موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
سامي اليوسف، الوكيل العام للبطريركيّة اللاتينيّة
في الأشهر الأخيرة، شعرنا جميعًا بنسمة من الأمل بعد التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار مع لبنان، تلاه اتفاق مماثل في غزة. ساد الهدوء، وتوقفت أصوات البنادق، وتم إطلاق سراح عدد من الأسرى الإسرائيليين، كما دخلت المساعدات الإنسانية بكميات كبيرة إلى غزة، مما جلب بعض الراحة المؤقتة التي اعتُبرت بداية نهاية هذه الحرب الطويلة والدامية والمدمرة.
لكن، للأسف، لم يتم الانتقال إلى المرحلة الثانية من الاتفاق، وعادت إسرائيل لتشن هجومًا عسكريًا غير مسبوق على غزة، هو الأعنف منذ بداية الحرب. تجاوز عدد الشهداء في غزة منذ اندلاع الحرب 50,000 شخص، من بينهم عشرات الآلاف من النساء والأطفال. وفي 2 آذار، أُعيد فرض حصار خانق شمل الماء والدواء والطعام والكهرباء، مما خلق واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية من صنع الإنسان في التاريخ الحديث. ثم استؤنفت الحرب من جديد في 18 آذار.
غزة أصبحت غير صالحة للعيش، لم يعد بإمكان سكانها البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة احتمال هذا الدمار الهائل، وسط مؤشرات واضحة على وجود خطط ممنهجة لإفراغ القطاع من سكانه الأصليين. لا أحد يعرف كيف ستتطور الأمور، لكن الصمت العالمي تجاه ما يحدث يصمّ الآذان!
أما المجتمع المسيحي الصغير، فقد فقد منذ بداية الحرب نحو 50 شخصًا من أبنائه؛ 20 منهم استشهدوا نتيجة الأعمال العدائية المباشرة، و30 آخرون فقدوا حياتهم بسبب غياب الرعاية الطبية ونفاد الأدوية وانهيار المستشفيات. ما تبقى هو حوالي 650 روحًا شجاعة، نبذل المستحيل من أجل تلبية احتياجاتهم ضمن إمكانياتنا المحدودة، حيث لا يزال نحو 450 منهم لاجئين في مجمع العائلة المقدسة في مدينة غزة.
أما الضفة الغربية، فهي تشهد ظروفًا غير مسبوقة من الحصار والتضييق، إلى جانب تصاعد عنف المستوطنين ضد السكان المحليين. كما تم محو مخيمات لاجئين بالكامل مثل جنين وطولكرم، مع وجود نوايا واضحة لتوسيع هذا النهج ليشمل باقي المخيمات، مما خلق موجة جديدة من اللاجئين للمرة الثانية أو الثالثة، قُدّرت أعدادهم بحوالي 40,000 شخص.
الحياة في الضفة الغربية بعيدة كل البعد عن الحياة الطبيعية، إذ تنتشر فيها أكثر من 900 حاجز ونقطة تفتيش، بالإضافة إلى ما يقرب من 300 حاجز دائم يعزل القرى عن بعضها البعض، محولًا إياها إلى سجون مفتوحة. أما التنقل بين المدن الفلسطينية، فقد أصبح كابوسًا؛ إذ يمكن أن يتطلب ساعات طويلة قد تصل إلى سبع ساعات أحيانًا لقطع مسافة بسيطة. أما معدلات البطالة، فهي بلغت مستويات غير مسبوقة، وصلت إلى 70٪ في بعض المناطق والقطاعات. والحصول على تصاريح للعمل داخل إسرائيل أصبح شبه مستحيل، حيث يتم استبدال العمال الفلسطينيين بعمال أجانب بتكلفة مضاعفة وكفاءة أقل، ولكن من يهتم؟!
الحياة في غزة والضفة أصبحت لا تطاق بمعايير إنسانية، وأعتقد أنني لا أفشي سرًا بقولي هذا، خاصة في ظل وسائل التواصل الاجتماعي وانتشار الأخبار السريع.
أما في إسرائيل، فهناك العديد من المجموعات داخل المجتمع الإسرائيلي التي تخرج يوميًا في مظاهرات بالآلاف، إن لم يكن بعشرات الآلاف، لأسباب مختلفة: فبعضهم يطالب بوقف الحرب وإطلاق سراح الرهائن، وآخرون يحتجون على التعديلات القضائية أو على نية الحكومة إقالة رئيس جهاز الشاباك أو النائب العام، في حين يعترض المتدينون المتشددون على محاولات إلزامهم بالخدمة العسكرية. لا يكاد يمر يوم في المدن الرئيسية، بما فيها القدس، دون مظاهرات. ولكن، هل تُصغي هذه الحكومة اليمينية المتطرفة لشعبها؟
ومؤخرًا، أقرّت الحكومة ميزانية عام 2025، محمّلة أعباء الحرب الباهظة على كاهل المواطن البسيط، من خلال زيادات كبيرة في الأسعار والضرائب، ليتحمّل المواطن كل الأعباء!
ربما التطور الأكثر حزنًا منذ 7 تشرين الأول 2023 هو ازدياد حدة الانقسام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وفقدان كامل للثقة. لم يعد أي طرف يرى شريكًا للسلام في الطرف الآخر، ولا أحد يرى الجانب الإنساني لدى الطرف المقابل.
نحن اليوم في زمن تتقاطع فيه أعياد الديانات التوحيدية الثلاث: إخوتنا المسلمون أنهوا شهر رمضان المبارك، والمسيحيون يعيشون زمن الصوم الكبير استعدادًا لعيد الفصح، وإخوتنا اليهود يستعدون للاحتفال بعيد الفصح اليهودي خلال أسابيع قليلة. إنه وقت صوم وصلاة وتأمل، وقت يُفترض أن نعيش فيه تعاليم أدياننا. فلو كنا نعيش حقًا ما تعلمنا، لما كان هناك حرب، ولكانت العدالة والسلام قد سادا الأرض. لكن، للأسف، نحن بعيدون جدًا عن هذا الواقع!
ورغم كل هذا الواقع القاتم، لا ولن نيأس. أنا فخور جدًا بعملي في البطريركية اللاتينية، حيث نرفض الاستسلام، ونواصل تصميم وتنفيذ البرامج الإنسانية والرعوية لدعم مجتمعاتنا المحلية، خاصة من خلال شبكتنا الواسعة من المدارس.
برامجنا الإنسانية شملت دعم الرسوم المدرسية، الحالات الطبية الطارئة، توفير الأدوية، القسائم الغذائية والمساعدات المالية، وتسديد الفواتير والإيجارات، وقد وصلت إلى آلاف الأسر في الضفة الغربية. كما أن مشاريع خلق فرص العمل وتوليد الدخل وصلت إلى مئات الأسر. صحيح أننا لا نستطيع الوصول إلى الجميع، لكن بالنسبة لمن تمكّنا من مساعدتهم، كانت هذه المساعدة بمثابة شريان حياة. وسنستمر طالما هناك من يحتاج.
وفي هذا السياق، سعدنا باستضافة وفد موسّع من لجنة الأراضي المقدسة في وسام القبر المقدس، ورافقناهم في جولات إلى رعايانا ومدارسنا ومراكزنا لمتابعة أثر ما نقوم به من عمل، وقد تلقينا منهم تغذية راجعة إيجابية للغاية.
إن الحفاظ على الإيمان والرجاء أصبح ضرورة في ظل هذه الظروف اليائسة. ونحن نعمل كل ما في وسعنا لنكون نورًا وسط الظلام في مجتمعاتنا، وهذا لا يمكن أن يتحقق لولا الدعم الرائع الذي نتلقاه من جميع أنحاء العالم. البعض لا يستطيع أن يقدم إلا الصلاة، وهي أعظم ما يمكن أن يقدّمه، وآخرون يقدّمون الدعم المعنوي والتضامن، والبعض الآخر يساهم ماليًا. بفضلكم، لم نشعر يومًا بأننا وحدنا، أو منسيّون.
رمضان مبارك لإخوتنا المسلمين، وعيد فصح مجيد لإخوتنا المسيحيين واليهود.
دعونا نستمر في الإيمان، ونحمل شعلة الأمل، ونصلي من أجل السلام.