موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
حوار أديان
نشر الأربعاء، ٩ يونيو / حزيران ٢٠٢١
طقوس الأمس ومؤمنو اليوم

روجيه أصفر – سورية :

 

بات من شبه المسلَّم به تراجُع نسبة المؤمنين/ات والتدين وممارسة الطقوس الدينية، خاصة في الحالة المسيحية التي يتناولها هذا المقال بشكل حصري. حالة قد تكون عالمية، ولكن ظهورها كان أكثر وضوحًا في أميركا وأوروبا على ما يبدو، دون أن تكون المسيحية في بلداننا الشرقية بمنأًى عنها، وإن كانت هجرة مسيحيي الشرق المتزايدة وتناقُص أعدادهم أحد أسهل أسباب تفسير هذه الظاهرة. إلا أنها لا تنفي سببًا آخر داخليًّا متعلقًا بطريقة تقديم الإيمان، و-على نحوٍ أقوى- بشكل الطقوس ومعانيها وطرق ممارستها ومدى ارتباطها بالزمن الحاضر.

 

من غير المخالف للمنطق، القول بأن الطقوس الدينية بما تتضمنه من صلوات وتراتيل وحركات وأدوات، هي في مجملها وسيلة إلى التعبير عن الإيمان، وأنَّ الصلاة بوصفها تَواصلًا مفترَضًا مع الله -وهي في حالة الطقس الذي مارستُه شخصيًّا على نحو يوميٍّ سنواتٍ طويلة (الطقس البيزنطي)-، أنما هي طقس غنيٌّ بالمعاني اللاهوتية، قديم العهد، يعود في شكله الحاليِّ تقريبًا إلى مئات سنين خلَت، ويتضمن قيمة مهمة تتمثل بكونه نِتاجَ لاهوت وثقافةٍ وإيمان لِشعوب وقديسين وآباء كنيسة، وتراكمًا زمنيًّا لحياة كنسية ورعوية غنية.

 

من المفهوم عِظَم مساحة الرمز في الطقس الديني، وأنَّ لِثقافة المكان والزمان لنشأة طقسٍ ما دورها في ذلك، إضافة إلى طبيعة الإيمان بوصفه علاقة بين مطلق ومحدود لا يملك -في كثير من الحالات- إلا الرمز والتورية، للتعبير عن هذه العلاقة ومدى فهمه لها. ولكن، يبقى السؤال المشروع، بل الضروري: ما مدى وصول هذه الرموز والمضامين اللاهوتية إلى جمهور المؤمنين المُمارِس لها؟ وما مستوى فهمه لها؟ وهل تُعبِّر هذه الصلوات والطقوس عن ذلك الجمهور اليوم، فيكون مشاركًا حقيقيًّا فيها، أم أنه تَحوَّل إلى مجرد متفرج على "مسرحية" طقسية تُعرض أمامه، أبطالُها الإكليروس والجوقة وقِلَّة من العارفين بالطقوس وتراتيلها؟

 

على سبيل المثال والتوضيح: يخصِّص هذ الطقس لكل يوم من أيام السنة عيدًا محدَّدًا، يمثِّل إحياءً لِذكرى قديس أو حدث ديني ما، سواءٌ ارتبط بشخص المسيح ومَن رافقوه أو ارتبط بآخرين عرفوه بقداستهم ومثالهم الصالح عبر التاريخ الكنسي القديم، إضافة إلى الأعياد الرئيسية المعروفة: كالميلاد والتجلي والفصح والصعود والعنصرة، وغيرها. هناك أعيادٌ مرتبطة بقديسين لا يَعرف التاريخ الكنسي عنهم شيئًا إلَّا تاريخًا تقريبيًّا لاستشهادهم مثلًا، وأعيادٌ مرتبطة بذكرى أحداث جرَت قبل قرون في القسطنطينية أو بلاد اليونان!

 

وكم يَحدث من حالات، يعجز فيها الوالدان عن إجابة طفلهما عن مغزى لباس الكاهن المتعدد الطبقات والألوان في القداس، أو عن معنى كلمة يتضمنها نص صلاة أو ترنيمة، في مثالٍ جليٍّ على فراغ الطقس عمليًامن معناه، وعلى الانفصال الجسيم بين الممارسة والفهم في الطقوس!

 

في الوقت نفسه، فرضت السلطةُ الكنسية ودعاة التمسك بالطقوس القديمة بحرفيتها وحذافيرها -رغم بُعدها عن واقع المؤمنين-، حالةً من المقاومة العنيدة في وجه طروحات تحديثية خجولة، تُوفِّق بين الطقس الديني وحاضر المؤمنين ومنطِقِهم ولغتهم اليوم، أو تدعو إلى استبدال أعياد معيَّنة لا تكاد تعني للمؤمنين شيئًا، بأعياد مختصة بمناسبات وقديسين معاصرين من أبناء شرقنا -ولو انتموا إلى طوائف أخرى-.

 

خلَق هذا الاستعصاءُ في بيئات -حيث السلطة الكنسية ضعيفة المركزية-، تنوعًا منفلتًا -لم يَخلُ أحيانًا من شطط- في الطقوس والممارسات الدينية، بهدف الملاءَمة بين الطقوس والزمن الحاضر واستعادة دور المؤمنين ومشاركتهم؛ ما أدى إلى تهديد وحدة مطلوبة في طقوس أبناء الكنيسة الواحدة، بصفتهم مجموعة واحدة بالمعنى الرعوي.

 

في مواجهة هذه المعضلة، يطرح دعاةُ الحفاظ على الطقوس حلَّ تثقيف المؤمنين وتوعيتهم بالطقوس وتفاصيلها بدل تحديثها، في عملية يرون أنها لا تخلو من مخاطرة خسارة العمق والعراقة للطقوس القديمة المحافَظ عليها. وقد جرى ويجري في هذا الإطار تأسيس مخيمات رعوية ودعمها، وتأسيس جوقات محترفة، وتوفير دورات ليتورجية، جنبًا إلى جنب مع التعليم المسيحي الأساسي بشأن الإيمان والعقائد والكتاب المقدس.

 

قد تحلُّ هذه المحاولات القائمة على التوعية والتثقيف -بدلًا من التحديث- جزءًا من المشكلة، إلا أنها تتجاهل قصور هذا الحل عن حل جوانب أخرى، جرى التطرق إليها آنفًا حول الطقوس الحالية نفسها.

 

انطلاقًا من حقيقة أن الطقوس هنا هي وسيلة لا غاية، وأن الكنيسة في الواقع والمعنى المسيحي هي جماعة المؤمنين الحية، يجدر بأن تكون الطقوس بدورها حية متفاعلة مع هذه الجماعة، التي تتغير وتتطور بمرور الزمن وتَبدُّل الظرف والمكان، وبأنْ تُغيِّر أيضًا بعضًا من الممارسات والمفاهيم السلبية للإيمان الشعبي؛ في حين يساهم التمسك المتعصب بطقوس قديمة لا تتناسب والعصر، في فصل المؤمن(ة) عن إيمانه وممارسته الدينية بمعناها العميق، بعيدًا عما هو شكليٌّ.

 

(تعددية)