موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الخميس، ١١ مايو / أيار ٢٠٢٣
العقائد الْمَريَميّة بحسب الكنيسة الكاثوليكيّة الرّسوليّة الْمقدّسة
الأب فارس نعيم سرياني، راعي كنيسة سيّدة الورديّة للاتين في الكرك، الأردن

الأب فارس نعيم سرياني، راعي كنيسة سيّدة الورديّة للاتين في الكرك، الأردن

إعداد: الأب فارس نعيم سرياني :

 

تُعرَفُ الكَنيسةُ الكَاثوليكيةُ الْمُقَدَّسَة، بِإكْرَامِهَا الشَّديدِ مُنْقطِع النّظيرِ، للأمِّ القدّيسةِ مَريمَ العَذراء. كيف لا وهيَ حَامِلةُ الإله، مَنْ وَهَبَتْ البَشَريّة وَاهِبَ الخَلاصِ وَمَانِحَ الفِدَاء، ربَّنا وإلهَنا يسوعَ الْمسيح. ونحنُ في غَمرةِ شَهرِ السَّيدَةِ الْمُبَارَك، شَهرِ أَيّار، نُريدُ وَإيّاكُم أَنْ نُعرّجَ عَلَى أَهمِّ العَقائدِ الّتي تَخُصُّ بها الكَنيسةُ الكَاثوليكيّة، أُمَّنا الْمجيدَةَ مَريمَ العَذراء.  

 

 

أَوّلًا، العقيدة

 

العَقيدَةُ هيَ تِلكَ الأمور الّتي اعْتَنِقُها، بِشَكلٍ ثَابِتٍ لا يَقبَلُ الشَّك. والعَقيدَةُ الإيمانيّة، هيَ وَسيلَةٌ بَشَريّة، مِنْ خِلالِها أُعَبّرُ عن إيمانيَ الْمُطلَق، بالحقَائِقِ الّتي أَوحَى بها الله، في الكِتَابِ الْمُقَدَّس مَصدَرِ العَقيدَة، وَصَاغَتُهُ الكنيسةُ وَديعَةَ إيمانٍ رَاسِخَة. كإيمانِنَا بِعَقائدِ التَّجسُّدِ، والثَّالوثِ الأقدَس، والحُضورِ الحقيقيّ لِسَيّدنا يسوعَ الْمَسيح في سرِّ الإفخارستيّا.

 

أَضِفْ إلى ذَلِك، أَنَّ العَقَائِدَ لَيسَت فَقَط مُجرّدَ تَعَابيرٍ جامِدَة، بَل هيَ أَيضًا مُمارسَاتٍ نَعيشُها مِن خَلالِ الّليتورجيّا الْمُقدَّسة. أَمّا دورُ العَقيدَة، فَهوَ بَيَانُ حَقيقَةِ الإيمانِ القَويم، والحِفاظُ عَليه، وَالدِّفَاعُ عَنه في وَجهِ الهرطَقَاتِ والأضالِيل.

 

 

ثانيًا، عقائِد الإيمان

 

قَانونُ الإيمان "نُؤمِن بإلهٍ واحِد..." هوَ دُستورٌ يُجمِلُ عقائِدَنا الْمَسيحيّةِ وَيحفَظُها، أَيْ كيفَ نُؤمِنُ بالله، بِحَسَبِ مَا أَوحى لَنَا في الكِتَابِ الْمُقَدَّس. والكَنيسةُ كَانت صَاحِبَةَ الصِّياغَةِ العَقَائِديّة، نَظَرًا إلى ظُهورِ اِنْحرافاتٍ، هَدَّدَت سَلامَةَ الإيمانِ وَاسْتِقامَتَه. وَمِنْ أهَمَّهَا هرطَقَةُ آريوس، الَّتي كَانَت تُنكِرُ لاهوتَ السّيدِ الْمَسيح، وأُخْرَى تَمسُّ لاهوتَ الرّوحِ القُدس. وَعَليه، الْتَأَمَتْ الكَنيسَةُ في مَجمعِ نيقيا الأوّل عام 325، واضِعَةً قَانونَ الإيمان، حَتّى اِكتَمَلَ مَع مجمعِ القُسطنطينية الأوّل عام 381. ولذلكَ يُسَمَّى "قانون الإيمان النّيقاوي-القُسطنطيني". وَاسْتَمَرَّت حَالةُ "التَّوافُقِ الْمَجمَعي"، حتّى الْمَجمَعِ الْمَسكوني السَّابع، مجمعِ نيقيا الثّاني عام 787، الَّذي أَنهى مَا يُعرَفُ بِ "حَربِ الأيقونات".

 

وَبعدَ الشَّرخِ الكَبير الَّذي أَصَابَ الكَنيسَةَ سنة 1054، أَعلَنَتْ الكَنيسَةُ الكَاثوليكية، بموجَبِ مجامِعَ خَاصَّةٍ بِها وَإعلانَاتٍ حَبريّة، مَجموعةَ عَقائِدٍ تُؤمِنُ بها، كَعَقيدَةِ الحَبَلِ الطّاهِرِ بالعذراءِ بِلا دَنـسِ الخطيئة، وَعَقيدَةِ انتِقَالِ السّيدِة.

 

 

ثالِثًا، العَقائِد الْمَريميّة الكُبرَى

 

للعَذراءِ مَريم عَقَائِدُ عِدَّة، مِنها مَا هوَ مُشتَرَكٌ بينَ الكَنَائِسِ الرَّسُوليّة، كَعقيدَةِ العَذراء أُمِّ الله. وَمِنها مَا هوَ خَاصٌّ بالكَنيسةِ الكاثوليكيّة، كعقيدةِ الحبلِ بِلا دَنس. أَمّا أَهمُّ العَقَائِدِ الْمَريميّة بِحَسَبِ الكَنيسةِ الكَاثولِيكيّة، فَهِيَ مَا يَلي:

 

1.  أمّ الله، حامِلَةُ الإله

 

وَهيَ العَقيدَةُ الْمَريميّة الأولَى تَارِيخيًّا، وَقَدْ جَاءَ إعلانُها عام 431، مَع مَجمعِ أَفَسس (تركيا اليوم) الْمَسكوني الثّالِث. حَيثُ أَكَّدَ فيهِ آباءُ الْمَجمع، عَلَى أَنَّ السَّيدَ الْمَسيح، هوَ شَخصٌ وَاحِدٌ غَيرُ مُجزَّأ، حامِلٌ في شَخْصِهِ: الطَّبيعَةَ الإلهيّة والطّبيعَةَ الإنسَانِيَّة. والعَذراءُ مَريم هيَ أُمُّ هَذَا الشَّخصِ بِطَبيعَتَيه، ولِذلِكَ أُعْطِيَتْ لَقَبَ العَذراءِ أمِّ الله. لَيسَ لأنّها هيَ مَنْ أَعْطَتْ مَولُودَها الطّبيعةَ الإلهيّة، بَلْ لأنّها حَمَلَتْ في حَشَاها الطّاهِر، وَوَلَدَتْ كَلِمَةَ الله يسوعَ الْمَسيحُ الإله.

 

وَعَلَيه، نحنُ الْمَسيحيّين لا نُنَادي أبَدًا "بِتَزاوج الإلهة"، كَمَا يَعتَقِدُ البَعض، فَمريم لَيسَتْ إِلهة، ولم يَحدُثْ "اقْترانٌ زَوَاجِي" بَينَها وَبينَ الله. وَلَكنَّها أَنجَبَتْ حَامِلَ الطّبيعَةِ الإلهيّة، كَلِمَةَ الله يَسوعَ الْمَسيح، الّذي تَجسَّدَ فيهَا وَوُلِدَ مِنها.

 

وَلِهذهِ العَقيدَة جُذُورُها في الكِتابِ الْمُقَدَّس. فَالفَصلُ الأوّل مِن بشارةِ القدّيسِ يوحنّا، يُؤكِّدُ عَلى طَبيعَةِ الْمَسيحِ الإلهيّة: ﴿في البَدءِ كَانَ الكَلِمَة، وَالكَلمَةُ كَانَ لَدَى الله، والكَلِمَةُ هوَ الله. وَالكَلِمَةُ صَارَ بَشَرًا، فَسَكَنَ بَينَنَا﴾ (يوحنّا 1:1، 14). والْمَلاكُ جِبرائيل سَاعةَ البِشارة، يُخاطِبُ العَذراء، مُؤكِّدًا لَها بِأنَّ مَولودَها: ﴿يَكونُ قُدُّوسًا وابنَ اللهِ يُدْعَى﴾ (لوقا 35:1). وَلَحظةَ الْميلاد، تَزُفُّ ملائِكةُ العُلى البُشرى للرُّعاةِ قائِلَة: ﴿وُلِدَ لَكُمُ اليَومَ مُخلِّصٌ، وهوَ الْمسيحُ الرّب﴾ (لوقا 11:2). ومِن هُنا، نَجِدُ أَنَّ البِشَارَةَ الإنجيليّة، قَدْ بَيَّنَتْ مُنذُ البَدءِ، الطَّبيعَةَ الإلهيةَ الّتي يَحمِلُها مُولودُ مريمَ العَذراء، الْمسيحُ يَسوع.

 

هَذا البَيانُ الْمُوحَى والْمُلهَم، بالإضافَةِ إلى إيمانِ الشَّعبِ الْمَسيحيّ بهذهِ الحَقيقية، حتّى قَبلَ إِعلانِها، هُوَ مَا استنَدَ عَلَيه آَباءُ مجمعِ أفَسُس، لِدَحضِ هرطَقَةِ بَطريرك القُسطَنطينيّة نَسطوريوس، مُؤكِّدينَ عَلَى وَحدةِ الْمَسيحِ الشَّخص، وَعَلَى ثُنَائيّةِ الطَّبيعَتين فِيه: الإلهيّةِ الكامِلَة والبَشَريّةِ الكَامِلَة. وَعَلَى أَنَّ مريمَ العَذراء، هِيَ والِدَةُ الشَّخصِ الواحِد، يَسوعَ الْمسيح، الإلهِ وَالإنسَانِ مَعًا.

 

وَجاءَ في بَيانِ الْمَجمَع: "لَم يُولَدْ أَوّلًا مِن العَذراءِ إنْسَانٌ عَاديّ، حَلَّ فيهِ الكَلِمَةُ الإلهيّ في وَقتٍ لاحِق، لَكِنَّ الكَلِمَةَ الإلهيّ الْمُتَّحِدَ بالجَسَدِ في الحَشَا البَتولي، هوَ نَفسُهُ وُلِدَ حسبَ الجَسَد. لِذا تُدعَى مريم والِدَةَ الإله، لا بِمَعنى أنَّ طبيعةَ الكَلِمَةِ الإلهيِّ قَدْ صَدَرَت عَن العَذراءِ القِدّيسَة، بل بِمعنى أنَّ كَلِمَةَ الله، أَخَذَ مِنهَا لِذاتِه جَسَدًا مُقدَّسًا". وَنحتَفِلُ بِهَذِه العَقيدَة في الأوّلِ مِن كَانونِ الثّاني، مِنْ كُلِّ عَام.

 

 

2. البَتوليّة الدّائِمَة

فَمَريمُ العَذراء، وَنَظرًا للاصْطِفَاءِ الإلهيّ الّذي اختَارَهَا لِتَكونَ أُمًّا للْمَسيحِ الرّب، بَقِيَت بَتَولًا كُلَّ حَياتِها، وَلم تَعرِفْ رَجُلًا بالْمَعنى الجَسَديّ. ثُمَّ أَنَّ اللهَ الَّذي اصْطَفَاها، قَدْ أَنعمَ عَليها بِأنْ تَكونَ أُمًّا، وفي نَفسِ الوَقت لَبِثَت بَتولًا. وَبَتُولِيَّتُها هَذه لم تَكْن فَقَط بتوليّةً قَبلَ الوِلادَة، بَلْ أَثناءَها وَبَعدَها. ولِذلِك العَذراءُ هي دائِمَةُ البَتُوليَّة.

 

فَمَريمُ العَذراء قَدْ حَبِلَتْ بِيَسوعَ الْمَسيح دُونَ تَدَخُّلِ رَجُلٍ، بَل بِقُدرَةِ الرُّوحِ القُدس، وَهذهِ هي بَتوليّةُ مَريم قَبلَ الولادة. ثُمَّ أنّها قَدْ بَقيَتْ بَتُولًا أَثنَاءَ الوِلادَة، فَولادَتُها لَيَسوع كَانَتْ أَيضًا فَائِقةَ الطَّبيعَة، فَخَرجَ مِنْ رَحمِهَا مِثلَ النّورِ الَّذي يخترِقُ الزّجاجَ، دُونَ أنْ يُصيبَهُ بِأيِّ خَدْشٍ. وَبَعدَ وِلادَةِ يَسوع، ظَلَّتْ مَريمُ بَتولًا عَفيفَةً مِنْ أَيّةِ عَلاقَةٍ، وهذهِ هيَ بَتُولِيَّتُها بَعدَ الوِلادَة.

 

هَذهِ العقيدَة، وإنْ كانَت تُخالِفُ أَعْرَافَ الطّبيعَةِ وأنماطَها، إلّا أنّها تُعبّرُ عَنْ قُدْرَةِ اللهِ الفَائِقَةِ الطَّبيعَة. فالّذي وَضعَ قَوانينَ الحَبَلِ وَالتَّكَاثُرِ والوَلادَةِ لَدَى البشر، قَادِرٌ عَلَى تجاوزِهَا لحظَةَ تجسُّدِهِ وَوِلادَتِهِ مِنْ أُمِّهِ مَريم. وبذلكَ، يكونُ اللهُ قَدْ جَمعَ في البَتولِ مَريم فَخرَينِ عَظيمَين: البَتوليّة وَالأُمومَة.

 

جَديرٌ بالذّكرِ أنَّ الفنَّ الْمَسيحيَّ الْمقدَّس، قَدْ عَبَرَّ عَنْ عَقيدةِ الإيمانِ هَذهِ، بِأنْ جعلَ ثَلاثِ نَجماتٍ في الأيقوناتِ الْمَريميّة، رَمزًا إلى بَتوليّةِ مِريم العَذراء، قَبل وَأثناء وَبَعد ولادةِ سيدّنَا يَسوع الْمسيح.

 

 

3. الحَبَل بِلا دنس

وَهِيَ عَقيدةٌ أَعْلَنَها البابا بيوس التّاسع، مُؤكِّدًا فيها عَلَى أَنَّ اللهَ الّذي اختَارَ مَريم، وَحباهَا حُظوَةَ استِقبالِ الكَلمَةِ الإلهيِّ في حَشاهَا، قَدْ حَفِظَها مُنَزَّهَةً نَقِيَّةً مِنَ الخَطيئةِ الأصليّةِ، وَمِنْ آَثَارِها وَنَتَائِجِها. وَجاءَ نَصُّ العَقيدَةِ، الّذي أَعلَنَهُ البابا في 8 كانون الأوّل سنة 1854، في البَراءةِ الرَّسولِيّةِ "Ineffabilis Deus - الله الفَائِقُ الوَصف"، كَما يَلي:

 

((بِسُلطانِ ربِّنا يسوعَ الْمسيح، نُعلِنُ ونُحدِّدُ، أَنَّ العَقيدةَ الّتي تَقول بإنَّ العَذراءَ مَريمَ الْمَغبوطة، قَد عُصِمَت مِنْ كُلِّ دَنسٍ لِلخطيئة الأصلية، منذُ الّلحظَةِ الأولى لِلحَبلِ بها، بِنعمةٍ وَحُظوَةٍ خَاصّةٍ مِنَ الله القدير، نَظرًا إلى استِحقَاقَاتِ يَسوعَ الْمَسيح، مُخلّصِ الجنسِ البَشري، هِيَ عَقيدةٌ أَوحَى بِها الله، وهَكذا يجبُ أن يَعتَقِدَها كُلُّ الْمَؤمنين، بِثباتٍ وفي كُلِّ حِين. فَلَقدْ اختارَ اللهُ الّذي يَفوقُ الوَصف، مُنذُ البَدءِ لابنِه أُمًّا يُولدُ مِنهَا بعدَ التّجسُّدِ. وَأَظهرَ لها مِنَ الحُبِّ فَوقَ كُلِّ الخَلائِق، ما جَعَلَهُ يَضعُ فيهَا، عَلَى وَجهٍ فَريد، أَعظمَ مَرضاتِه. لِذلِك، غَرفَ مِن كَنزِ أُلوهِيّتِهِ، وَآَتَاهَا غَزيرَ نِعَمِه السَّمَاويّة، إذْ عُصِمَت مِنْ دَنسِ أَيِّ خَطيئة، وَزُيِّنَت بالجمالِ والكَمال)) الكَنيسة الكاثوليكيّة في وثائِقها، # 2800، 2803.

 

هَذَا التَّحديدُ العَقائِدي يَعني:

 

- أَنَّ القدّيسةَ مَريمَ العَذراء حُبِلَ بها بِطَريقَةٍ طَبيعيّة كَسائِرِ البَشَر، وَأَنّها وُلِدَت مِن والِدَيها يواكيم وحنّة، وَعَاشَتْ دُونَ أنْ تحمِلَ أَو تَعرِفَ الخَطيئَة. فَنَفسُهَا الشّريفَة، كَانَتْ مُصانَةً بِنعمَةِ الله، مُنذُ أَنْ تَكَوَّنَت في حَشَا وَالِدَتِها.

 

- هَذَا الإنْعَامُ الفَريد، حَصَلَت عَليهِ مريم بِاستِحقَاقَاتِ ابنِهَا وَفَادِيهَا يَسوعَ الْمَسيح، لِتَكونَ الحَشَا الْمُقَدَّس والرّحمَ الطّاهِر، الّذي حَوَى الرَّبَّ يَسوعَ الْمسيح. فَمِنْ نَاحية، هيَ مِثلنَا بحاجَةٍ إلى خَلاصِ الْمَسيح الّذي تمَّ عَلَى الصَّليب، وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخرى حَصَلَتْ مريمُ عَلَى الخَلاصِ قَبلَ صَلبِ الْمَسيحِ وَمَوتِه، وَبِطَريقَةٍ مُسبَقَةٍ واسْتِثنائيّة، تَمَيَّزَت بها عَن سَائرِ البَشر. ومريمُ العَذراء قَدْ أدْرَكتْ ذلِكَ، فَأنْشَدت: ﴿تُعَظِّمُ الرّبَّ نَفسي، وَتَبتَهِجُ رُوحي باللهِ مُخلِّصي﴾ (لوقا 46:1).

 

- هَذا الإعلانُ جَاءَ تَتويجًا لإيمانِ الشَّعبِ الْمَسيحيِّ القَويم، وَلإكرامِهم العَظيم لِمَريمَ العَذراء. فَمُنذُ بَدءِ الْمَسيحيّة، تُعَظِّمُ الكَنيسَةُ والْمَسيحيِّون في كُلِّ مَكان، طُهرَ مَريم، كُلّيةَ القَداسَة، البَريئَةَ مِن كُلِّ دَنَس، كَمَا يَصِفُها آَباءُ الكنيسَةِ وَكُتّابُها الّلاهوتيّون، في الشَّرقِ وَالغَرب.

 

أَمَّا لِلْمُعتَرِضينَ عَلَى هذهِ العقيدةِ، فَنَقول:

 

- إنْ كانَ اللهُ هوَ الطُّهرُ بالذّات، وَجَبَ أنْ يُخَصِّصَ لِذَاتِهِ أُمًّا طاهِرَةً عَلَى مِثالِه، دُونَ أنْ يَسمَحَ لِلخطيئةِ أَوْ نَتَائِجِها أَنْ تَمَسَّهَا وَلَو لِلَحظَة. وَإنْ كَانَ هوَ مُفيضَ النِّعمَةِ وَالقَدَاسَة، غيرَ الْمَحدودِ بِزمانٍ ومَكَان، اِسْتَطَاعَ أنْ يُقدِّسَ ويُخلّصَ في الوَقتِ الّذي يَشَاء، وَأَنْ يحفَظَ عَلَى الدَّوامِ مَنْ اختَارَها أُمًّا للكَلِمة.

 

- وَلِمَن يَقول أَنَّ الخلاصَ لا يُمكِن أن يَحدُثَ قبلَ مَوتِ الْمَسيحِ عَلى الصَّليب، فَهَل مِن تَفسيرٍ لِكَلامِ الْمَسيح، حينَ قَالَ لِزكّا رَئيسِ العشّارين: ﴿اليومَ حَصلَ الخلاصُ لِهذا البَيت﴾ (لوقا 9:19)، ولَم يَكن الْمَسيحُ قَدْ صُلِبَ بَعد؟!

 

- إنَّ مَبدَأ "الله الّذي لا يُحابي أَحَدًا"، والَّذي يَنطلِقُ مِنهُ بَعضُ الآباءِ والّلاهوتيّين مِنَ الكَنَائِسِ الشَّقيقَة، لِرَفضِ هَذهِ العَقيدة، فِيهِ إِغفَالٌ لِوَقائعَ كِتَابيّةٍ وَاضِحَة، يَظهرُ فيها أنَّ اللهَ يُقيمُ وَزنًا ويجعلُ عِندَهُ "خاطِرًا" لِأخِلّائِه. فَمَثَلًا لأجلِ إبراهيمَ خَلِيلِهِ، كانَ اللهُ سَيُلغي العِقَابَ الّذي أَرادَ أن يُنزِلَهُ بِأَهلِ سَدوم (تكوين 16:18-33). وفي سفرِ دانيالَ النّبي، يَقِفُ عَزَرْيا مُصَلِّيًا: ﴿ولا تُحوّل رَحمَتَكَ عنَّا، لِأجلِ إبراهيمَ خليلِكَ وإسحقَ عبدِكَ وإسرائيلَ قدّيسِكَ﴾ (35:3). وَعَليه، إذا كانَ اللهُ لأجَلِ أَصْفِيَائِه، سَيُغيّرُ ويُبدِّلُ، فَكَمْ بالأحَرَى سَيصنَعُ لِمَنْ اصْطَفَاها لِكَلِمَتِهِ أُمًّا، وَهيَ السَّامِيَةُ عَلَيهم جَميعًا؟!

 

- الفَرقُ كَبير بَينَ الْمُحَابَاةِ القائِمَة عَلَى مَنافِعَ وَمَصَالِح، وَبينَ الاختيار الّذي هوَ هِبَةٌ مِن اللهِ وَحدَهُ، والَّذي بِإرادَتِهِ أَفردَ مريم وَاصْطفاهَا لهذا الدّور.

 

- في تَعليقٍ للأبِ العَلّامَة بَيتر مَدروس، مِن كَهنةِ البَطريركيّة الّلاتينية الأورشليمية، عَلَى الاعتراضَاتِ القَائِمَةِ عَلَى هَذهِ العَقيدة، يَقول: "يتمُّ الخَلاصُ بِطَريقتين: الطَّريقَةُ الأولى بِالعِلاجِ بَعدَ الْمَرض، والطّريقَةُ الثَّانيَةُ بالوِقَايةِ الْمُسبَقَةِ مِنَ الْمَرض. فَاللهُ خَلَّصَ سَيّدَتَنَا مَريمَ العَذراء منَ الخطيئة، بِطَريقَةٍ مُسبَقَةٍ وِقَائِيَّة)).

 

- وَالقِدّيسَةُ تريزيا الصّغيرة كَتَبَت تَقول: ((يُسَاعِدُ اللهُ النّاسَ في صُعُوبَاتهم بِطَريقَتين: إِمَّا أنْ يُساعِدَهُم وَسَطَ الأشواكِ والحِجَارةِ الّتي في طَريقِهِم. وَإمَّا أنْ يُساعِدَهُم بِإزَالَةِ الأشواكِ والحِجَارَةِ مُسبَقًا مِنْ طَريقِهِم)). واللهُ في حَالةِ مَريم، أَزالَ كُلَّ مَا مِنْ شَأنِهِ أَنْ يَنتَقِصَ مِنْ طَهارتِها أَو يَنالَ مِنْ قُدْسِيّتِهَا، وَمنذُ الَّلحظَةِ الأولى لِلحَبَلِ بها، وَحَتّى سَاعةِ انَتْقَالِها الْمَجيدِ إلى السَّمَاء.

 

نحتَفِلُ بِهَذِه العَقيدَة في الثّامن مِن كانون الأوّل، مِنْ كُلِّ عَام.

 

 

4.  الانتقال إلى السَّماء بالنفسِ والجَسَد

وَهيَ العَقيدةُ الّتي أَعلَنَهَا البابا بيوس الثاني عشر، في الأوّل مِن تِشرين الثّاني عَام 1950، حيثُ أَعلنَ قداسَتُهُ أنَّ وَالِدَةَ الإلهِ السَّامية، قَدْ حُفِظَت مِن فَسَادِ الْمَوتِ، وَرُفِعَتْ بالجَسَدِ وَالنّفسِ إلى السَّمَاء. وَجَاءَ نَصُّ العَقيدَةِ، في الدّستور الرّسولي " Munificentissimus Deus- اللهُ الفَائِقُ الجَمَال"، كَما يَلي:

 

((يَبدو كَالْمُستَحيلِ أَنْ نَرَى تِلكَ الّتي حَبِلَت بالْمسيحِ وَوَلَدَتهُ، وَغَذَّتهُ بِلَبَنِها، وَحَمَلتهُ عَلى ذِرَاعَيها، وَشَدَّته إلى صَدرِها، مَفصُولَةً عَنهُ بَعدَ هَذهِ الحياةِ الأرضيّة. فبِمَا أنّهُ كانَ قادِرًا أنْ يُكرِمَها هذا الإكرامَ العَظيم، بِأنْ يحفَظَها مِن فَسَادِ الْمَوت، فَيَجِبُ الاعتِقادُ بأنَّهُ فَعَل ذلِكَ حقًّا.

 

فَأمُّ اللهِ الجَليلَةُ القَدر، الْمُتَّحِدَةُ منذُ الأبدِ بِيَسوعَ الْمسيح بالاختيارِ السّابِق، الطّاهِرَةُ تمامًا في حَبلِها، والعذراءُ النّقيّةُ في أُمومَتِها الإلهيّة، الرّفيقةُ الكريمَةُ لِلفَادِي الإلهيّ، قَدْ حَصَلَتْ أَخيرًا، كَتَتويجٍ أَسمى لامتِيَازاتِها، عَلَى أنْ تُحفَظَ مِن فَسادِ القَبر، وَمِثلَ ابنِهَا، بَعدَ الغَلَبَةِ عَلَى الْمَوت، أَنْ تُرفَعَ بالجَسَدِ والنّفسِ إلى الْمَجدِ في السَّمَوات.

 

تَمجيدًا للهِ القَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيء، وَبِسُلطانِ ربِّنا يسوعَ الْمسيح، نُعلِنُ ونُحدِّدُ، كَعَقيدَةٍ أَوحى بها الله، أنَّ مريمَ العَذراء، أُمَّ اللهِ الكُليَّةَ الطُّهر، الدّائِمَةَ البتوليّة، بَعدَ أنْ أنْهَت حَياتَها عَلَى الأرضِ، قَدْ رُفِعَتْ بِجَسَدِها وَنَفسِها إلى الْمَجدِ السّماوي)) الكَنيسة الكاثوليكيّة في وثائِقها، # 3900-3904.

 

فاللهُ قَدْ خَصَّ مَريم بهذا الإنعامِ الفَريد، إذْ لمْ يَسمَحْ لِفَسادِ القُبور، الّذي يَختَبرُهُ كُلُّ بَشَر، أَنْ يَنَالَ من جَسدِ العَذراءِ، أُمِّ الْمَسيحِ الكَلِمَة، بَلْ نَقَلَها إلى حَضرتِهِ بَعدَ رُقادِها.

 

وقَدْ جَاءَ في التّقاليدِ القديمَة الْمُتنَاقَلَة، أَنَّهُ عِندَمَا حَانَ زَمنُ انْتِقَالِ السَّيدَةِ العَذراء، أَعْلَمَها ابنُهَا الْمَسيح بِأنَّ انتِقالَها سَيحدُثُ بَعدَ ثَلاثةِ أيّام. فَاجتَمَعُ الرُّسُلُ لِوَدَاعِهَا. وَبَعدَ أنْ فَاضَت روحُها الطَّاهِرَة، دَفَنَهَا الرُّسُلُ في جَبلِ الزّيتون. وَبَعدَ ثلاثةِ أيّام، ظَهَرت العَذراءُ لِلتّلاميذِ وَهُم مجتَمِعون، فَأيقَنوا أَنّها انتَقَلَت بالنَّفسِ والجَسدِ إلى السَّمَاء.

 

هَذهِ العَقيدَةُ تُذَكِّرُنا، نحنُ الْمؤمنين، بالْمَصيرِ الّذي نَرجوه بَعدَ انقضاءِ غُربَتِنا الأرضية. فالعذراء أمُّ الكَنيسة، كانَت بَاكورةَ الْمُنتَقلين إلى الْمُقامِ الأبَدِي، الّذي أَعَدَّهُ لَنا رَأسُ الكَنيسةِ الْمَسيحُ الرّبّ، بَعدَ أَنْ تَحينَ سَاعَةُ انتقالِنا، مِن دَارِ الفَناءِ إلى دارِ البَقاء.

 

وَمَريمُ العذراء بانتِقَالِها الْمَجيدِ إلى السَّماء، قَدْ بَلَغَت مَا نَصبو وَنَسعَى نحنُ إلى بُلوغِه، أَلا وَهوَ الالتِقَاءُ بالله، والتّمَتّعُ بمشاهَدَةِ بهاءِ مَجدِه إلى الأبد: ﴿ما لَم ترَه عينٌ، ولا سَمِعَت بِه أُذنٌ، ولا خَطَرَ على قلبِ بَشرٍ، ذلِك ما أعدَّهُ الله لِلّذينَ يُحبّونَه﴾ (1قورنتوس 9:2).

 

نحتَفِلُ بِهَذِه العَقيدَة في الخامسِ عَشر من شهرِ آب، مِن كلِّ عَام.