موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء،
بعلامة التّوبة بوضع الرّماد على الرّأس، نبدأ حجّ الزّمن الأربعينيّ السّنويّ، بإيمان ورجاء. الكنيسة، الأمّ والمعلِّمة، تدعونا إلى أن نهيِّئ قلوبنا ونفتح أنفسنا لنعمة الله لكي نحتفل بفرح كبير انتصار المسيح الرّبّ في الفصح على الخطيئة والموت، كما هتف القدّيس بولس قال: "قدِ ابتَلَعَ النَّصْرُ المَوت. فأَينَ يا مَوتُ نَصْرُكَ؟ وأَينَ يا مَوتُ شَوكَتُكَ؟" (1 قورنتس 15، 54-55). في الواقع، يسوع المسيح، الذي مات وقام من بين الأموات، هو محور إيماننا والضّامن لرجائنا في وعد الآب الكبير، الذي هو الحياة الأبديّة (راجع يوحنّا 10، 28؛ 17، 3)، والذي تحقّق فيه، في الابن الحبيب.
في هذا الزّمن الأربعينيّ، الذي يغتني بنعمة سنة اليوبيل، أودّ أن أقدِّم لكم بعض الأفكار في ما معنى أن نسير معًا في الرّجاء، لنكتشف النّداءات إلى التّوبة التي توجِّهها إلينا رحمة الله، أفرادًا وجماعات.
أوّلًا، السَّير. شعار اليوبيل ”حُجَّاج الرَّجاء“ يجعلنا نفكّر في رحلة شعب إسرائيل الطّويلة نحو أرض الميعاد، كما ورد في سفر الخروج: المسيرة الصّعبة من العبوديّة إلى الحرّيّة، التي أرادها الله الذي يحبّ شعبه، ورافقها، وهو أمين له دائمًا. ولا يمكننا أن نتذكّر حدث الخروج في الكتاب المقدّس بدون أن نفكّر في الإخوة والأخوات الكثيرين الذين يهربون اليوم من أوضاع البؤس والعنف بحثًا عن حياة أفضل لهم ولأحبّائهم. وهنا نجد أوّل نداء إلى التّوبة، لأنّنا جميعًا حُجّاج في الحياة، ويمكن لكلّ واحد منّا أن يسأل نفسه: كيف أواجه هذه الحالة؟ هل أنا حقًّا في مسيرة، أم أنا مشلول عن الحركة، ثابت في مكاني، غارق في الخوف وقلّة الرّجاء، أم مستقرّ في منطقة راحتي؟ هل أبحث عن مسارات للتّحرّر من حالات الخطيئة وانعدام الكرامة؟ سيكون تدريبًا جيِّدًا في الزّمن الأربعينيّ أن نواجه الواقع العمليّ لبعض المهاجرين أو الحُجّاج، وأن نسمح لأنفسنا بأن نتأثّر به، حتّى نكتشف ما يطلبه الله منّا لنكون مسافرين أفضل نحو بيت الآب. هذا اختبار جيِّد للمسافر.
ثانيًّا، لنَقُم بهذه الرّحلة معًا. أن نسير معًا، أن نكون ”سينودسًا“، هو دعوة الكنيسة. المسيحيّون مدعوّون إلى أن يسيروا معًا، ولا يكونوا مسافرين وحدهم أبدًا. الرّوح القدس يدفعنا إلى الخروج من ذاتنا لنذهب نحو الله والإخوة، وليس إلى الانغلاق على أنفسنا. أن نسير معًا يعني أن نكون ناسجي وَحدة، على أساس الكرامة المشتركة كأبناء الله (راجع غلاطية 3، 36-28). ويعني أن نسير جنبًا إلى جنب، بدون أن ندوس أو نقهر الآخر، وبدون أن نحمل الحسد أو النّفاق، وبدون أن نسمح لأحد بأن يبقى في الخلف أو أن يشعر بأنّه مُستَبعَد ومُهَمَّش. أن نسير في نفس الاتجاه، نحو نفس الهدف، ونحن نصغي بعضنا إلى بعض بمحبّة وصبر.
في هذا الزّمن الأربعينيّ، يطلب الله منّا أن نتحقّق هل نحن قادرون على السّير معًا مع الآخرين، في حياتنا، وفي عائلاتنا، وفي الأماكن التي نعمل فيها، وفي جماعاتنا الرّعويّة أو الرّهبانيّة، وهل نستطيع أن نصغي إليهم، ونتغلّب على تجربة حصر أنفسنا في مرجعيّتنا الذاتيّة، فنفكّر فقط في احتياجاتنا؟ لنسأل أنفسنا أمام الرّبّ يسوع هل نقدر أن نعمل معًا، أساقفة، وكهنة، ومكرّسين، وعلمانيّين، في خدمة ملكوت الله، وهل نرحّب بالغير بأعمال ملموسة، بالذين يقتربون منّا والبعيدين عنّا، وهل نجعل النّاس يشعرون بأنّهم جزء من جماعة المؤمنين أم نبقيهم على الهامش؟ هذا هو النّداء الثّاني: توبة وتغيّر إلى السّينوديّة.
ثالثًا، نتمِّم هذه المسيرة معًا فيما يملأنا الرّجاء بالوعد. الرّجاء الذي لا يُخيِّب (راجع رومة 5، 5)، رسالة اليوبيل الرّئيسيّة، ليكن لنا أفقًا لمسيرتنا في الزّمن الأربعينيّ نحو انتصار الفصح. كما علّمنا البابا بنديكتس السّادس عشر في الرّسالة العامّة، ”بالرّجاء مخلَّصون“، "الإنسانُ بحاجةٍ إلى حبٍّ غير مشروط. إنّه بحاجةٍ إلى تأكيدٍ يجعله يقول: ”لا مَوتٌ ولا حَياة، ولا مَلائِكَةٌ ولا أَصحابُ رِئاسة، ولا حاضِرٌ ولا مُستَقبَل، ولا قُوَّاتٌ، ولا عُلُوٌّ ولا عُمْق، ولا خَليقَةٌ أُخْرى، بِوُسعِها أَن تَفصِلَنا عن مَحبَّةِ اللهِ الَّتي في المَسيحِ يَسوعَ رَبِّنا“ (رومة 8، 38-39)". يسوع، حبّنا ورجاؤنا، قد قام من بين الأموات [7] وهو حيّ ويملك في مجده. تحوّل الموت إلى نصر، في هذا يكمن إيمان المسيحيّين ورجاؤهم الكبير: في قيامة المسيح من بين الأموات!
وهذا هو النّداء الثّالث إلى التّوبة: الدّعوة إلى الرّجاء والثّقة بالله وبوعده الكبير، أي الحياة الأبديّة. علينا أن نسأل أنفسنا: هل لديَّ القناعة بأنّ الله يغفر خطاياي؟ أم أتصرّف وكأنّني أستطيع أن أُخلِّص نفسي بنفسي؟ هل أتطلّع إلى الخلاص وأطلب عون الله لأقبله؟ هل أعيش حقًّا الرّجاء الذي يساعدني لأفهم أحداث التّاريخ ويدفعني إلى أن ألتزم بالعدل والأخوّة والاهتمام ببيتنا المشترك، بحيث لا نترك أحدًا في الخلف متروكًا؟
أيّها الإخوة والأخوات، بقوّة محبّة الله في يسوع المسيح، يحمينا الرّجاء الذي لا يُخَيِّب (راجع رومة 5، 5). الرّجاء هو "مرساة النّفس، الأمينة والرّاسخة". وبالرّجاء الكنيسة تصلّي حتّى "يَخْلُصَ جَميعُ النَّاس" (1 طيموتاوس 2، 4) وتنتظر أن تكون في مجد السّماء متّحدة بالمسيح عريسها. هكذا كانت تقول القدّيسة تيريزا الطّفل يسوع: "اثبتي في الرّجاء، يا نفسي، اثبتي في الرّجاء. فأنتِ تجهلين اليوم والسّاعة. اسهري، كوني يقظة، فكلّ شيء يمرّ بلحظة، على الرّغم من أنّ نفاد صبرِك قد يجعل الأمر الأكيد غير أكيد، ويجعل الزّمن القصير طويلًا جدًّا" (هتافات النّفس إلى الله، 15، 3).
سيِّدتنا مريم العذراء، أمّ الرّجاء، لتشفع لنا وترافقنا في مسيرة الزّمن الأربعينيّ.