موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
عِيدُ الظُّهُورِ الإِلٰهِيِّ (الإِبِيفَانِيَّا)، الَّذِي احْتَفَلْنَا بِهِ مُؤَخَّرًا، يَكْشِفُ لَنَا حَقِيقَةً جَوْهَرِيَّةً تَتَعَلَّقُ بِإِيمَانِنَا. يُخْبِرُنَا بِأَنَّ اللَّـهَ يُظْهِرُ ذَاتَهُ، وَلَا يَبْقَى مُخْتَبِئًا: سِرُّ مُحَبَّتِهِ الَّذِي ظَلَّ مُخْفِيًّا عَبْرَ الْعُصُورِ قَدْ أُعْلِنَ الْآنَ، وَقَدْ أُعْلِنَ بِصُورَةٍ كَامِلَةٍ. يَسُوعُ، الْكَلِمَةُ الَّتِي أَخَذَ جَسَدَنَا، يَكْشِفُ لَنَا هَذَا السِّرَّ، وَيُظْهِرُ لَنَا وَجْهَ الْآبِ.
تَارِيخُ الْخَلاَصِ كُلَّهُ مَلِيءٌ بِتَجَلِّيَاتٍ إِلٰهِيَّةٍ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ. الْآنَ، كُلُّ شَيْءٍ يَتَمَحْوَرُ حَوْلَ يَسُوعَ: بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ، نَرَى – بِقَدَرِ مَا نَسْتَطِيعُ – وَجْهَ الْآبِ، أَيْ جَوْهَرَهُ نَفْسَهُ، وَطَرِيقَتَهُ فِي الوُجُود.
رَأَيْنَا فِي عِيدِ الظُّهُورِ الإِلٰهِيِّ أَنْ طَرِيقَةَ اللَّـهِ فِي الْكَشْفِ عَنْ ذَاتِهِ تَحْمِلُ أُسْلُوبًا عَكْسِيًّا. عَادَةً، مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَكْشِفَ عَنْ نَفْسِهِ يُظْهِرُ لِلآخَرِينَ. أَمَّا اللَّـهُ، لِكَيْ يُظْهِرَ ذَاتَهُ، يَخْتَبِئُ. لَا يَخْتَبِئُ بِهَدَفِ الْبَحْثِ عَنْهُ، بَلْ لِأَنَّ الْمُحَبَّةَ بِطَبِيعَتِهَا كَذَٰلِكَ: هِيَ شَيْءٌ يَحْدُثُ فِي الْخَفَاءِ، يُمْنَحُ بِلَا ضَجِيجٍ.
عِيدُ عِمَادِ الرَّبِّ الَّذِي نَحْتَفِلُ بِهِ الْيَوْمَ، يُؤَكِّدُ لَنَا هَذَا. يَنْزِلُ يَسُوعُ إِلَى نَهْرِ الْأُرْدُنِّ، حَيْثُ كَانَ يُوحنّا يُعَمِّدُ، وَيَخْتَبِئُ بَيْنَ الْجَمِيعِ، مِثْلَهُمْ تَمَامًا، لِيَقْبَلَ الْمَعْمُودِيَّةَ: "وَلَمَّا ٱعْتَمَدَ الشَّعْبُ كُلُّهُ وَٱعْتَمَدَ يَسُوعُ أَيْضًا وَكَانَ يُصَلِّي، اِنْفَتَحَتِ السَّمَاءُ" (لُوقَا ٣: ٢١).
مِنْ رِوَايَةِ لُوقَا الإِنْجِيلِيِّ، يَظْهَرُ أَنْ لَا أَحَدٍ لَاحَظَ مَا يَحْدُثُ، وَلَمْ يَتَفَاعَلْ أَحَدٌ مَعَ الْحَدَثِ، حَتَّى يُوحنّا الْمَعْمَدَانِ نَفْسُهُ. مَا جَرَى، فِي الْحَقِيقَةِ، يَنسَجِم مَعَ مَا سَمِعْنَاهُ فِي مُقَدِّمَةِ إِنْجِيلِ يُوحنّا: "جَاءَ إِلَى بَيْتِهِ، فَمَا قَبِلَهُ أَهْلُ بَيْتِهِ" (يُوحنّا 1: 11).
وَاحِدٌ فَقَطْ يَرَى مَا يَحْدُثُ، وَهُوَ الْآبُ: وَحْدَهُ يَعْلَمُ أَنْ الْابْنَ، بِخُضُوعِهِ لِفِعْلِ التَّوَبَةِ هَذَا، تَبَنَّى إِنسَانِيَّتَنَا الْجَرِيحَةَ بِالْكَامِلِ. عَلِمَ الْآبُ هَذَا وَقَالَ: "وَنَزَلَ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْهِ فِي صُورَةِ جِسْمٍ كَأَنَّهُ حَمَامَةٌ، وَأَتَى صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ يَقُولُ: «أَنتَ ٱبْنِيَ الْحَبِيبُ عَنْكَ رَضِيتُ»" (لُوقَا 3: 22).
ابْتَهَجَ الْآبُ لِأَنَّ الإِنسَانَ الَّذِي ضَلَّ مُنْذُ بِدَايَةِ الزَّمَانِ، وَالَّذِي كَانَ يَبْحَثُ عَنْهُ بِلاَ انْقِطَاعٍ، قَدْ وُجِدَ أَخِيرًا. لَقَدْ وَجَدَهُ الْآبُ هُنَا، غَارِقًا فِي مِيَاهِ الْأُرْدُنِّ.
تَتَعَدَّدُ الْمَعَانِي الْمُرْتَبِطَةُ بِالْمَكَانِ وَاللَّحْظَةِ. عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، يُقَدَّمُ يَسُوعُ هُنَا أَيْضًا بِوَصْفِهِ مُوسَى الْجَدِيدُ، الَّذِي يَبْدَأُ مِنَ الْأُرْدُنِّ مَسِيرَةَ تَحْرِيرٍ جَدِيدَةٍ. وَلَكِنَّ الْيَوْمَ نُرَكِّزُ عَلَى جَانِبٍ آخَرَ مُرْتَبِطٍ بِالْمَكَانِ نَفْسِهِ.
نَهْرُ الْأُرْدُنِّ هُوَ أَفْقَرُ الْأَنْهَارِ. إِنَّهُ يَجْرِي تَحْتَ مُسْتَوَى سَطْحِ الْبَحْرِ، وَيَصُبُّ فِي الْبَحْرِ الْمَيْتِ، فِي مَكَانٍ يَعْلَمُ الْجَمِيعُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ فِيهِ حَيَاةٌ.
فِي الْفَصْلِ التَّالِي لِلْفَصْلِ الثَّالِثِ الَّذِي نَقْرَأُهُ، يَذْكُرُ يَسُوعُ نَعْمَانَ السُّورِيَّ (لُوقَا 4: ٢٧). نَعْمَانُ كَانَ مَسْؤُولًا آَرَامِيًّا مَرِيضًا بِالْبَرَصِ: جَاءَ إِلَى إِسْرَائِيلَ طَالِبًا الشِّفَاءَ، وَأَرْسَلَهُ النَّبِيُّ أَلِيشَعُ لِيَغْتَسِلَ سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي نَهْرِ الْأُرْدُنِّ (٢ مُلُوكٍ 5: ١-١٩). أَمَامَ هَذَا الطَّلَبِ، أُصِيبَ نَعْمَانُ بِالْدَّهْشَةِ، إِذْ رَأى أَنَّ حَتَّى أَبْسَطَ أَنْهَارِ دِمَشْقَ تَفُوقُ فِي قِيمَتِهَا جَمِيعَ مِيَاهِ إِسْرَائِيلَ، بِمَا فِي ذَٰلِكَ نَهْرِ الْأُرْدُنِّ وَرَوافِدِهِ الْمُتَوَاضِعَةِ.
عَلَى الْعَكْسِ، فِي هَذَا النَّهْرِ، لَمْ يَخْجَلْ يَسُوعُ مِنْ أَنْ يُغْمِرَ نَفْسَهُ: لَقَدْ نَزَلَ إِلَى أَعْمَاقِ إِنسَانِيَّتِنَا الْهَشَّةِ وَالْفَقِيرَةِ، وَحَمَلَ إِلَيْهَا جَمَالَ حَيَاتِهِ الْبَنَوِيَّةِ، إِلَى الحَدِّ الَّذِي أَصْبَحَ فِيهِ هَاتَانِ الْحَقِيقَتَانِ غَيْرَ قَابِلَتَيْنِ لِلْفَصْلِ. إِنسَانِيَّتُنَا أَصْبَحَتْ مَوْطِنًا لِحَيَاةِ الله.
يَجِبُ أَلَا نَنْسَى هَذَا الْمَعْنَى: عِندَمَا يُغْمِرُ يَسُوعُ نَفْسَهُ فِي إِنسَانِيَّتِنَا، فَإِنَّهُ يُحَوِّلُهَا، يُتِمُّهَا، وَيُوَجِّهُهَا نَحْوَ غَايَتِهَا النِّهَائِيَّةِ. وَالْمَزْمُورُ ١١٤، يُعَبِّرُ جَيِّدًا عَنْ هَذَا التَّغْيِيرِ فِي اَلْمَسَارِ، عَنْ هَذَا التَّحَوُّلِ: يُعِيدُنَا هَذَا الْمَزْمُورُ إِلَى الْخُرُوجِ، إِلَى التَّحْرِيرِ مِنْ مِصْرَ، وَيُصَوِّرُ ذَٰلِكَ بِمَشَاهِدَ رَمْزِيَّةٍ وَشِعْرِيَّةٍ. إِحْدَى هَذِهِ الصُّوَرِ تَتَعَلَّقُ بِنَهْرِ الْأُرْدُنِّ نَفْسِهِ، الَّذِي يَتَرَاجَعُ وَيَتَغَيَّرُ مَسَارُهُ عِندَمَا يَمُرُّ الرَّبُّ: "مَا لَكَ يَا بَحْرُ تَحْرُبُ وَيَا أُرْدُنُّ إِلَى الوَرَاءِ تَرْجِعُ" (مَزْمُورٌ ١١٤: ٥).
وَهَكَذَا الْحَالُ: عِندَمَا يُغْمِرُ الرَّبُّ نَفْسَهُ فِي نَهْرِ الْأُرْدُنِّ، يَتَغَيَّرُ مَسَارُ الْأُرْدُنِّ؛ لَمْ يَعُدْ يَجْرِي نَحْوَ الْمَوْتِ، بَلْ عَادَ نَحْوَ مَصْدَرِهِ، نَحْوَ ذَٰلِكَ الَّذِي يُمْنِحُهُ الْحَيَاةَ.
الْأَمْرُ نَفْسُهُ يَنْطَبِقُ عَلَيْنَا: عِندَمَا يُغْمِرُ الرَّبُّ نَفْسَهُ فِي حَيَاتِنَا، لَنْ نَكُونَ بَعْدَ الْآنَ فِي مَسِيرَةٍ نَحْوَ الْمَوْتِ، وَلَنْ تَكُونَ قِصَّتُنَا مَحْكُومَةً بِالْعَدَمِ. بَلْ عَلَى العَكْسِ، نَسِيرُ نَحْوَ أَصْلِنَا، وَنُصْبِحُ تَدْرِيجِيًّا أَكْثَرَ حَيَاةً، بِحَيَاةِ اللَّـهِ نَفْسِهِ. يُطْلَبُ مِنَّا كُلُّ يَوْمٍ بِبَسَاطَةٍ أَنْ نَسِيرَ مَعَ هَذَا اَلتَّحَرُّكِ، أَنْ نُشَارِكُ فِي هَذِهِ اَلمَسِيرَةِ، وَأَنْ نَعُودَ إِلَى الْمَصْدَرِ الَّذِي يَجْعَلُنَا أَحْيَاءَ.