالة الرحمة، وهي جوهر هذه البراءة البابوية الأولى غير المكتوبة، والمتضمَّنة في موعظة البابا الجديد القصيرة، قد هدمت كل الأفكار السابقة المكررة.

 

مَثّل فرنسيس جسرًا بين الشرق والغرب، ولاسيما بين الإسلام والمسيحية، وقد كانت أعوامه ولا تزال رجع صدى لا يتلكأ ولا يتأخر لوثيقة: «NOSTRA AETATE في حاضرات أيامنا»، الصادرة عن المجمع المسكوني الڤاتيكاني الثاني، والتي تتوقف عند علاقة الكنيسة الرومانية الكاثوليكية بالأديان الأخرى.

 

في هذا الإطار لم يعد غريبًا أو عجيبًا أن يكون فرنسيس محبوبًا ومرغوبًا في العالمين العربي والإسلامي بنوع خاص، ولاسيما أن الرجل قد توَّج جهوده في تلك السنوات القليلة بوثيقة تقدمية إنسانية ووجدانية، «وثيقة الأخوة الإنسانية»، التي وُقِّعت في أبوظبي بالإمارات العربية المتحدة في الرابع من فبراير شباط من عام 2019، ذلك اليوم الذي عدَّته الأمم المتحدة بداية من عام 2021 يومًا عالميًا للأخوَّة الإنسانية.

 

هل نحن إزاء عمل يعكس السيرة الذاتية لفرنسيس أو يرصد حركته الدؤوبة حول العالم، أو ربما يسعى إلى مشاغبة أفكاره ومتابعة أسفاره، وتقاطع رؤاه مع رؤى حكام العالم الجدد، وأوثانهم المعاصرة من مال وأعمال، ومذاهب وضعية وأفكار إلحادية؟

 

أغلب الظن أننا أمام بعض من قصة رجل فقير بمعايير الرأسمالية المتوحِّشة على حد تعبير سعيد الذكر البابا يوحنا بولس الثاني الكبير، ولكن مسارب الغنى الروحي في داخله جعلته يحمل راية الإنسان، ويطالب بإعادة الأنوار التي لا تعمي إلى الإنسانية وقيمها المهدرة على طرقات العولمة غير البريئة.

 

فرنسيس الفقير حمل للعالم بشرى جديدة، حين رفع صوته مناديًا بمجتمع السلام والإخاء والحرية، والعتق من صنوف المهانة وقيود الإذلال، التي تمارس على الآخر الضعيف والفقير والمنكسر.

 

تلفت صفحات هذا العمل المتواضع إلى أمر مهم غاية الأهمية، ألا وهو الحيوية التي تتمتع بها الكنيسة الرومانية الكاثوليكية حول العالم، بوصفها أقدم مؤسسة دينية، وأكبر الكنائس المسيحية، وأكبر المذاهب العالمية، وليس قول ذلك داخلًا في باب التمايز أو الفوقية الإمبريالية الروحية، إن جاز التعبير، بل هو بيان لقدر المسؤولية الملقاة على عاتقها من حيث هي أم ومعلمة، ومن حيث هي ضمير نبوي في أزمنة الجدب الروحي.

 

حيوية البابوية لا تزال نابضة قوية متوهِّجة من جيل إلى جيل على مرمى بصر الإنسانية، باباوات يحملون شعلة الإيمان والعلم والقداسة، شعلة لا يمكن أن تطفئها المذاهب المادية، ولا الأيديولوجيات السياسية العنصرية والشوفينية، ولا تقاربها التطلعات القومية الأحادية، أو تتجرأ عليها العلمانيات الجافة التي تحمل بوادر التحلل الأخلاقي والروحي شرقًا وغربًا.

 

ويبقى الاعتراف بأنني مدين بهذه الروح الكاثوليكية لكنيستي العظيمة، التي تقوم على مجد الله وخير النفوس، ترعى الفقراء، وتعالج المجروحين في أنفسهم وأجسادهم وأرواحهم، مدين إلى أفكارها الروحية وعقيدتها الاجتماعية التي تستصرخ الضمير الصالح بين ضلوعي صباحَ مساءَ كل يوم، مهما كان العبء الأخلاقي ثقيلًا، وتجعلنا مستعدين لأن نجيب عن سر الرجاء الذي فينا.

 

مدين لكهنة قديسين تتلمذت على أياديهم، ولرهبان وراهبات رأيت فيهم أمثلة للحبِّ والبذل والعطاء من غير محاصصة طائفية أو عرقية، أو انتظار المقابل، عظماء بالروح علَّمونا أن مقياس المحبة أن نحبَّ بلا مقياس.

 

كما أني مدين أكثر للكاثوليكي الأول الذي عرفته في حياتي، والدي رحمه الله، ذلك المثقف العضوي والعصامي الكبير، الذي تحل اليوم، وأنا أكتب هذه المقدمة، ذكرى رحيله الخامسة عن عالمنا منتقلًا إلى الأخدار السماوية؛ فقد فتحت أعيني على مكتبته العامرة، وعلى أفكاره التقدمية الإيمانية والروحية، وولائه الفائق الوصف لأمنا الكنيسة الكاثوليكية الرومانية المقدسة، وإن أنسَ فلا أنسَ اصطحابه لي صباحًا إلى القداس الإلهي، ومساءً إلى الصلوات التقوية، كل يوم من أيام السنة، صيفًا وشتاءً، ربيعًا وخريفًا، ناهيك عن قصص القديسين وسير البابوات العظام التي جعلتني أحلِّق صغيرًا في عالم البابوية؛ فقد أنار لي الطريق إلى الثورة المسيحية الحقيقية، الثورة على الخطيئة أول الأمر، وهذا ما اكتشفت لاحقًا أنه طَرْح عميق عند البابا فرنسيس، والذي فاه بالقول: «إذا لم يكن المسيحي ثوريًا في هذا الزمن فهو لا يكون في الحقيقة مسيحيًا».

 

إليكم صفحات من ثورة فرنسيس على الكراهية والأحقاد، على الجدران العالية التي تفصل البشر بعضهم عن بعض، على الاقتصاد الإقصائي الذي يهمش المستضعفين في الأرض، على أولئك الذين يرون في الحياة صفقة مادية، ويعدون الأرض دار مقر إلى الأبد، على الذين يُسخِّرون الأديان لتضع العقبات من أجل الافتراق لا الاتفاق. فرنسيس البابا الفقير وراء جدران الفاتيكان.. أحد رجال عصرنا الخيِّرين والمغيِّرين صناع السلام.. وما أحوج عالمنا إليه وإلى نظرائه.