موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
في عام 2002 دُعيت من جامعة الحسين بن طلال، الناشئة في ذلك الوقت، للحديث في مؤتمر دولي حول فكر الملك الباني الحسين بن طلال. وتم عرض الكثير من الاختبارات والخبرات والدراسات حول الفكر الثاقب للحسين الباني رحمه الله. واليوم أجد نفسي، وبعد مرور خمسة وعشرين عامًا من تبوّء جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين بن طلال، سدّة العرش السامي، لأفكر أيضًا بالتطوّر في عمل المؤسّسات المسيحيّة في فترة هذا الحكم السعيد والمديد.
تكلمت في مؤتمر عام 2002 حول تطوّر المؤسسات المسيحية في الأردن في عهد الملك الحسين رحمه الله. واليوم، وبعد ربع قرن من العطاء الموصول، نستطيع إجراء دراسة مماثلة: ما التطوّر الذي حصل في المؤسسات المسيحية في وطننا العزيز على مدار ربع قرن من حكم الملك عبدالله الثاني، وهو الحكم المستمر إلى سنين طويلة بإذن الله تعالى.
في الذكرى اليوبيلية السعيدة لتسلم جلالة الملك عبدالله الثاني حفظه الله، السلطات الدستورية، يقف الشعب الأردني، بتنوّع فسيفسائه، شاكرًا الله تعالى على كل نعمه وعطاياه، التي أسبغ بها على الأردن الحبيب عبر خمسة وعشرين عامًا جميلة ومؤثرة من الزمن، بالرغم من التحديات والرياح القوية التي عصفت بالمنطقة والعالم. وبهذا المقام، تفرح الكنائس المسيحية، برعاتها ومؤمنيها، ويفرح معهم كل إنسان شريف، بأنّ الأردن بقي بلد الأمن والاستقرار، والأخوّة والحوار، تمثلت بإشادة المؤسسات، وإطلاق المبادرات التي حفظت التعدديّة الدينيّة المشرقة المشرقية والعالمية، وتمتنت العلاقات الصادقة بين مسلمي هذا البلد ومسيحييه، حتى أن الأردن أصبح في العالم أجمع منارة سلم ومحبة ووئام وإخاء.
بداية علينا أن نذكّر بأن المؤسّسة المسيحية العاملة في الأردن، ليست حكرًا على المواطنين المسيحيين، بل هي في خدمة المجتمع بأسره، وبالأخص في أماكن العلم والصحة، وأماكن الخدمات التربوية والاجتماعية والثقافية الرائدة. أما بالنسبة لدور العبادة المسيحية، فلها خصوصية تكمن في أنها للمؤمنين العابدين المسيحيين، أسوة أيضًا بالمساجد لإخوتهم المسلمين، الذين لهم الحقّ بالتوجّه إليها وقتما شاؤوا، في المناسبات وفي أوقات الصلاة المتعددة.
لقد تميّزت هذه الفترة ببناء الكنائس المتعدّدة، من مختلف الكنائس، ولا نقول الطوائف. ومن الكنائس ما تم التبرّع به من قبل عائلات ميسورة، أرادت أن تخدم أبناء منطقة معينة، من خلال إيجاد كنيسة لم تكن موجودة، بفعل التطوّر العمراني والانتشار السكاني كما حدث بشكل خاص في مناطق غرب وشمال عمّان، ومنها ما تمّ تمويله مباشرة من قبل الكنائس ومن يسندها من جمعيات خيريّة.
أمّا موقع معمودية السيد المسيح، فأصبح يشكّل ركنًا أساسيًّا للسياحة الدينيّة إلى أرض المملكة، وجلالته قد شارك البابا بندكتس في 10 أيار عام 2009 بوضع حجر الأساس لكنيسة – بل كاتدرائية المعمودية، لتنضم إلى شقيقاتها من مختلف الكنائس في هذه البقعة المقدّسة والتي ستشهد تطورًا كبيرًا في المستقبل القريب إن شاء الله بعد إطلاق المخطط لتطوير الأراضي المجاورة للمغطس عام 2022 برعاية ملكيّة سامية. ولقد كان لوقفة جلالة الملك مع قداسة البابا السمعة العالية في الصحافة العالمية، سيما وانها جاءت في وقت كان الارهاب يضرب المساجد والكنائس في غير بقعة من العالم، أما في الاردن فرأس البلاد مع رأس الكنيسة الكاثوليكية ينضمان معًا لوضع حجر أساس كنيسة المعمودية، قرب نهر المعمودية الذي يحمل اسم وطننا الاردني الغالي.
وفي هذه الفترة أيضًا، تمّ تجديد كنيسة جبل نيبو في مادبا عام 2016، وهي من الكنائس التاريخيّة العريقة في خارطة الحج المسيحيّ العالميّ، وتمّ تطوير مزار سيّدة الجبل في عنجرة، وبدء الخطط لتطوير موقع مكاور، حيث موقع استشهاد يوحنا المعمدان، وبناء مزار العذراء سيّدة لورد في ناعور. ودشنت الكنائس الشقيقة العديد من الكاتدرائيات في عمان وخارجها، وبالأخص في كنائس اللاتين والروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك والسريان.
وهنا نشير بالتطور الذي ميّز القضاء الكنسي في الأردن، من خلال تحديث الأحوال الشخصية للمسيحيين، واطلاق قانون مجالس الطوائف المسيحية عام 2014، وقد استخدمت كلمة "المسيحية" لأول مرة، بعدما كان يسمى قانون الطوائف غير المسلمة.
وتم تحديث عمل العديد من المحاكم الكنسية، لدى مختلف الكنائس، وتعقد المحكمة الكنسية اللاتينية مؤتمرًا سنويًا منذ أكثر من عشر سنوات، ويتم فيه استضافة العديد من المختصين من الوطن العربي وخارجه، لابراز دور عمل المحاكم التي يعتبر وجودها المنصوص عليه في الدستور، علامة على احترام التعددية الدينية والشؤون المسيحية، في التقاضي بما يختص الزواج والعائلة والارث والوصاية الشرعية وغيرها. وقد منح جلالة الملك الجنسيّة الاردنية لعدد من القضاة الكنسيين العرب، لكي يسهل عملهم في محاكمهم الكنسيّة الخاصة.
في عهد الملك عبدالله الثاني ابن الحسين لم نبدأ من نقطة الصفر، بل كان هنالك تطوّر كبير للمؤسسات المسيحية العاملة، بتعاون وثيق مع المؤسسات الوطنية ومع مختلف الجهات، لأن الهدف المشترك لجميع مؤسّساتنا هو خدمة الإنسان وخدمة الإنسانية، وخدمة المواطن وخدمة المواطنة الصالحة والروح الوطنية الصادقة.
فبالإضافة إلى إقامة أماكن العبادة، تم إشادة صروح علمية وتربوية واجتماعية وخيرية، تقدّم خدماتها لجميع المواطنين بدون تمييز، كما وللاجئين والمهجرّين الذين وجدوا في الأردن «بيتًا آمنًا وسط حي مشتعل»، نتيجة الصراعات السياسية أو الفكرية الرافضة للآخر المختلف.
وتميّزت كذلك بانشاء العديد من المدارس، التي يصعب حصرها هنا، وغيرها من المؤسّسات التربوية، وتجديد وتقوية ما كان موجودًا منذ أكثر من 170 عامًا لخدمة الإنسان بدون تمييز، لا على أسس عرقية ولا طينية ولا طائفية، ومنها الجامعة الأميركيّة في مادبا، التابعة للبطريركيّة اللاتينيّة، التي وضع حجر أساسها البابا بندكتس السادس عشر في 9 أيار 2009، وافتتحت بشكل رسميّ أمام الطلبة من كلّ الجنسيات في 30 أيار 2013 برعاية جلالة الملك عبدالله الثاني، وحضور سموّ ولي العهد الامير الحسين بن عبدالله الثاني، وممثّل البابا فرنسيس الكاردينال ليوناردو ساندري رئيس الدائرة الفاتيكانية المختصة بالكنائس الشرقية آنذاك.
وفي الشأن الاجتماعي، نشير إلى أنّه خلال هذه الفترة خطت جمعية الكاريتاس الأردنيّة، الذراع الاجتماعي للكنيسة الكاثوليكيّة، خطوات رائدة على درب المحبة والعطاء، تجاه كل طارق باب، سواء كان مواطنًا محليًّا، حيث أصبح لديها العديد من المراكز في مختلف المحافظات، أم وافدًا مجروحًا تبعًا للأوضاع الأمنيّة والسياسيّة في الدول التي تحيط بالمملكة. ومنها كذلك بيت العناية الإنسانيّة لرعاية المسنين في الفحيص الذي افتتح برعاية ملكيّة عام 1999، ومركز سيّدة السلام لخدمة الأشخاص ذوي الإعاقة برعاية ملكيّة أيضًا عام 2004، وغيرهما من المؤسسات لدى مختلف الكنائس التي تجتمع على تنمية الإيمان، وتعزيز الروح الوطنية لدى المواطنين.
ابتدأ عهد الملك عبدالله الثاني بالإعلان عن عيد الميلاد منذ عام 1999 عطلة رسمية لجميع المواطنين المسيحيين في المدارس أو الجامعات، مع تولي جلالته سدّة العرش، وهو بالمناسبة أول عيد ميلاد في عهد الملك المعزّز. ولنا أن نتخيّل مقدار روح الوحدة الوطنية التي تعزّزت، وهي روح شعور الإنسان بأن جميع المواطنين هم له أخوة وأخوات تحت سقف المظلة الوطنية الجامعة أو في روح الوحدة الوطنية الجامعة، فالفرح مشترك والعيد مشترك، والشعور بأن عيد الميلاد هو عطلة رسمية هو طبعًا من الناحية العقائدية تعزيز لما هو منصوص عليه في الكتب المقدسة، في الإنجيل المقدس والقرآن الكريم، بأن السيد المسيح قد أسس الديانة المسيحية على المحبة والوفاق والدعوة إلى التلاقي بين البشر.
وبالتالي، فإن إعلان جلالة الملك، في بداية عهده الميمون والسعيد والمديد، لعطلة شاملة لكل المجتمع في الأردن في عيد الميلاد المجيد قد عزّزت الروح الوطنية، وبأن الأردنيين جميعًا هم يد واحدة وكتف واحد وبيت واحد. وقد ابتدأ منذ ذلك الوقت اللقاء بين جلالة الملك ورؤساء الكنائس، والذي أصبح تقليدًا سنويًا يقدّم جلالته المعايدة على أبنائه وبناته المسيحيين في الأردن بمناسبة عيد الميلاد المجيد ورأس السنة الجديدة ليصبح فيما بعد لقاءً مسيحيًا-إسلاميًا شاملاً، يدعى إليه رؤساء الكنائس في القدس، ورؤساء الدوائر الإسلامية في المسجد الأقصى، بالإضافة إلى المسؤولين الدينيين الكنسيين والمسلمين في الأردن.
وهنا استذكر عام 2006، حين قال جلالته امام رؤساء الكنائس، ما اعتبره نهجًا دائمًا في حكم الهاشميين، وقد تعزّز في عهد ابي الحسين: "الجميع في الأردن، مسلمين ومسيحيين، يشكلون أسرة واحدة متكاتفة، ويعملون يدًا بيد، من أجل مصلحة الوطن وتقدّمه وازدهاره".
وفي عهد جلالته تمّ تنظيم الشؤون الدينية، بشكل عام، ومنها المسيحية، من خلال مكتب سمو الأمير غازي بن محمد، مستشار جلالة الملك للشؤون الدينية والثقافية، ورئيس مجلس أمناء موقع المعمودية – المغطس. وتم من خلال هذا المكتب العزيز، تطوير عمل مجلس رؤساء الكنائس، وربطه مع القدس، وتنظيم عمل كل كنيسة وعلاقتها مع مؤسسات الدولة الأردنية.
في عهد الملك عبدالله الثاني ابتدأ عهد المبادرات العالمية لحوار الأديان. قبل ذلك طبعًا، كان الأردن قد خطى خطوات رائدة في مجال الحوار الديني، وبالأخص بعد زيارة البابا بولس السادس كأول حبر أعظم يخرج خارج أسوار الفاتيكان، وخارج الحدود الإيطالية عام 1964، فكان مطار ماركا بعمّان أول مطار تحط عليه طائرة بابوية على الإطلاق، واستقبله الملك الراحل الحسين بن طلال، الذي في عهده تم إنشاء العديد من المراكز الحوارية، أهمّها مؤسسة آل البيت للفكر الإسلامي والمعهد الملكي للدراسات الدينية.
أما في عهد الملك عبدالله الثاني، فتطوّرت مؤسسة آل البيت بهمّة وتوجيه سموّ الامير غازي بن محمد، والمعهد الملكي للدراسات الدينية برئاسة سمو الامير الحسن بن طلال. وتعزّزت المبادرات والمؤسسات الحوارية لتشكّل دفقًا جديدًا من مبادرات لم تبقى محصورة على الصعيد المحلي، إنما خرجت لتصبح عالميّة، ومعتمدة في كل المحافل الدولية. ومن هذه المبادرات نذكر مؤتمر العرب المسيحيين 2002 وكان شعاره «معًا للدفاع على الأمة»، وفيه أكد مسيحيو الأردن وفلسطين تصدّيهم لتهم الارهاب تجاه الإسلام. وأطلقت عام 2004 –أي قبل عشرين عامًا- ’رسالة عمّان‘ التي أوضحت الصورة الحقيقة للإسلام ردًا على الاتهامات بأن الإرهاب لصيق بدين معين. وفي تلك السنة تم افتتاح المركز الاردني لبحوث التعايش الديني.
كما أطلقت مبادرة ’كلمة سواء‘ عام 2007، وهي اتفاق تاريخيّ بين العلماء المسلمين، برئاسة سمو الأمير غازي بن محمد، بالاشتراك مع حاضرة الفاتيكان، والتي بيّنت أنّ جوهر الديانة هو في «محبّة الله ومحبّة القريب». وتأسس معها المنتدى الكاثوليكي الاسلامي الدائم. وفي عام 2010 كان الأردن رياديًا من جديد لأن يطلق ’أسبوع للوئام بين الأديان‘، والذي تم تبنيه من دول الأمم المتحدة باجماع فريد، ويتم الاحتفال به الأسبوع الأول من شباط من كل عام. وفي عام 2010 حين عقد سينودس (أو مجمع) للمسيحيين من الشرق الاوسط في حاضرة الفاتيكان، قال جلالة الملك في رسالة وجهها إلى قداسة البابا بندكتس السادس عشر: «صاحب القداسة، إنّنا نشدّ على أيديكم، في سعيكم الدؤوب، لترسيخ منطق الحوار والعيش المشترك والتآخي، في الشرق الأوسط، وتحقيق السلام، وفتح باب الأمل نحو مستقبل أفضل لابناء المنطقة والعالم».
وعام 2012 تأسّس المركز الكاثوليكي للدراسات والاعلام، ليكون صوتًا كنسيًّا ومجتمعيًا راقيًا، يقدّم المعلومة الموثقة، ويدعو إلى الاحترام المتبادل وتعظيم ما لدينا من جوامع. إنّ تطوّر الإعلام المسيحي في المملكة، بتناسق كبير مع التطوّر الإعلامي على الساحة الأردنيّة بشكل عام، قد أتاح أن تغطى الأخبار المختصة بالاحتفالات الدينيّة، وأيام الحج المسيحي بطريقة مرتبة ومنظمة، ليس فقط على الصعيد المحليّ، بل أيضًا للمتلقي العالمي من مختلف أقطار العالم، والذي ساهم في الترويج السياحي الديني إلى بلدنا الحبيب.
وعام 2013 عقد الأردن مؤتمرًا دوليًّا، وكان عنوانه صريحًا ووقائيًا أمام التحديات التي تواجه التعددية الدينية في الشرق الأوسط، فأضفي له عنوان: ’التحديات التي تواجه العرب المسيحيين‘، وفيه قال راعي المؤتمر جلالة الملك للحاضرين من رجال دين من العالم أجمع: «بأن الدفاع عن الهوية العربية المسيحية ليس ترفًا وإنما واجب». وفي عام 2014 فتح الأردن أبوابه لاستقبال أفواج المهجرّين واللاجئين، ليس فقط بسبب الصعوبات السياسية والحروب، إنما المهجّرين قسريًا من مدينة الموصل والبلدات الشمالية في العراق بسبب الاضطهاد الديني، وبالتالي اعتبر الأردن محتضنًا ليس فقط للمهجّر السياسي أو الجريح بسبب الحروب، إنما للجريح بعمق بسبب إيمانه. وكان ذلك عنوانًا عريضًا بأن الأردن، في احتضانه للمهجرين المسيحيين من الموصل، إنما يدافع عن صورة الإسلام الحقيقية، ويدافع عن وجود وحضور واستكمال التعددّية الدينيّة في الشرق الأوسط. وفتحت قاعات الكنائس والمدارس، للعديد من الافراد والعائلات القادمين من بلدهم بحثا عن مأوى وحفظ للأمن والأمان والايمان.
في عهد الملك عبدالله الثاني جاء إلى الأردن العديد من كبار الشخصيات الدينية المسيحية. ففي عام 2000 كان البابا يوحنا بولس الثاني ضيفًا عزيزًا على الملك عبدالله الثاني والشعب الأردن، وفي زيارة قداسته، تم افتتاح موقع معمودية السيد المسيح (المغطس)، الموقع الرائد في السياحة الدينيّة في الأردن. كما تمّ خلال الزيارة الاحتفال بقداس حاشد هو الأول لحبر أعظم في المملكة الأردنيّة، في ستاد عمان الدولي تحديدًا. وبعدها بتسع سنوات، عادت الوفود لتستقبل من جديد البابا بندكتس السادس عشر، في زيارة اعتبرت تعزيزًا لحضور المؤسسات االمسيحية لخدمة المجتمع الأردني، حيث تم وضع حجر أساس الجامعة الأميركية في مادبا، كما وضع حجر أساس مشترك بين قداسة البابا وجلالة الملك وجلالة الملكة رانيا، لكنيسة معمودية السيد المسيح الكاثوليكيّة في موقع المغطس، وما زال العمل جاريًا لاستكمال بنائها. وفي عام 2014، استقبل الأردن البابا فرنسيس استذكارًا لمرور خمسين عامًا على زيارة البابا بولس السادس.
ويُضاف إلى ذلك زيارات العديد من رؤساء الكنائس من مختلف العائلات الكنسيّة. ومن بينها زيارة البابا الراحل شنودة الثالث عام 2005، حيث تم وضع حجر أساس دير القديس أنطونيوس الكبير في مادبا. وزيارة البطريرك الماروني الكاردينال نصرالله صفير عام 2009، وخلفه البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي في عدة زيارات. وزيارة البطريرك الروسي كيريل عام 2012، حيث تمّ افتتاح بيت الحجاج الروسي في المغطس بمشاركة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وزيارة رؤساء وممثلي الكنائس الأرثوذكسية عام 2014، وزيارة البابا تواضروس الثاني عام 20?6، بالتزامن مع استضافة المملكة لأعمال الجمعية العامة الحادية عشرة لمجلس كنائس الشرق الأوسط الذي تم افتتاح مكتب له منذ سنوات، وتم تجديده قبل أيام. وفي الجمعية تم تدشين الدير القبطي الأول في الأردن، ناهيك عن مختلف الزيارات الرسمية والمؤتمرات الهامة التي عقدت في المملكة.
إنّ الوصاية الهاشميّة ليست وصاية كلامية أو حبرًا على ورق، إنما تطبّق على أرض الواقع، ويتبيّن ذلك من خلال الإشراف المباشر على المسجد الأقصى وموظفي الأوقاف في القدس، وكذلك من خلال إسهام جلالة الملك إسهامًا شخصيًا بترميم القبر المقدس في كنيسة القيامة، كونه الوصيّ على الأماكن المقدّسة في مدينة القدس الشريف.
وكذلك نستطيع الحديث عن مجلس رؤساء الكنائس في الأردن، الذي يشارك به البطاركة في القدس الشريف، بالإضافة إلى أخوتهم الأساقفة في المملكة، فالقدس عنوان عريض للمسيحيين في العالم، وكم بالأحرى للمسيحيين في الأردن، الذين ينبع الإيمان لديهم من القدس التي احتضنت أحداث الخلاص والقيامة. وفي 31 اذار عام 2013، وقع جلالة الملك عبدالله الثاني مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وثيقة اعتبار جلالة الملك هو «صاحب الولاية والخادم الشخصي للأماكن المقدسة في فلسطين» وهذا طبعًا ما يعتبر جزءًا من القانون الدولي الذي على الجميع احترامه.
رأينا التطوّر الكبير للمؤسّسات المسيحية في الأردن، وهذا يدل على احترام الخصوصية لدى جميع السكان، وما ينصّ عليه الدستور من حرية العبادة، وكذلك احترام وتقدير من جلالة الملك للمسيحيين في الأردن، أولاً لأنهم مواطنون يملكون الحقوق وعليهم الواجبات، وثانيًا هو في سبيل الحفاظ على التعددية الدينية الراقية، ليس فقط في الأردن إنما في منطقة الشرق الأوسط والعالم أجمع.
فأمام تعرّض التعددية في منطقتنا لعدّة هزّات خلال الفترة الأخيرة، ونقولها بكل أسف، قاد جلالة الملك من عمّان تيارًا انفتاحيًا وصحيحًا وصحيًا لاستخدام الدين في صنع السلام وفي إشاعة ثقافة اللقاء، وكان المدافع الأكبر عن الحضور المسيحي المُشرق في المنطقة العربية، وفي الفسيفساء الأردنية الرائعة التي تحتوي بين جنباتها فسيفساء أثرية ضاربة الجذور في الأعماق، وفي فسيفساء البشر الأردنية الذين يشكلون تناغمًا ووئامًا، وحُسن تعاون وتعامل بين مختلف الأطياف الدينيّة.
وهنا، أستذكر خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني خلال استقباله المشاركين في مؤتمر «التحدّيات التي تواجه المسيحيين العرب»، في 3 أيلول 2013، حينما قال جلالته: «نحن نعتزّ بأنّ الأردن يشكّل نموذجًا متميزًا في التعايش والتآخي بين المسلمين والمسيحيين، كما نؤمن أن حماية حقوق المسيحيين واجب وليس فضلا أو منة، فقد كان للمسيحيين العرب دور كبير في بناء مجتمعاتنا العربية، والدفاع عن قضايا أمتنا العادلة».
في عام 2014، وقبيل زيارة البابا فرنسيس إلى الأردن، قال الصحفي الإيطالي جاني فالنتي، وهو صحفي مخضرم يعمل في العديد من الصحف الإيطالية واسعة الانتشار، بأن هنالك خيارين أو تيارين يقودهما الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، الأول: «الدفاع عن صورة الإسلام الحقيقية، والثاني هو الدفاع عن الهوية العربيّة المسيحيّة». وأجد هنا أن هذين الخيارين قد ميزا الربع قرن الذي نحتفل به كاسرة واحدة، تحت نظر ورعاية الله تعالى، وتحت حكم رشيد من قبل جلالة الملك عبدالله الثاني.
فقد قاد جلالة الملك، حفظه الله، تيارًا انفتاحيًا وتيارًا صحيحًا وصحيًا لاستخدام الدين في صنع السلام في العالم. لذلك، نال جلالته جائزة جائزة تمبلتون الدوليّة لحوار الأديان في نيويورك 2018 والتي أرى فيها تكليلاً لعشرين سنة من هذا العمل المضني والجاد والمثابر من أجل إعلان كلمة الدين السليم وتوحيد الصف الإنساني في استخدام الدين استخدامًا سليمًا، ذلك ان الارهاب لم يكن أبدًا حربًا دينية من دين لآخر، لكنه كان حربًا بشعة ضد الإنسانية برمّتها. كما كان جلالته قد تسلّم عام 2005 جائزة البابا يوحنا بولس الثاني، ليكون أول مستلميها بعد إنشائها إثر وفاة البابا القديس، الذي زارنا في عام 2000، واستقبله الملك الشاب وقتها. وفي 2019 نال جائزة أسيزي للسلام في إيطاليا، وفي 2022 جائزة زايد للأخوّة الإنسانيّة في أبو ظبي، وكذلك في العام نفسه جائزة الطريق إلى السلام التي تمنحها بعثة الفاتيكان لدى جمعية الأمم المتحدة لأشخاص مميّزين على درب الحوار. وقد رافقه وفد من مجلس الكنائس في كل مرة كان يذهب لتسلم الجائزة.
نعم، لقد قاد القبطان الماهر جلالة الملك عبدالله الثاني السفينة الأردنيّة إلى بر الأمان والاستقرار، وتنبه منذ سنوات حكمه الأولى إلى ضرورة التمسّك بقيم الأديان في محبة الله ومحبة القريب. وتبقى قضية السلام هي العطش الأكبر في نفس جلالته، وفي نفوس الأردنيين، وصانعي السلام الحقيقي.
وهنا طبعًا تتمسّك الكنائس الأردنية والفلسطينية، بخيار السلام المبنيّ على العدالة وادانة القتل والتهجير، وإعطاء الشعب الفلسطيني حقه من الاستقلال والراحة بعد العناء الطويل. ولقد تميّزت الأشهر الأخيرة، بالجهود الحثيثة المضنية التي قام جلالة الملك من أجل رفع الظلم عن أهالينا في غزة، وأوصل المساعدات إلى المنكوبين، ودعا، وما زال يدعو إلى اليوم، بدون يأس، إلى أمرين: الأول وقف إطلاق النار الفوري على غزة، والثاني إلى ضرورة إيجاد حل جذري للقضية الفلسطينية، على مبدأ حل الدولتين، وأن تكون القدس عاصمة للدولة الفلسطينية وهذا ما تتفق عليه الكنائس مع جلالته، وقد تمّ في عدة لقاءات، وبالأخص في زيارة جلالة الملك إلى حاضرة الفاتيكان في بداية ايار 2024، ولقائه السابع مع البابا فرنسيس، التأكيد على هذه الثوابت الأردنية والإسلامية والمسيحية. ورفعت الكنائس في الأردن الصلوات والشموع من أجل السلام، وأوصلت المساعدات عبر الهيئة الأردنية الهاشمية الخيريّة، وكان الكاردينال بييرباتيستا، بطريرك القدس وعمّان، أول من زار غزة، وأمضى ثلاثة أيام مع الملتجئين إلى كنيستي العائلة المقدسة والقديس برفيريوس.
ومما أذكره هنا، أن كاهن غزة الأب يوسف سعيد، قد طلب مني قبيل عيد الميلاد مع نهاية العام الماضي، أن أوصل سلامه لجلالة الملك، فاغتنمت مناسبة مشاركتي في اللقاء الذي جمع جلالته مع رؤساء الكنائس والقيادات الإسلامية، لأوصل السلام الشخصي لجلالته، شاكرًا له باسم الأب يوسف ورعيته في غزة على أن الخبز الذي كانوا يأكلونه في الكنيسة كان أردنيًا. فشدّ جلالته على يدي، وقال: «لسّا الخير بالجايات».
حفظ الله جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، وسمو ولي العهد الامير الحسين بن عبدالله، وحفظ الوطن العزيز، وحفظ وحدتنا الوطنية، وحفظ التعدديّة الدينيّة في الشرق الأوسط وفي العالم. وكل عام ومسيحيو الاردن ومسلموه، برعاية صاحب اليوبيل السعيد جلالة الملك، بألف خير وانسجام.