موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
القامشلي… مدينة وُلدت على ضفاف التاريخ لتكون ملاذًا للنازحين والمهاجرين، ومهدًا لتنوّع حضاري وروحي فريد. في قلبها شُيّدت أول كنيسة سريانية أرثوذكسية قبل مئة عام، لتصبح علامة مضيئة تجمع أبناء الكنيسة كعائلة واحدة، وتشكّل هوية راسخة تتوارثها الأجيال بالإيمان والعمل والمحبة.
واليوم، تحتفل الكنيسة السريانية الأرثوذكسية في القامشلي بمرور قرن على بناء كاتدرائية مار يعقوب النصيبيني، حيث تختلط الذاكرة بالواقع، والماضي بالحاضر، لرسم ملامح المئوية الثانية. إنها لحظة لا تعني فقط استعادة أحداث مضت، بل تأكيدًا على استمرار رسالة روحية وحضارية صنعت حضورها عبر مئة عام من التضحيات والعطاء بسواعد سريانية لا تعرف سوف القيامة والعمل.
من قلب هذه الكاتدرائية المباركة، أجرينا هذا الحوار الخاص مع سيادة المطران مار موريس عمسيح، مطران الجزيرة والفرات للسريان الأرثوذكس، لننهل من خبرته ورؤيته، ونلامس معًا عمق هذه اللحظة التاريخية التي تجمع الماضي بالحاضر وتطل بنا إلى المستقبل.
سيادة المطران، مضى قرن كامل منذ أن شُيّدت أول كنيسة من التراب، مرورًا بمعجزة نضوح الزيت، وصولاً إلى هذا الصرح الكبير الذي يحمل اسم القديس يعقوب النصيبيني، المعروف بصلابته في الدفاع عن الإيمان ورعايته لشعبه. كيف تقرأون هذه المسيرة الروحية والتاريخية التي شكّلت هوية السريان الأرثوذكس في القامشلي؟
في البداية، أود أن أرحّب بكم في كاتدرائية مار يعقوب النصيبيني للسريان الأرثوذكس في القامشلي، التي تمثّل رمزًا حضاريًا لشعبنا وأصالته. شعبنا عاش تاريخيًا في أرض طور عابدين المباركة، ويستمر حضوه اليوم في ما نسمّيه "نصيبين الجديدة" – القامشلي. وجودنا في هذه الأرض الطيبة كان ولا يزال محط اهتمام وتقدير من جميع إخوتنا من مختلف المكوّنات في المنطقة، خصوصًا بعد مذابح السيفو التي تعرّض لها شعبنا السرياني عام 1915، والتي دفعت أجدادنا للنزوح إلى منطقة الجزيرة والاستقرار في مدنها وبلداتها: الحسكة، القامشلي، عامودا، الدرباسية، والمالكية. وهنا بدأوا بناء أول كنيسة صغيرة من اللبن، لتكون بيت صلاة ووحدة تجمع أبناء الكنيسة السريانية من كل المناطق مع إخوتهم المسيحيين الآخرين.
نحن اليوم هنا في هذه الكنيسة التي تحمل اسم القديس يعقوب النصيبيني، وهو قريب منّا على مرمى حجر من مدينتنا. وقد أُتيح لي الأسبوع الماضي أن أزور مكان رقاده في نصيبين، حيث نلت البركة منه ومن الجامعة التاريخية العريقة هناك. في نصيبين ما زالت تفوح رائحة القداسة وتشع أنوار العلم والمعرفة التي قدّمها مار يعقوب ومار أفرام السرياني وكل القديسين العظام الذين سطّروا صفحات التاريخ بلغات الإيمان: الآرامية السريانية واليونانية، كما لا ننسى الكنوز الفكرية من كتب ومؤلفات التي تُغني اليوم مكتبات الكنيسة والثقافة بشكل عام.
بعد الدماء التي سالت منذ أكثر من 110 أعوام في المذابح، شمّر آباؤنا وأجدادنا عن سواعدهم، وبدأوا مع الآباء الكهنة ببناء أول كنيسة صغيرة من اللبن، والتي سرعان ما أصبحت بيتًا يجمع أبناء الكنيسة السريانية من مختلف المناطق، ليكونوا عائلة واحدة وروحًا واحدة مع إخوتهم المسيحيين من سائر الكنائس. القامشلي بالنسبة لنا هي لؤلؤة وجوهرة مدن سورية، ونعتز بكنيستها وبجميع مكونات المدينة من مختلف الطوائف والمذاهب، ونفتخر بما تمثله من تنوّع ووحدة وتعايش.
صاحب السيادة، تحتفلون اليوم باليوبيل المئوي في ظل ظروف دقيقة تمر بها المنطقة. كيف تقيمون الدور الذي تؤديه الكنيسة حاليًا في ترسيخ الإيمان وتعزيز المحبة، وفي الوقت نفسه دعم أبناء الكنيسة روحيًا واجتماعيًا خلال هذه المرحلة الحساسة؟
منذ أن أسس السيد المسيح الكنيسة على صخرة الإيمان، مرّت الكنيسة باضطهادات وحروب ومجازر كثيرة على مدى ألقي عام. ورغم كل ذلك، بقيت الكنيسة ثابتة، تؤدي رسالتها وتقدّم الرجاء لأبنائها. حتى في هذا الوقت الصعب الذي نعيشه اليوم، وبعد أكثر من 100 عام على وجودنا في هذه المنطقة، نحن نعيش ما أصفه بـ"ثورة خلاقة" من أجل أن نُقدّم لأبنائنا صورة حقيقية عن الكنيسة القريبة منهم، الحاضنة لهم، والمشاركة لهم أفراحهم وأحزانهم.
نحن أبناء السيد المسيح، أبناء الحياة، وندعو دائمًا إلى بناء جسور الخير والمحبة والسلام مع كل من يمد لنا يد المحبة. نحن دعاة سلام، والسيد المسيح أوصانا قائلاً: "سلامي أعطيكم، سلامي أترك لكم، لا كما يعطي العالم أعطيكم أنا. أحبوا بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم". هذه هي رسالة الكنيسة أمس واليوم وإلى الأبد. لم ولن نتعب من حمل هذه المحبة، ونرجو أن تصل إلى كل إخوتنا وأصدقائنا وجيراننا في القامشلي، لتبقى المدينة مكانًا للتعايش والمحبة والسلام.
صاحب السيادة، من أبرز المحطات التي ارتبطت بتاريخ الكنيسة في القامشلي معجزة نضوح الزيت عام 1936. كيف ينظر المؤمنون اليوم إلى هذه العلامات، وما الرسالة التي تودون إيصالها عن دورها في تجديد الإيمان وتعميقه عبر الأجيال؟
رسالة نضوح الزيت التي حدثت عام 1936 في كنيسة مار يعقوب النصيبيني كانت رسالة محبة وعزاء من السيد المسيح لأبناء الجزيرة عامة، ولأبناء مدينة القامشلي خاصة. لقد شعرنا أن المسيح يقول لنا من خلال هذه العلامة: "ثقوا، أنا قد غلبت العالم".
هذا الزيت العجائبي كان بمثابة تعزية كبيرة للكنيسة وأبنائها، وأعطانا قوة لنستمرّ في شهادتنا المسيحية، ونحمل رسالة الإيمان بالشكل الصحيح. هذه المعجزة لا تزال حاضرة في وجدان المؤمنين حتى اليوم، وتذكّر الأجيال الجديدة بأنّ الكنيسة ليست مجرّد بناء حجري، بل هي مكان حيّ لحضور الله وعمله بيننا.
صاحب السيادة، بعد مئة عام من العطاء والبركات، كيف تتطلعون إلى المستقبل؟ وماذا تقولون للشبيبة الذين هم أمل الكنيسة ورجاؤها، والضامن لاستمرار رسالتها، خاصة في هذا اليوبيل المئوي المبارك؟
نحن كنيسة سريانية متجذّرة في هذه الأرض منذ آلاف السنين، ولهذا أقول بكل إيمان: "لا خوف على الكنيسة ولا على أبنائها. أبناؤنا هم الدم الجديد الذي سيجدّد هذه الكنيسة بعدنا، مهما اشتدت علينا الصعاب. نتذكّر دائمًا كلمات السيد المسيح: "ها أنا معكم إلى انقضاء الدهر".
أنا أصلي من كل قلبي من أجل شبيبتنا، وأشعر بأمل كبير وفرح عظيم عندما أراهم يعملون ويستعدون لاحتفالات المئوية بمحبّة كبيرة ونكران ذات، كخلية نحل، تحت شراف الأب آحو إبراهيم، راعي هذه الكنيسة. لذلك أقول بثقة: لا خوف على الكنيسة، فالشبيبة هي روحها، والعامل الحقيقي لمستقبلها واستمرارها.
وفي الختام، أشكركم على مبادرتكم وجهودكم الطيبة المباركة في مواكبة احتفالات المئوية تحت شعار "مئة عام ممجّدة بالإيمان"، راجيًا أن تحلّ بركات هذه الذكرى على الجميع بالخير والمحبة، وأن تبقى الكنيسة دائمًا علامة قرب ومحبّة من أجل الإنسان.