موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
هذا هو المعنى الحقيقي لعيد الميلاد المجيد بأنّ كلمة الله الأزلية صار جسداً وحلَّ بيننا ورأى الناسَ بوجه الكلمة المتجسد- يسوع المسيح- مجد الله وقوة الله وعظمة الله،وقد عكسَ طفل الميلاد بحياته وبتعاليه وبرسالته قلب الله وفكر الله، فأنار لنا بواسطة طريقِ الجلجثة والقيامة المجيدة درب الرجاء والإيمان والمحبة مما أعطى البشرية أملاً جديداً في حياة جديدةٍ يسودها الفرح والسلام والعدل والمصالحة.
لذلك، فليس الميلاد حدثاً عادياً أو مجرد زينة وبابا نويل وشجرة ميلاد ومباهج ومشتريات وبازارات ميلادية، وإنما الميلاد هو بداية انطلاقةٍ لخليقة جديدة بالماء والروح القدس، تسودها الرحمة والعدل والمحبة والفرح والسلام لأننا أصبحنا أولادً لله لا عبيداً ووارثين لبركات المسيح وخلاصه( غلا 4: 7). ففي ليلة الميلاد قبل ألفي عام افتقدنا الله من الأعالي بلطفه وإحسانه ( تي 3: 4) كي ننهض نحن لحياة جديدة، نفتقد فيها أحوال بعضنا البعض .. أحوال جيراننا .. أحوال الأقل حظاً بيننا.. أحوال اللاجئين واليتامى والأرامل وكبار السن. لذلك بالميلاد نتعلم كيف نساهم في بناء ملكوت الله على الأرض. وليلة الميلاد كما قال أحد المفكرين بأنها " الليلة التي انتظرها العالم القديم، ونظر إليها العالم الحديث."
بميلاد الطفل يسوع تحققت نبوءة اشعياء النبي والقائلة: " ها العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعو اسمه عمّانوئيل" ( إش 7: 14) الذي تفسيره الله معنا. فبالميلاد تجسدت محبة الله واقترب الله من حياة كل واحد منا، لذلك فحدث الميلاد مصدر إلهام لنا على الدوام لنكتشف المعاني والدلالات من حدث التجسد الإلهي بقوة الروح القدس من العذراء المباركة مريم، ام يسوع المسيح بالجسد، حيث أن الملائكة بشرت الرعاة بولادة الطفل المخلص في مدينة بيت لحم " إنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب" ( لو 2: 11).
أما عن أبرز المعاني والدلالات الميلاد فهي:
أولاً: أن الميلاد أعطى المعنى الجديد للدين، حيث كانت ديانات العالم القديم قبل ميلاد المسيح مبنية على الخوف والرعب من الآلهة، وعبادة القوة أو السلطة الحاكمة. كانت الديانة عبئاً ثقيلاً تنوء به ظهور الناس. فكان لزاماً على الإنسان الضعيف المسكين أن يسترضي هذه الآلهة بالذبائح والقرابين والشفاعات والبخور والتقدمات وذلك ليأمَنَ شرَّها وبطشها.
فهذه الأديان رسمت الآلهة في صورة ملك جبار لا يرحم ولا يلين ... ومن هنا نشأت عبادة القيصر لأنه مصدر القوة والجبروت، ولهذا عاش الإنسان في العالم القديم في رعب مستمر من الآلهة.
وفي ملئ الزمان ولد المسيح ليعلن طبيعة الله الواحد الحقيقي، الآب السماوي المحب، وليطهِّرَ الدينَ من الخرافات والمخاوف والأوهام والرواسب القديمة، وليعطي المفهوم الجديد للدين: فالدين أجنحة يرتفع بها الإنسان، وليس حملاً ثقيلاً يرزح تحته ويجذبه إلى أسفل .. الدين معين للإنسان وليس شبحاً يخيفه، الدين طريق لبهجة الإنسان لا لتعاسته، الدين هو الالتجاء إلى القوة الإلهية التي ترفع الأحمال عن الناس وتنهض بهم، وقد قال يسوع " تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم".
لذلك، فقد قدمّت ليلة الميلاد للعالم إلهاً محباً عطوفاً متسامحاً، فكانت ليلة الميلاد ليلة تجسد لمحبة الله اللامحدودة. وبواسطة هذا الإيمان بإله المحبة والسلام يُشرقُ على النفس البشرية نورٌ إلهي عجيب يبدد ظُلماتِها، ويسود في القلب سعادةٌ غامرة وسكينة واطئمنان. ودور الكنيسة عبر الأزمان أن تجسد محبة الله للناس وأن تشاطر الإنسانية آلامها وأثقالها.
ثانياً: أن الميلاد أعطى المعنى الجديد للتحرر، فرسالة المسيح حملت عبق التحرير من كافة أشكال الظلم والعبودية والطغيان وكذلك الوقوف في وجه المنافقين والمرائين، فحمل المسيح سوطاً في وجه الذي يعبثون ببت الصلاة ويجعلونه بيت لصوص.
يميلاده العجيب حطّمَ المسيح قيود العنصرية والقومية، والتي شكلت حاجزاً قوياً يفصل الإنسان عن أخيه الإنسان، فبميلاده اجتمع اليهودي والأممي معاً، السيد والعبد. جاء المسيح ينادي بمبدأ الأخوة بين أفراد العائلة البشرية الواحدة .. مبيناً بتعاليمه أن جميعَ الناسِ أخْوةٌ ولو تباينت أجناسهم وألوانهم ولغاته.
حطم المسيح أيضاً القيود الطبقية ورفع من قيمة الفرد مهما كان جنسه أو لونه أو طبقته الاجتماعية .. فقد جاء " ليخلص ما قد هلك." كان العالم القديم قبل مجيء المسيح يقدس نظام الطبقات، فلم يكن للفقراء من الحقوق ما للأغنياء، ولم يكن العبيد يحسبون في نظر السادة أو أمام القانون في عداد البشر. لم يكونوا إلا مجرد أداة بشرية حية بلا حقوق لهم على الإطلاق. فطفل الميلاد علّم أن الناس سواء فلا فرق فيهم بين فقراء وأغنياء .. فتحت قبة المذوذ اجتمع السيد والعبد معاً، الرفيع والوضيع، الغني والفقير .. إذ " .. ليس عبد ولا حر ..." لأنكم جميعاً واحدٌ في المسيح يسوع" ( غلا 3: 29).
لذلك في محضر الله تزول الفوارق الاجتماعية والعرقية ولا يكون مكان للحواجز الطبقية، ويجتمع الجميع معاً على مائدة المحبة كأخوة وأخوات، ويشتركون معاً في مائدة الرب كأعضاء قديسين في جسد المسيح الواحد يكمل بعضهم بعضاً.
كذلك حطم المسيح كلَّ القيود الجندرية. كانت التقاليد القديمة في العالم القديم تعتبر المرأة شياً آخر غير الرجل، ليس لها من الحقوق والامتيازات والكرامة ما للرجل. لقد قضى المسيح على هذا الحاجز عندما رفع قدر المرأة إلى أسمى مرتبة إذ صارت بولادته منها أما له، وعندما ساوى بين المرأة وبين الرجل في معاملته لهما .. فتحت قبة المذوذ اجتمع الرجل إلى جانب المرأة وهكذا تم ما قاله الرسول بولس " ... ليس ذكر ولا أنثى لأنكم جميعاً واحدٌ في المسيح يسوع" (غلا 3: 28).
وهناك قيد آخر حطمه المسيح وحررنا منه، هو قيد الطقوس والفرائض في العهد القديم. فبميلاده اقترب المختون من غير المختون، واقترب الناس من كل الجهات والأديان والأجناس ودخلوا معاً في شركة مقدسة واحدة.
ميلاد المسيح حررنا من كل هذه القيود ودعوتنا اليوم أن فننشر العدل والمساواة بين الجميع.
ثالثاً: أن الميلاد أعطى المعنى الجديد للمحبة، لقد عرف العالمُ قبل المسيح ألوانً كثيرة من المحبة. ولكن هذه المحبة كانت محدودة مقصورة على الأقرباء والأصدقاء وأبناء الدين الواحد. فجاء المسيح وسما بالمحبة إلى أعلى ذروة حتى شملت الأعداء .. فلقد أحب الجميع واتسع قلبه للجميع فلم يمر بعين كفيفة إلا وأدخل إليها النور، ولم يمر بقلب حزين حتى وبعث فيه السرور.
فقد أعلن المسيح بميلاده ومجيئه فكر الله السامي بأن الله إله محبة لا إله نقمة، ومحبته هذه تقف خلف سرِّ التجسد. فالمحبة تنبع من الله الذي هو ذاته محبة كما أن المحبة هي سبيلنا إلى معرفة الله ، وعندما يسكن الله داخل قلوبنا، نتعلم كيف نحب الله، كما أننا عندما نحب، نقترب إلى الله أكثر فأكثر. فالمحبة تأتي من عند الله، كما أنها تقودنا إليه، إنها تبدأ منه، وتنتهي إليه.
فلا عجبَ أن يكون الميلاد مناسبة محببة لكل إنسان، لأنها تُجسد ميلاد المحبة الإلهية في شخص طفل الميلاد. إنها مناسبة تنقل الإنسان من عالم الكراهية والبغضاء إلى عالم المحبة والإخاء. فعيد الميلاد هو عيد المحبة الإلهية العملية. وقصة الميلاد من أولها إلى آخرها تنبض بالمحبة. وقد عبر عن ذلك بولس الرسول بقوله: " بهذا أظهرت محبة الله فينا أن الله قد أرسل ابنه الوحيد إلى العالم لكي نحيا به". وقد حدد هذه المحبة ووصفها وصفاً حقيقياً بقوله: " أنظروا أية محبة أعطانا الآب حتى ندعى أولاد الله."
فما أحوج عالم اليوم إلى محبة الله التي أشرقت بوجه طفل الميلاد يسوع المسيح خصوصاً في ظل تنامي الصراعات والنزاعات الطائفية والتمييز العنصري والتفرقة الجندرية والتمييز الطبقي.
فرسالة الميلاد تدعو للسلام .. للعدالة .. للمصالحة .. لخدمة الإنسانية دون تمييز. قال يسوع: "جئت لتكون لهم حياة وليكون لهم الأفضل".
وكل عام وأنتم وبلدنا الأردن وشعبنا الأردني الوفي وجلالة مليكنا المفدى عبد الله الثاني بن الحسين بألف خير وخير.