موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
كتب دي مودروني أنه في أعقاب هذا الصراع قامت الدول المنتصرة في الحرب، لاسيما بريطانيا العظمى وفرنسا بتقسيم الأراضي العربية فيما بينهما، والتي كانت خاضعة لحكم الإمبراطورية العثمانية، من خلال منظومة الانتدابات، وشملت العراق، الأردن، فلسطين، سورية ولبنان. وهذه الكيانات لم تعكس دائمًا الواقع العرقي والديني المحلي، ما زرع بذورًا لصراعات مستقبلية. من هذا المنطلق شكل انهيار الإمبراطورية العثمانية نقطة تحوّل في المنطقة، أُعيد خلالها رسم الخارطة الجغرافية والمسار التاريخي في الشرق الأدنى، ما ولد تحدياتٍ وصراعات ما تزال قائمة لغاية اليوم.
مضى دي مودروني إلى القول إن نزيف هجرة المسيحيين من المنطقة تسارع مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عاك 1975، وفي أعقاب سقوط نظام الرئيس العراقي صدام حسين عام 2003، ثم مع بروز داعش على الساحة الجيوسياسية، كما في أعقاب نهاية نظام الرئيس السوري بشار الأسد. أما هجرة المسيحيين من الأرض المقدسة فهي تعتمد بشكل أساسي على الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
من هذا المنطلق، شدد دي مودروني على أن المسببات الرئيسة وراء هذه الظاهرة تكمن في الحروب والاضطهادات والتمييز، فضلا عن الشعور المتنامي بانعدام الاستقرار في أعقاب انهيار أنظمة كانت توفر الحماية للحضور المسيحي. وتضاف إلى أعمال العنف والاضطهاد والصراعات المسلحة أسباب اجتماعية واقتصادية، ناهيك عن طموح المسيحيين في توفير ظروف حياتية أفضل لهم ولعائلاتهم في الدول الغربية.
بعدها أكد أن هذه الظاهرة تبعث على القلق، ليس بالنسبة للمسيحيين وحسب الذين يتركون مسقط رأسهم، إنما لدى الجماعات المسلمة المحلية وذلك لأن المسيحيين، وعلى اختلاف طقوسهم وطوائفهم، طالما كانوا عنصرًا أساسيًا للحوار والاعتدال، وركيزة للتعايش الذي لم يكن دائمًا سهل المنال.
بالنسبة للوضع في لبنان، يشير كاتب المقال إلى أن تراجع عدد المسيحيين ظاهرة معقدة ومتعددة الأوجه، وهي مرتبطة بالتاريخ المعاصر وبالديناميكيات الاجتماعية والسياسية في البلاد. وأضاف أن موجات النزوح بدأت في القرن التاسع عشر وتكثفت في القرن التالي مع نهاية الانتداب الفرنسي، ثم بلغت ذروتها خلال الحرب الأهلية، التي أحدثت أيضا شرخاً عميقاً داخل المكون المسيحي. وما زاد الطين بلة اليوم الأزمات الاقتصادية المتعاقبة والفساد والتوترات الناتجة عن صعود الإسلام الراديكالي. كما أن معدلات الولادة لدى المسيحيين في لبنان منخفضة قياساً بالمسلمين، لاسيما الشيعة.
أما في العراق، فقد ترك الصراع الأخير وسقوط نظام صدام حسين أثرًا مدمرًا على السكان المسيحيين، لأن ذلك النظام، ومع أنه لم يكن ديمقراطيًا، ضمن الحماية للأقليات الدينية بما فيها المسيحية. وبعد العام 2003 شهدت البلاد موجة كبيرة من النزوح من قبل المسيحيين، نتيجة تعرضهم للتهميش والاضطهاد. ومع ظهور تنظيم داعش تدهورت الأوضاع، وقد عرف سهل نينوى الذي كان معقلاً للمسيحيين موجة من النزوح لم يسبق لها مثيل. والفراغ في السلطة سمح بصعود قوى متطرفة زعزعت الاستقرار العرقي والديني الهش، وأصبح المسيحيون عبارة عن أقلية مضطهدة.
والوضع في سورية كان مشابهًا للعراق إلى حد بعيد. فبعد نهاية نظام الأسد، الذي كان يحمي المسيحيين، وجد هؤلاء أنفسهم أمام مستقبل قاتم، وعلى الرغم من الوعود التي قطعتها الإدارة الجديدة تعرضت الجماعات المسيحية لاعتداءات وأعمال عنف. ما دفع أعداداً كبيرة من المسيحيين، الذين بقوا في بلادهم على الرغم من الحرب، على الهجرة.
في فلسطين، ثمة مسببات عدة لتراجع الحضور المسيحي، بدءًا من الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، والعنف وانعدام الاستقرار السياسي. وبالإضافة إلى ما يجري في قطاع غزة، هناك أجواء من انعدام الأمن في الضفة الغربية، ما حمل المسيحيين على الهجرة بحثًا عن مستقبل أفضل. دون أن ننسى احتلال الأراضي والقيود المفروضة على حرية التنقل، ما حرم العديد من الفلسطينيين المسيحيين من فرص العمل والدراسة. هذا فضلا عن الأزمة الاقتصادية الحادة التي يعيشها بنوع خاص المسيحيون في بيت لحم والقدس، إذ يعتمد مصدر رزقهم على السياحة والحج.
في الختام اعتبر دي مودروني أن تراجع أعداد المسيحيين في الشرق الأوسط يهدد استقرار المنطقة، خصوصًا وأن مصائر الدول مترابطة فيما بينها، كما أن غياب المسيحيين من الأرض المقدسة يمكن أن يحول الأماكن حيث عاش وبشّر السيد المسيح إلى مواقع أثرية أو سياحية، مع العلم أن تهميش المكوّن المسيحي يحرم المنطقة من مصدر للتوازن الاجتماعي والسياسي.