موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ٢٧ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٠
تأملات بطريرك القدس للاتين بييرباتيستا بيتسابالا: عيد العائلة المقدّسة، السنة ب
عيد العائلة المقدّسة

عيد العائلة المقدّسة

البطريرك بييرباتيستا بيتسابالا :

 

لوقا ٢، ٢٢٤٠

 

يروي المقطع الإنجيلي حدثاً بسيطاً وعاديّاً جدّاً في حياة كلّ عائلة يهوديّة. فكلّ طفل، بمجرّد مرور اربعين يوما على ولادته، كان يُحضَر إلى الهيكل ويُقدّم للربّ عملاً بأحكام الشريعة الموسويّة. وكفدية عنه كان يتمّ التضحية بزوج من الحمام.

 

ولكن في حالة يسوع، يأخذ الحدث البسيط أهمية كبرى، وينفتح على حياة يسوع كلها، ويُصبح لحظة كشف لأمور هامة.

 

ومن أجل تحقيق هذا الكشف، نلتقي إثنين من الأتقياء، رجلا وامرأة، من كبار السن، طوّرا، على مرّ السنين ألفة كبيرة مع الربّ. يقول لوقا ثلاث مرات (لوقا ٢، ٢٥ و ٢٦ و٢٧) أنّ سمعان كان مُلهماً ومسوقاً من قِبلْ الروح القدس، في حين أنّ حنّة النبيّة كانت “لا تُفارق الهيكل، مُتعبّدة بالصوم والصلاة ليل نهار” (لوقا ٢، ٣٧).

 

إنّ هذه الألفة مع الربّ، وانتظارهما له كالمرجع الوحيد للحياة، جعلاهما قادرَيْن على التعرّف على الرب عندما يأتي: وبينما يراه الجميع طفلاً كباقي الأطفال، ها هما يريانه بعيون جديدة مندهشة. وكما نزل الروح القدس على مريم لوضع يسوع في أحشائها (لوقا ١، ٣٥)، هكذا يجعل الروح القدس هذين المُسنّين قادرين على تقبّل يسوع والاعتراف به.

 

يتقبّلانه ويعترفان به، ويتحدّث كل منهما عنه، قائليْن أشياء مُدهشة وجديدة، كاشفين جوانب لا يمكن تصوّرها، هي وصف دقيق لحياة يسوع.

 

ماذا يقولان؟

 

إنّ الشيء المفاجئ الأوّل الّذي يقوله سمعان هو أنّ هذا الطفل سيكون الخلاص الّذي ينتظره شعب العهد القديم، ولكنه لن يكون له وحده. إنّ ما يراه سمعان بعينيه، بعد انتظار طويل، وبعد أن جعل منه المعنى لكلّ حياته، هو خلاص معدّ لجميع الشعوب، والنور الّذي يكشف ذاته لجميع الأمم (لوقا ٢، ٣١–٣٢): لقد انتظر سمعان خلاص إسرائيل، والآن يرى خلاص الإنسانية كلها. لن يكون هذا الإله لشخص واحد فقط، ولن يكون مخلصا لشعب ما ومعاقبا لشعب آخر.

 

لن يكون إلهاً لمن يستحقّه فقط، أو لمن ينتظره بالفعل.

 

كلاّ: إنّ هذا الإله هو حقّاً إله للجميع، وليس أحد مستثنى ومستبعدا، وبالتالي فإنّه بالنسبة للجميع كلمة تعزية، وكلمة حياة، وكلمة خلاص، وكلمة سلام. إنّه إله صار إنساناً. وبصفته الإنسانية، هو يُشارك ويُنير حياة كلّ إنسان.

 

إنّ هذا “الانفتاح” الشامل، الذي يتم هنا في لحظة، يشكل رؤية بعيدة، ويرسم المسيرة الطويلة ليسوع وللإنجيل وللكنيسة كلّها، حتى الوقت الحاضر.

 

في البداية سيكون يسوع على بيّنة بأنّه لم يُرسل سوى إلى الخراف الضالّة من بيت إسرائيل (راجع مرقس ٧، ٢٥ وتابع) وسوف يطلب من رسله أن يفعلوا ذات الشيء (متّى ١٠، ٦). ولكن بعد ذلك، وبشكل تدريجي، سوف يعبر خلاصه كلّ الحدود، وبعد قيامته سوف يُرسل تلاميذه إلى جميع الشعوب (متّى ٢٨، ١٩–٢٠)؛ وفي نهاية سفر أعمال الرسل، كانت كلمات بولس ليهود روما بمثابة صدى لكلمات سمعان تلك: “اعلموا إذاً أنّ خلاص الله هذا أُرسل إلى الأمم “الوثنية“ (أعمال ٢٨، ٢٨).

 

ولكن سمعان يقول شيئاً ثانيا شديد الأهمّية، وهو أنّ رسالة هذا المسيح المنتظر ستكون رسالة صعبة ومعرّضة للرفض، وهذا داخل شعبه ذاته.

 

يقول ذلك مستخدماً ثلاث كلمات ثقيلة جدّاً: إنّه هنا  للسقوط وللقيام، وآية مُعرّضة للرفض (لوقا ٢، ٣٤). إنّ مروره بين الناس لن يكون نزهة خالية من الألم، ولن يترك أيّ شخص غير مبال. وحيث يصل هذا النور سوف يُعرّي القلوب، ويكشف فيها عن المنطق الدنيوي البعيد عن الربّ، وسوف يُثير التمزّق والارتداد، الموت والحياة الجديدة.

 

وهكذا، إن توقعات إسرائيل، التي تمّت في المسيح، الّذي استطاع سمعان وحنّة ضمّه بين ذراعيهما، تنفتح على طريق جديد، وعلى انتظار جديد. سيكون السؤال التالي: كيف وإلى أي مدى سوف تتحقق نبوءة سمعان هذه في حياة يسوع.

 

سوف يسترشد الإنجيل بهذه الديناميّة المتناقضة، ابتداءً من بداية حياته العلنيّة. ففي كلماته الأولى لبني شعبه عن الخلاص، “ثار ثائر جميع الّذين في المجمع عند سماعهم هذا الكلام. فقاموا ودفعوه إلى خارج المدينة وساقوه إلى حرف الجبل الّذي كانت مدينتهم مبنيّة عليه ليلقوه عنه” (لوقا ٤، ٢٨–٢٩).

 

وأخيرا، فإنّ سمعان لا يتكلم عن يسوع فقط، ولا يكشف عن المسار الذي ينتظره فقط: فهو يكشف شيئاً ما عن الأمّ أيضاً. يكشف لها كيف ستكون أمّاً لهذا المسيح الفريد.

 

يكشف سمعان هذا السر لمريم بعبارة بسيطة جدّاً: ” وإنت أيضا” (لوقا ٢، ٣٥): لن يكون لمريم أيّ امتيازات، ولن تكون معفاة من عناء الإيمان، ومن عدم الفهم. ولن تكون معفاة من الألم. وهذا ما سيجعلها أمّاً ليس فقط لابنها، بل أيضاً لكلّ إنسان سوف يُشاركها الطريق الشاقّة والحلوة الخاصّة بالإيمان بيسوع وبالخلاص وبالنور لجميع الشعوب.