موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
أقام بطريرك أنطاكية للروم الأرثوذكس يوحنا العاشر قداس رأس السنة في الكاتدرائية المريمية في دمشق.
وألقى عظة قال فيها: "من أنطاكية النور التي مسحنت الدنيا إذ سمت التلاميذ مسيحيين؛ من أنطاكية المضرّجة بمجد سيدها والتي وشحت العالم بحقيقة التجسد وزنرت الكون باسم المسيح؛ من مريمية الشام التي على أعتاب أسوارها سمع بولس ذاك الصوت: شاول شاول لماذا تضطهدني؟ فاستوطن صاحبُ الصوت قلبه واكتسح به أسوار الأمم؛ من بياض ثلج لبنان الذي تغنى كاتب المزمور بخلود أرزه ومن حرمون الذي من ماء ثلجه تعمد المسيح في الأردن، من الشارع المستقيم، من تلك الزوايا التي، ومنذ نعومة حجارتها، لا تزال تحفظ صوت بولس وخلجات قلب حنانيا؛ من خبايا هذا التاريخ المدفون والساطع بآنٍ معاً من قلب هذا الشرق الذي فيه ولد المسيح مشرق مشارقنا، نطل على الدنيا في مطلع الربع الثاني من القرن الواحد والعشرين على تجسد ذاك الطفل الذي رنمت الملائكة في ميلاده على أعتاب ذات مغارة: المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة".
أضاف: "نطلّ اليوم لنناجي ذاك المولود. نطل لنناجي تلك العذراء التي اختارت الصمت أمام محبة الخالق. نطل لنسرد له حكاية ألفي عام من وجودنا في هذه الأرض، في هذا الشرق. نطل لنضع أمام الدنيا من جديد حكاية من تسموا باسم المسيح في الأرض التي ولد فيها. نطل من ههنا من المريمية لنقول كمسيحيين؛ نحن حنطة المسيح في هذا الشرق. نحن من هذه الأرض التي تعجن من قمحها خبز الشكر للبارئ. نحن من هذه الأرض التي تعصر كرومها له شكرًا وتمجيدًا. نحن من تلك المغارة التي شهدت مولده ومن ذاك القبر الذي ضمه ميتًا وقائمًا. نحن من ذاك الزيتون الذي صلى وإياه في جبل زيتون. نحن من هدير الأردن الذي اغتسل بملامسته معتمدًا. نحن من ثلج حرمون ومن أرز لبنان. نحن من دمشقِ بولس وحنانيا ومن بيروت كوارتس. نحن من صور وصيدا ومن شباك صيادي الناس. نحن من كروم زحلة ومن أصالة البقاع ومن بعلبك مدينة الشمس التي قدَّ الخلود من صخر قلعتها. نحن من طرابلس التي تقبّل جبين حمص ومن عكار التي تضم سوريا ولبنان إلى قلب واحد. نحن من شموخ جبل لبنان الذي يصافح أصالة حلب ومن اللاذقية التي تجالسُ أنطاكية مدينة الرسولين. نحن من زيتون إدلب الذي يبلسم قلب الجزيرة السورية. نحن من شهامة درعا التي تحتضن بين ذراعيها القنيطرة والجولان السوري وتغسل وجهها في طبريا. نحن من حمص وحماه التي تعانق حوران وسويداء الجبل الأشم. نحن من بغداد التي تلثم وجه مرسين وأضنة وتقرأ في صفحات تاريخ ديار بكر وأرضروم. نحن من جغرافية هذا الشرق إلى كل العالم. نحن من هذا الشرق الذي قدّت المسيحية في نفوس أبنائه كما قدّت الكنائس من رحم صخره".
وتابع: "حقبٌ وحقبٌ مرت. ممالك وإمبراطوريات توالت. وأصل بقائنا ههنا إيمانٌ سمعناه من فم الرسل. إنجيلٌ رضعناه مع حليب الأم. قربانٌ عجنّاه بشظف ومر الزمن كما بحلاوته. أصالةٌ لم نستجدِها من أحد. صليبٌ به افتخرنا ونفتخر وضعناه في قلوبنا قبل كل شيء ومن تأمله تلمسنا ونتلمس دوماً فجر قيامة. نحن من وميض تلك المحبة التي قدست أرضنا منذ ألفي عام وسميناها مشرقَ المشارق كما تقول ترتيلة الميلاد. نحن ههنا في سوريا التي تمر اليوم بمرحلةٍ جديدة نتطلع فيها سوياً مع أخينا المسلم أن تكون مرحلة مكللةً بفجر حرية وعدالةٍ ومساواة. نحن ههنا على أعتاب مرحلةٍ نرجوها فجراً والفجر لا يعرف الظلمة بل يكتسحها بوهج نوره. ووهج النور لدينا نستمده من أخوةٍ حق عشناها مع الأخ المسلم في كل المراحل رغم الصواعد والنوازل. قلتها في طرطوس سنة 2013 وأعدتها قبل أيام وأعيدها اليوم. إخوتي المسلمين بين النحن والأنتم تذوب الواو وتسقط. هذه الواو يسقطها مجتمع يقوم على أسس المواطنة ويحترمُ كل الأديان ويراعي كل الأطياف في دستورٍ عصري يشارك في إعداده الجميع ونحن منهم؛ دستورٍ يراعي منطق الدور والرسالة لا منطق الأقلية والأكثرية العددية؛ دستورٍ يغرف من انفتاح إسلام بلاد الشام ويستسقي من عراقة مسيحيتها في احترام متبادل لعيش واحد عشناه ونعيشه دوماً؛ دستورٍ يحقق المساواة بين جميع السوريين على كافة الأصعدة الاجتماعية منها والسياسية".
وقال: "نحن من كنيسة البطريرك الياس الرابع معوض بطريرك العرب الذي وقبل نصف قرن وفي شباط 1974 بالتحديد نطق بلسان كل عربي في قمة لاهور-باكستان الإسلامية، فدوى صوته في أصقاع الأرض وكان لسان حال الجميع مسلمين ومسيحيين في تلك القمة التي خصصت للقدس. وتكرس هذا اللقب لبطريرك أنطاكية بمشاركة البطريرك إغناطيوس الرابع هزيم في القمة الإسلامية في الطائف مطلع العام 1981. نمد يدنا كما مددناها دوماً وفي كل الأوقات. أعود بكم إلى سنة 1918 ويدنا اليوم يد غريغوريوس الرابع حداد أو محمد غريغوريوس كما ناداه إخوتنا المسلمون يومها. يدنا اليوم يد ذاك البطريرك الذي كان من أوائل من رحبوا بالحكم الوطني العربي وكان من القلائل، إن لم يكن الوحيد، الذين ودعوا الملك فيصل في محطة الحجاز على مقربةٍ منا. نحن من كنيسة ذاك العلَمِ الذي لم يميز رغيفه بين مسلم ومسيحي في الحرب الكونية الأولى. سيبقى صليبنا معانقاً هلال التسامح في هذه الأرض ومعانقاً فيه كل نفسٍ سمحةٍ تلتمس مرضاة رب العالمين في هذه الأرض التي غرستنا فيها سوية يمناه المباركة".
أضاف: "صلاتنا من مريمية دمشق من أجل لبنان ومن أجل استقرار لبنان الذي قاسى مرارة الحرب ويقاسي إلى الآن تداعياتها وتداعيات ما جرى من انفجار مرفأ بيروت إلى استباحة أموال المودعين إلى المماطلة في انتخاب رئيس للجمهورية. نرحب بوقف إطلاق النار الذي جرى التوصل إليه أخيراً ونناشد الجميع بذل كل جهدٍ لتدعيمه وتثبيته. ندعو نواب الأمة إلى القيام بالواجب الدستوري وانتخاب رئيس للجمهورية في أسرع وقت. إن وضع المنطقة بشكل عام والوضع اللبناني بشكل خاص لا يحتملان المقامرة والمتاجرة بهذا الملف. نناشد الجميع التعالي على منطق المصالح الضيقة وانتهاج لغة التلاقي والحوار والتوافق للخروج معاً من كل أزماتنا. ونناشد الجميع، بما فيهم القوى الخارجية، التعالي على استغلال لبنان البلد الرسالة لإيصال الرسائل إلى الآخر. لبنان هو البلد الرسالة في العيش الواحد والتلاقي الحضاري وليس صندوق البريد الذي عبره ترسل الرسائل من وإلى. "دعوا شعبنا يعيش" قالها ابن كنيستنا ذات مرة ونعيدها ونكررها مرات ومرات "دعوا شعبنا يعيش".
وتابع: "نقول هذا، وفلسطينُ مصلوبةٌ على قارعة مصالح الأمم. نقوله ونحن نبكي أبناء غزة التي تتوق إلى سلام طفل المغارة. نقول هذا والقدس تتلوى تحت صليب شقاء فلسطين. نقول هذا واعين ومدركين أننا كمسيحيين مشرقيين على مثال سيدنا يسوع المسيح. تنكّبنا درب جلجلة. تلقفنا حراب هذا الدهر بفرح رجاءٍ ورجاؤنا الأوحد سيدٌ يقومُ ويكسر قيود الموت ويدحرج الحجر ويجعلنا شركاءَ قيامته. صلاتنا اليوم من أجل أخوينا المخطوفَين مطراني حلب يوحنا إبراهيم وبولس يازجي ومن أجل كل مضنيٍّ يقاسي وينتظر فجر قيامة".
وقال: "من مريمية دمشق، نرفع صلاتنا إلى الرب القدير أن يشمل عالمه بنور سلامه ويمسح القلوب بشيءٍ من نورانيته. وفي فجر العام الجديد نسأل طفل المغارة أن يخمد نار الحروب ويطفئها في كل أرجاء الدنيا. نسأله أن يضم إلى صدره نفوس أحبائنا الراقدين الذين قد سبقونا إلى نور محياه القدوس. نسأله التعزية لكل من في ضيق إذ هو إله التعزية ورب الرجاء. فليكن العام الجديد بارقةَ خيرٍ ورجاء وفاتحة أملٍ لكم جميعاً إخوتَنا الحاضرين وأبناءنا الأحباء في الوطن وفي بلاد الانتشار. على اسمك يا يسوع نفتتح العام الجديد ومن شهد محبتك ومن جبروت صمتك نطل على العالم من هذه الأرض التي ننغرس فيها انغراس صليبك في الجلجلة. حكينا حكاية عشقنا إياك يا مشرقَ مشارقنا في هذه الأرض مشرقِ مشارقنا. حكيناها ونحكيها وسنحكيها لأولادنا وللعالم أجمع. حكيناها من تحت هذا الصليب ومن حنية هذه الكنيسة المقدسة وفي قلبنا ينتثر عبير ذاك القول: "الله في وسطها فلن تتزعزع"، هو المبارك إلى الأبد آمين".
أضاف: "أخيراً أتوجه إلى السيد أحمد الشرع شخصيًا داعيًا له ولإدارته الجديدة بالصحة والقوة في قيادة سوريا الجديدة التي يحلم بها كل سوري. وبالمناسبة أكرر أننا مددنا يدنا للعمل معكم لبناء سوريا الجديدة ولكننا ننتظر من السيد الشرع وإدارته مد يدهم إلينا! لأنه وحتى تاريخه وبالرغم من تناقل وسائل الإعلام لانعقادٍ وشيكٍ لمؤتمر سوري شامل وغير ذلك من القضايا، لم يتم أي تواصل رسمي من قبلهم معنا. هذا، وقد عرف الإرث السوري زيارات رؤساء الجمهورية إلى هذه الدار البطريركية مريمية الشام منذ عهد الاستقلال. فنحن نرحب به في داره وفي بيته. وأذكّر هنا أنه في يوم إعلان المملكة العربية ومبايعة الملك فيصل، كانت هناك، قبل رفع العلم السوري، كلمتان فقط واحدة للسيد محمد عزة دروزة عن كافة المسلمين وأخرى للبطريرك غريغوريوس بطريرك الروم الأرثوذكس عن كافة المسيحيين واليهود. هذه هي مكانة بطريرك الروم الأرثوذكس في سوريا".
وختم البطريرك يوحنا العاشر عظته بالقول: "يسرني أن أنقل إلى أبنائنا ههنا محبة وتضامن جميع كنائسنا في أمريكا الشمالية وكندا وأمريكا الجنوبية وأستراليا والخليج العربي وفرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة وسائر أوروبا. فقد تواصلوا وما زالوا يتواصلون معنا للاطمئنان والدعم. نترقب الخير والبركة أحبتي وندعو بسنة مباركة لسوريا ولسائر العالم. كل عام وأنتم بخير".