موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ٢٠ فبراير / شباط ٢٠٢٣
رسالة المطران كريكور اوغسطينوس كوسا للصوم: الصوم شركة ومشاركة ورسالة
المطران كريكور اوغسطينوس كوسا، أسقف الإسكندرية للأرمن الكاثوليك

المطران كريكور اوغسطينوس كوسا، أسقف الإسكندرية للأرمن الكاثوليك

أبونا :

 

"لماذا نصوم" (متى ٩: ١٤)

 

زمن الصوم الأربعيني الكبير قبل آلام المسيح الفادي وموته وقيامته، زمن إستعداد وإنتظار للقاء الرّبّ، العريس الإلهيّ، مخلّص العالم وفادي الإنسان، وللعبور معه إلى حياة جديدة. فالقيامة هي الحدث الأساسيّ لحياتنا الروحيّة، وتجعل المسيح الربّ حاضراً بيننا ومعنا إلى الأبد.

 

هذا ما نفهمه من ذاك الحوار الذي كتبه لنا القدّيس متى في إنجيله: " دنا إلى يسوع تلاميذ يوحنّا وقالوا له: " لماذا نصوم نحن والفرّيسيّون، وتلاميذكَ لا يصومون ؟ " فقال لهم يسوع: "أيستطيع أهل العرس أن يحزنوا ما دام العروس بينهم؟ ولكن ستأتي أيّام فيها يُرفع العروس من بينهم، فحينئذٍ يصومون" (متّى ٩ : ١٤ - ١٥).

 

إخوتي الأحباء، في زمن الصوم الكبير هذه السنة، نأخذ دفعًا ومضمونًا أعمق لتجديد حياتنا الروحيّة، ونحن في مسيرة التحضير لسينودس الأساقفة الذي سيعقد في شهر تشرين الأول ٢٠٢٤ في روما، وموضوعه: "من أجل كنيسة سينودوسية: شركة ومشاركة ورسالة".

 

الشركة هي الإتحاد مع الله عموديًا، ومع إخوتنا البشر أفقيًا. والمشاركة هي تقاسم ما عندنا من خيرات مع من هم في حاجة ماديّة أو روحيّة أو معنويّة. وأخيرًا الرسالة: وهي رسالة المسيح الموجّهة لكلّ معمّد ومعمّدة، والقائمة على رسالة الحقيقة والمحبّة والحريّة والعدالة والسلام".

 

 

الصوم واجب

 

شريعة الصوم قديمة تسبق الديانات اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام، إذ رافقت جميع الشعوب. فنجد الكثير عنها في كتابات ومنقوشات من الديانات الرومانيّة واليونانيّة وديانات الشرق القديم. فكانت تعبيراً عن التوبة والندامة وإلتماس الرحمة الإلهيّة عند المحن من أمراضٍ وأوبئةٍ وظلمٍ واضطهادٍ وحروبٍ. فكان الصوم حاجة وواجباً على الجميع، تقوم به الجماعة بالتزام أفرادها.

 

هوذا يوئيل النبيّ مثلًا يبلّغ الشعب كلام الربّ: "إرجعوا إليّ بكلّ قلوبكم، بالصوم والبكاء والإنتحاب". ويضيف يوئيل: "مزّقوا قلوبكم لا ثيابكم، وارجعوا إلى الربّ إلهكم، فإنّه حنون رحيم، طويل الأناة وكثير الرحمة، ونادم على الشرّ" (يوئيل ٢ : ١٢ - ١٣).

 

الصوم وقراءة الكتاب المُقدّس: في الكتاب المقدّس نجد، حالات متنوّعة: فكان الشعب يصوم عندما يشعر بحاجة ماسة إلى الله: فمثلاً : إلى عزاء في الحزن الشديد، إلى غفران عند الندامة على الخطايا الجسيمة، إلى نجاة من الكوارث الكبرى والأوبئة، إلى التحرّر من نير الظلم. وكان الشعب يصوم ويصلّي عندما ينذرهم الله، على لسان الأنبياء، لإنغماسهم في الخطايا، ومع الأسف لا يريدون أن يتوبوا.

 

الصوم وتوبة القلب: يهدّئ غضب الله على خطايا الشعب. ولنا خير دليل في مناداة يونان النبيّ باسم الربّ لشعب نينوى المدينة العظيمة فنادى قائلًا: "بعد أربعين يوماً تنقلب نينوى". فآمن أهل نينوى بالله، ونادوا بصوم ولبسوا مسوحاً من كبيرهم إلى صغيرهم. وبلغ الخبر ملكَ نينوى، فقام عن عرشه، وألقى عنه رداءه والتفّ بمسحٍ وجلس على الرماد. وأمر أن يُنادى ويُقال في نينوى بقرار الملك وعظمائه: "لا يذق بشر ولا بهيمة ولا بقر ولا غنم شيئاً، ولا ترعَ ولا تشرب ماءً، وليَلتَفَّ البشر والبهائم بمسوح، وليَدعوا إلى الله بشدّة، وليَرجع كلُّ واحد عن طريقه الشرّير وعن العنف الذي بأيديهم، لعلّ اللهَ يرجع ويندم ويرجع عن اضطرام غضبه، فلا نهلك". فرأى اللهُ أعمالهم وأنّهم رجعوا عن طريقهم الشرّير. فندم اللهُ على الشرّ الذي قال إنّه يصنعه بهم، ولم يصنعه". (يونان ٣)

 

الصوم المقرون بالإيمان والصلاة: الإنسان الذي يريد أن ينال مبتغاه من رحمة الله ، عليه اولاً أن يؤمن ويصوم ويصلي. بعد أن أخرج الربّ يسوع روحًا نجسًا من فتى كان يصرعه، سأل والد الصبي يسوع: "قد أتيتُ به تلاميذك، فلم يستطيعوا أن يشفوه" فأجاب يسوع: "أيُّها الجيل الكافر الفاسد، حتّام أبقى معَكم؟ وإلامَ أحتملكم؟ عليَّ به إلى هنا" وانتهره يسوع فخرج منه الشيطان. فشفي الطفل في تلك الساعة. فدنا التلاميذ من يسوع وقالوا له فيما بينهم: "لماذا لم نستطع نحن أن نطرده" فقال لهم: "لقلة إيمانكم. الحقَّ أقول لكم: إن كان لكم من الإيمان قدر حبٰة خردل قُلْتُم لهذا الجبل: إنتقل من هنا إلى هناك، فينتقل. وما أعجزكم شيء. وهذا الجنس من الشياطين لا يخرج إلاّ بالصلاةِ والصوم" (متى ١٧: ١٨-٢١).

 

كثرت الخطايا في العالم، من دون أيّ توبة، فإنتشر الشرّ، تماماً مثلما انتشرت جائحة كورونا في السنتين الاخيرتين، وما زالت، وعمّت الكرة الأرضيّة بكاملها، فشلّت حركتها، وأصابت الألوف والألوف من البشر على وجه الأرض، وتسبّبت أيضاً بموت ألوف وألوف من الناس، من مختلف الأعمار. وعجز الطبّ والأبحاث الطبيّة العلميّة من ضبطها وإيجاد الدواء الشافي منها والقادر على إبادتها.

 

إنّ الأمراض والصعوبات والمشاكل اليومية مناسبات توجب علينا جَميعاً  التكفير عن الخطايا والشرور التي في العالم، والإبتهال إلى الله كي يرحمنا والبشريّة جمعاء، قائلين: "أسرع يا ربّ إلى نصرتنا، لا تتباعد عنّا. إرحمنا يا ربّ، إرحم شعبك وخلّص رعيتك".

 

ربّنا يسوع المسيح قبل أن يبدأ رسالته داعيًا إلى التوبة والإيمان بالإنجيل، قائلاً: "حان الوقت واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالبشارة" (مرقس ١: ١٥)، صام أربعين يومًا وأربعين ليلة، تكفيرًا عن خطايا البشر. وجرّبه إبليس ثلاثًا وانتصر عليه بقوّة كلام الله (متى ٤: ١-١١)، وأعطانا القدوة في الصوم والصلاة وسماع كلام الله والعودة إليه بالإنتصار على التجارب والمغريات الأرضية.

 

في عظته على الجبل، جمع الربّ يسوع بين الصدقة والصلاة والصوم (متى ٦: ١ - ١٨).

 

بالصدقة، نرمّم العلاقة مع إخوتنا وأخواتنا في حاجاتهم، إذ نعطيهم ما هو لهم، لأنّ "خيرات الأرض معدّة من الله لجميع الناس" (الكنيسة في عالم اليوم، ٦٩). ومساعدتهم هي "واجب من باب العدالة" (رسالة العلمانيّين، ٨). أمّا ألإمتناع عن إشراك الفقراء في خيراتنا الخاصّة إنّما هو، بتعبير القدّيس يوحنّا فم الذهب، سرقة حقوقهم واستلاب حياتهم والخيرات التي هي لهم.

 

بالصلاة، نتحد مع الله، لأنّنا بها نرفع النفس إليه، ونقف في حضرته، ونتأمّل في واقع حياتنا الراهن مسلّطين عليه أنوار قداسة الله. فندرك أنّ حياتنا ملطّخة بالعديد من الخطايا والنواقص والإهمال لواجباتنا وسوء معاملتنا وإساءتها  إلى الغير. فنرفعها صلاة تسبيح لله، وندامة والتماس لغفرانهِ ورحمتهِ، وطلب لنعمته تعضدنا في مقاصدنا الصالحة.

 

بالصوم نُجَدّد ذواتنا. ونُكّفر عن خطايانا، ونسيطر على إرادتنا، ونكبح أميالنا المنحرفة، ونضبط حواسّنا. فإمتناعنا الإراديّ عن الطعام، وشعورنا بجوع مؤقت، يحملاننا على التفكير بإخوتنا الذين يعانون من جوعٍ دائم، فنعمد إلى مساعدتهم لإخراجهم من جوعهم وعطشهم. والقاعدة هي أنّ ما نوفّره من مصروف فترة الصيام  نساعد به إخوتنا وأخواتنا في حاجاتهم.

 

في هذه المناسبة أوجّه التحيّة والشكر من صميم قلبي إلى كلّ الذين يقومون بمبادرات فرديّة أو جماعيّة لمساعدة الجمعية الخيرية التابعة لبطريركيتنا الارمنية الكاثوليكية، والذين يشاركون في حصة الكيلو كل واحدٍ بحسب طاقته، ولا ننسى أبداً أنّ حاجات إخوتنا وأبناءنا اليوم هي ماديّة وروحيّة ومعنويّة وثقافيّة.

 

نسأل الله، بشفاعة العذراء مريـم أمنّا، وبصلوات القديس كريكور (غريغوريوس) المنوِّر، والقديس اوغسطينوس ابن الدموع مُعلّم الكنيسة الجامعة، والطوباوي الشهيد إغناطيوس مالويان، وآبائنا القديسين أن يقبل صيامنا وأن يشفي أمراضنا الروحيّة والجسديّة ويُبيدها بقوّة قيامته وكثرة رحمته.