موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
حوار أديان
نشر الإثنين، ١٦ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٤
الحوار الدّينيّ بين منهجيّة القطيع واستراتيجيّات التّحكّم في الشّعوب
قاضي بيروت الشرعيّ السابق، وأستاذ محاضر في عدد من الجامعات اللبنانيّة والفرنسيّة

قاضي بيروت الشرعيّ السابق، وأستاذ محاضر في عدد من الجامعات اللبنانيّة والفرنسيّة

الشيخ الدكتور محمد نُقري :

 

يفتقر كثير من التّخصّصات النّظريّة، وبخاصّة الدّينيّة، إلى دراسة معوّقاتها ومناقضاتها والتّحديّات الّتي تواجهها، ولعلّي أقول إنّ دراسة هذه التّحدّيات تفوق أهمّيّة بعض التّفاصيل الّتي تدخل في العناصر المركّبة لهذه التّخصّصات. فالعلوم الدّينيّة مبنيّة على قِيم ثابتة لا تتغيّر ولا تتبدّل ولا تتعدّل، بينما التّحدّيات المناقضة لها متغيّرة ومتلوّنة ومتنوّعة وملتوية، لذلك فهي أوسَع تأثيرًا وانتشارًا وقوّة من ثوابت عناصر التّعليم الدّينيّ. حتّى إنّ هذه التّحدّيات المناقضة يمكن أن تخترق الوسائل الّتي يتبعها المرشدون والوعّاظ ورجال الدّين في منهجيّتهم في التّربية الدّينيّة. في الجامعات والمدارس والمساجد والكنائس نتعلّم قيم الخير ولا نتطرّق إلى المسالك المناقضة لها إلّا عرضًا للتّحذير منها. السّؤال الّذي أطرحه فيما لو تعلّمنا طرق هذه التّحدّيات المناقضة ووسائلها ومسالكها ومناهجها في المدارس والجامعات والكنائس والمساجد بتوسّع وإسهاب أكثر لأصبحنا أكثر حذرًا وتنبّهًا من الوقوع في براثن هذه المخاطر، وبخاصّة تلك الّتي تكون خفيّة وملتوية وخدّاعة. من التّراث الإسلاميّ النّصّيّ أنّ أحد الصّحابة، وهو حذيفة ابن اليمان، كان يحدّث بأنّ النّاس كانوا يسألون نبيّ الإسلام عن الخير وكان هو يسأله عن الشّرّ مخافةَ أن يُدركه ويقع فيه.

 

ليس الهدف من مقاربة هذا الموضوع بهذا العنوان "الصّادم" إحباط عزيمة الباحثين والمنخرطين والمهتمّين بهذا النّوع من الدّراسات والتّخصّصات المهمّة والأساسيّة وبخاصّة في المجتمعات المختلطة. إذ إنّنا كثيرًا ما نتغافل في الحلقات الدّراسيّة الجامعيّة والنّدوات والمؤتمرات المتعلّقة بموضوعات الحوار الدّينيّ، في الحديث عن المصاعب الجمّة الّتي تواجهها هذه الموضوعات لتحقيق النّتائج الإيجابيّة المرجوّة منها. فنستغرق في التّفاؤل والمبالغة عند قراءة المحفّزات الّتي تُبنى عليها هذه الدّراسات والأبحاث والمداخلات، من دون أن نلفت النّظر إلى التّحدّيات الّتي ستعترض الباحثين والمهتمّين في هذه الدّراسات في صميم حياتهم العمليّة، وضرورة الإحاطة بها دفعًا لأيّ إحباط مستقبليّ يُصيبهم نتيجة تعليقهم الآمال الكثيرة على ما تلقّوه من نظريّات وفرضيّات سرعان ما تصطدم بالواقع المعيشيّ أو العقبات الّتي توضع أمامهم في المجتمعات المتعدّدة الطّوائف والأديان. يضاف إلى ذلك الخطوط الحمر الّتي لا يُسمح بتجاوزها في لعبة الأمم لإفشال كلّ ما يمسّ الخير العامّ وإسعاد البشريّة في حال تصادمه مع مصالحهم ومخطّطاتهم لإخضاع الشّعوب. فإرادة الشّرّ والأنانيّة وقدرتها على الهدم والتّخريب أقوى بكثير من إرادة الخير في البناء والتّشييد. لا غرو أن تختلجنا من وقتٍ إلى آخر المخاوف والشّكوك عند إنجاز المكتسبات الإيجابيّة والّتي يكون فيها تحقيق الخير العامّ للبشريّة، فنتخيّل طاولة مستديرة افتراضيّة يجلس عليها أركان وصناديد إدارة الملفّات الدّوليّة، وهم يتضاحكون ويتسامرون ويتناقشون في كيفيّة التّصدّي لكلّ ما يعطّل أنانيّتهم وسياستهم الخبيثة في إضعاف الأمم الّتي تتطلّع إلى استنهاض شعوبها وتحريرها من سياسة الاستلحاق والتّبعيّة. يكفي أن يحرّكوا حجرًا من أحجار لعبتهم الخبيثة ويستغلّوها إعلاميًّا حتّى تتهاوى كلّ الوسائل الوقائيّة والاستباقيّة الّتي أضنت جهود الخيّرين والمصلحين لضبطها ووضعها قيد التّنفيذ لمختلف شرائح المجتمع.

 

 

التّجربة العمليّة التّعليميّة

 

من تجربتي التّعليميّة في مادّة الحوار الدّينيّ، والّتي كنت أدرّسها في إحدى الجامعات، أنّني كنت أركّز فيها على التّفكير وبناء الشّخصيّة الذّاتيّة الحرّة وعدم الانجرار وراء دعوات التّشكيك والإساءة إلى معتقدات الآخرين. في محاضرات آخر العام الدّراسيّ الجامعيّ كنت أسأل الطّلبة عمّا استفادوه من دراسة هذه المادّة وعن كيفيّة مواجهتهم أقوال هؤلاء المشكّكين والمتحاملين على معتقدات الآخرين. كانت تصدمني إجابات بعضهم، وتُشعرني بأنّ ما نبذله من مساعٍ من أجل التّقريب وسدّ الثّغرات بين أتباع الدّيانات والطّوائف يذهب عندهم جفاءً كزَبَد البحر، وبأنّ ما تعلّموه من منهجيّة فكريّة حواريّة في حال اصطدامه بمنهجيّة المرجعيّة الدّينيّة أو الحزبيّة الّتي يتبعونها سوف ينقاد إلى كلام المرجعيّة من دون تردّد، وبأنّه لو طلب منهم خوض البحر والتّضحية بحياتهم بأمر من هذه المرجعيّة لفعلوه من دون تردّد أيضًا.

 

إزاء تلك الإجابات كنت أصاب بذهول وبخيبة أمل كبيرة، فأستتبعها بدراسة الأسباب الكامنة الّتي تدفع بهذه المجموعات، من الّذين أتمّوا دراستهم في هذا التّخصّص، إلى الانحراف عمّا تعلّموه والعودة إلى آرائهم السّابقة في التّبعيّة المتطرّفة، المناقضة للمنهجيّة الذّاتيّة الحرّة. خلصتُ في نهاية هذه الدّراسة إلى أنّ الّذين يعيشون منهم في بيئة غير مختلطة، أو ينتمون إلى أحزاب وحركات دينيّة، سرعان ما تتهاوى لديهم كلّ النّتائج الإيجابيّة المفترض أن تكون لهم سندًا ومرجعًا ومنهجًا في حياتهم العمليّة. هذه النّتائج المخيّبة للآمال لهذه الفئة من خرّيجي المعاهد الدّينيّة أو الحوار الدّينيّ، جعلتني أُكِبُّ على تطبيق هذه الظّاهرة على منهجيّتي بما بات يُعرف بسياسة القطيع واستراتيجيّات التّحكّم بالشّعوب.

 

 

التّحليل العلميّ لهذه الظّاهرة

 

أظهرت نتائج الدّراسات عن نشاط الدّماغ البشريّ، في حالة تعارضِ توجّهات الأفراد الذّاتيّة أو الّتي تبنّوها بعد الدّراسة مع رأي المجموعة الّتي يعيشون فيها، أنّ الدّماغ يُصدر أوامر بتنشيط المناطق المختصّة بالتّكيّف السّلوكيّ، فتؤثّر توجّهات المجموعة حينها في الإدراك وصنع القرار، وتحفّز الأفراد على تغيير آرائهم وسلوكيّاتهم ولو كانت مبنيّة على قناعاتهم الثّابتة للتّوافق مع توجّهات المجموعة وسلوكها.

 

يشرح الأخصّائيّون هذه الظّاهرة، الّتي أطلقوا عليها تسمية "المطابقة الاجتماعيّة"، بما يدور في دماغ الإنسان من سلوك داخليّ في أثناء المواجهة بين قناعات الأفراد الثّابتة وتوجّهات المجموعة، حيث ينحو الأفراد منذ صغرِهم إلى تتبّع خطى المجموعة ويشعرون بالحاجة إلى الانضمام إليها حمايةً لهم من الاستبعاد، أو محافظةً منهم على المكتسبات. تنمو هذه الظّاهرة لديهم في مرحلَتَي مراهقتهم ورشدهم، وتُعزى إلى محفّزات عديدة ينساقون إِليها، ومنها:

 

افتراضهم أنّ مجموعتهم الطّائفيّة او الحزبيّة تعرف أكثر منهم، وأنّ تصرّفاتهم ربّما تكون هي الصّحيحة، فينصاعون إليها فيما يشبه سلوك القطيع، أو - وهو الأخطر- حين يتجاهلون الحقيقة الّتي تعلّموها في دراستهم، أو بناءً على قناعتهم الشّخصيّة (والّتي قد تكون دفينة في منطقة اللّاوعي في الدّماغ)، ويعطون إجابات مخالفة لها من أجل التّوافق مع آراء مجموعتهم خشية أن يُنعتوا بعدم الوفاء في حال إجاباتهم المخالِفة، أو خشيةً من فقد المكتسبات الّتي سبق لهم تحقيقها أو طمعًا في مكتسبات يسعَون إليها.

 

أخذهم بآراء مجموعتهم وميلهم إلى تصديقها عند شعورهم بالارتياب وطلبًا للمساعدة. ينتابهم هذا الشّعور مثلًا عند تصادم ما تلقّوه من انفتاح واحترام الآراء المتعارضة في دراستهم موضوعات الحوار مع مكاسب مجموعتهم الطّائفيّة أو الحزبيّة، أو حتّى في مجالات حياتهم العامّة، حين يختارون بمحض إرادتهم شراء كتب معيّنة حازت جوائز أو إعجاب نخبتهم، أو بسبب تحريضِ وسائل إعلام طوائفهم وتشجيعها على عدم قراءتها نظرًا إلى ما صدر بحقّها من قراراتِ مصادَرة أو فتاوى تحريم، بدلًا من قراءتها والرّدّ عليها بهدوء ومصداقيّة وحياديّة وفقًا لما سبق أن تعلّموه في الموادّ الدّراسيّة الخاصّة بمنهجيّة الحوار وآدابه.

 

رغبتهم في التّمويه والتّماهي مع المجموعة عندما يكون أعضاؤها في وضع اجتماعيّ أعلى، وينظر النّاس إليهم على أنّهم أقوى أو أشدّ نفوذًا أو سيطرة على مقاليد الحكم في البلاد. أو رغبة في شدّ العصب الطّائفيّ عندما يشعرون بفقدانهم امتيازاتهم الطّائفيّة السّابقة.

 

رغبتهم في التّشابه أو التّقليد مع المجموعات المحيطة فيتبنّون تصرّفاتهم، وينصاعون إلى التّعبير عن مشاعرهم وحزنهم وبكائهم أو يبادرون إلى الهتاف وراءهم بجُمل جاهزة ومعلّبة في مهرجاناتهم وخطاباتهم. كما يميلون في حياتهم العامّة إلى رأي المجموعة عند المفاضلة، فيختارون المطعم أو المقهى المدعومَ من طوائفهم، أو يفضّلون شراء سلعة لكثرة الأشخاص الّذين يشترونها من مجموعتهم، وليس بناءً على السّعر والميول الشّخصيّة، إضافة إلى وضعهم شعاراتٍ ورموزًا دينيّة ومنها ارتداء غطاء الرّأس، أو قمصان وقبّعات بلون معيّن توحي بانتمائهم إلى مجموعتهم الدّينيّة أو الحزبيّة. ناهيك عن تحريم وتجريم الاستماع إلى أغانٍ وموسيقى معيّنة أو العكس كالتّشجيع على الاستماع إليها ولو كانت كلماتها تحريضيّة، لمجرّد أنّها رائجة لدى مجموعتهم.

 

 

استراتيجيّات التّحكّم في الشّعوب

 

يُضاف إلى العوامل السّابقة الّتي تؤثّر في اتّخاذ القرارات، استراتيجيّات التّحكّم في الشّعوب. فليس كلّ ما يتمّ تداوله عبر وسائل الإعلام يقتضي قبوله كما هو، أو أنّه يمثّل الحقيقة الكاملة. فالرّأي العامّ ينمو، ويتمّ تسويقه وَفق ما يخطِّط له أصحاب السّلطة، ويُخفونه في أجنداتهم السّرّيّة عبر استخدامهم وسائل الإعلام والدّعاية، فتولد بنتيجة هذه الاستخدامات حركات اجتماعيّة معيّنة وتندثر أخرى كانت بالأمس ناشطةً ورائجة، كما تُسعَّر أزمات سياسيّة أو اقتصاديّة أو فتن دينيّة يتمّ إطفاؤها أو إشعالها، أو تُبرّر حروب وصراعات، أو تبرم اتّفاقات هدنة وسلام واستقرار.

 

في العام 1956، كتب الفيلسوف الألمانيّ Gunther Anders في كتابهL'obsolescence de l'homme :

 

"لخنق أيّ ثورة مقدّمًا، يجب علينا قبل كلّ شيء عدم إجهاضها بطريقة عنيفة. من الواضح أنّ الأساليب القديمة مثل تلك الّتي اتّبعها "هتلر" قد عفا عليها الزّمن. كلّ ما يتعيّن علينا القيام به هو خلق تكييف جماعيّ من خلال خفض مستوى جودة التّعليم بشكل كبير، لإعادته إلى شكل من أشكال الانخراط المهنيّ.

 

"إنّ الفرد غير المتعلّم ليس لديه سوى أفق فكريّ محدود، وكلّما كان تفكيره مقتصرًا على الاهتمامات المادّيّة المتوسّطة، قلّت قدرته على التّمرّد. يجب أن نضمن أنّ الوصول إلى المعرفة يصبح أشدّ صعوبة ونخبويّة... وأن تتّسع الفجوة بين النّاس والعلم، وأنّ المعلومات المخصّصة لعامّة النّاس يجب أن يتمّ تجريدها من أيّ محتوى ذي طبيعة تخريبيّة.

 

"وهنا مرّة أخرى، يجب علينا استخدام الإقناع وليس العنف المباشر: سوف نبثّ على نطاق واسع، عبر التلفزيون، وسائل ترفيه تخدّر العقول، ونتملّق دائمًا العاطفة والغريزة.

 

"سوف نشغل العقول بما هو عديم الجدوى والمرح. إنّه أمر جيّد مع الثّرثرة والموسيقى المتواصلة لمنع العقل من التّساؤل والتّفكير والتّأمّل.

 

"سنضع الحياة الجنسيّة في مقدّمة الاهتمامات الإنسانيّة. كمخدّر اجتماعيّ، لا يوجد شيء أفضل من ذلك. على العموم، سنحرص على نفي الجدّيّة من الوجود، والسّخرية من كلّ ما له قيمة عالية، والحفاظ على الاعتذار الدّائم عن الخفّة؛ "حتّى تصبح نشوة الإعلان والاستهلاك معيار السّعادة الإنسانيّة ونموذج الحرّيّة"".

 

 

الاستراتيجيّات العشرة للتّحكّم في الشّعوب

 

على الخطى نفسها هناك ما بات يُعرف بالاستراتيجيّات العشر للتّحكّم في الشّعوب والّتي ذكرها نعوم تشومسكي معتمدًا في دراسته على وثيقة سرّيّة يعود تاريخها إلى أيّار العام 1979، وتمّ العثور عليها في العام 1986، وتحمل عنوان: "الأسلحة الصّامتة لخوض حرب هادئة"، وهي عبارة عن كتيّب أو دليل للتّحكّم في البشر والسّيطرة على المجتمعات.

 

من هذه الاستراتيجيّات ما يسمّيه تشومسكي باستراتيجيّة الإلهاء، ويقصد بها إلهاء انتباه الشّعوب بالقضايا والتّغييرات الاجتماعيّة المهمّة الّتي تحدّدها النُّخب السّياسيّة والاقتصاديّة والدّينيّة، من خلال تصدير كمٍّ كبير من الإلهاءات والمعلومات التّافهة وتحويل انتباه الرّأي العامّ بعيدًا من المشاكل الاجتماعيّة الحقيقيّة، فيبقى الجمهور مشغولًا بها من دون أن يكون لديه أيّ وقت للتّفكير والتّحليل، فقط يعود إلى "المزرعة مع غيره من الحيوانات الأخرى"، وَفق ما تمّ ذكره في تلك الوثيقة.

 

من هذه الإلهاءات في مجال الحوار والعيش المشترك إلهاءات متخفّية تحت ستار عناوين معيّنة معدّة للتّأثير في مجموعات من الأفراد، ومنها ما بات يُعرف بعقدة الخوف من الآخر مثل إحداث تغيير ديموغرافيّ لطوائف معيّنة بهدف السّيطرة، وما يتمّ استغلاله لشدّ العصب الطّائفيّ من طريق رفع شعار حقوق المسيحيّين المنهوبة وما يقابله في الطّرف الآخر من طرح موضوع حقوق المسلمين الضّائعة، وضرورة اتّحاد الأقلّيّات للحدّ من "التّسونامي" الّذي تُحدثه الطّائفة الأكثر عددًا على الصّعيد الإقليميّ، والمناداة بانتخاب رئيس مسيحيّ قويّ، وما يقابله من حقوق رئيس مجلس الوزراء المسلم السّنّيّ، إضافة إلى حقوق الشّيعة الثّابتة في التّشكيلات الوزاريّة، وحقوق الدّروز في رئاسة مجلس الشّيوخ المنتظرة، ومقولة الوطن والجيش والمقاومة لإضفاء شرعيّة حمل السّلاح بدواعي مقاومة الاحتلال...إلخ. ليست هذه الطّروحات بهذه العناوين في حدّ ذاتها إلهاءات، فهي جدّيّة ومتداولة، ولكن يُقذف بإلهاءات فرعيّة كثيرة تحت هذه العناوين المعلَنة للوصول إلى أهداف أخرى غير معلَنة.

 

من هذه الاستراتيجيّات ما يُسمّى بخلق المشكلة والمطالبة باعتماد الحلّ المطروح، فتستخدِم بعضُ الدّول والمنظّمات الدّوليّة هذه الاستراتيجيّة عندما تريد تمرير قرارات معيّنة قد لا تحظى بإجماع شعبيّ عارم في بلد معيّن. فمن خلال خلق عدّة مشاكل جوهريّة في هذا المجتمع "الضّحيّة"، تستدعي ردّ الجمهور تلقائيًّا وتجعلهم يطالبون باتّخاذ قرارات معدّة لهم سلفًا وجاهزة لحلّ الأزمة، وتُعرف بطريقة "المشكلة – ردّ الفعل – والحلّ". على سبيل المثال: تحريك الشّارع في المناطق الآمنة بناءً على إشارات وتحضيرات لاعتداءات طائفيّة عنيفة أو عاطفيّة جيّاشة، ما يستلزم خلق وحدات أمنيّة خاصّة. والسّؤال هنا مَن هو المحرّك الّذي يقف وراء هذا التّجييش العاطفيّ أو الهجوميّ، ومَن هم المحرّكون الجاهزون لردود الفعل على هذا التّجييش الدّفاعيّ؟ ومن الأمثلة الّتي تُطرح : إثارة موضوعات العنف الأسريّ والمصاعب الّتي يواجهها بعضهم في معاملات الطّلاق وحضانة الأولاد والزّواج المبكّر وتضخيم هذه الموضوعات الّتي تعاني منها المجتمعات كافّة، ووضعها في خانة مسؤوليّة المحاكم الشّرعيّة والرّوحيّة. أو حديثًا، إثارة موضوع العنف المستخدَم ضدّ المثليّين ومنعهم من إقامة مهرجاناتهم بداعي عدم احترام حرّيّة الرّأي والتّعبير، وإلصاقها برجال الأمن ومَن يقف وراءهم من مرجعيّات دينيّة، ما يستدعي بثّ الأفلام والدّعايات السّينمائيّة والتّلفزيونيّة الّتي تتخلّلها لقطات عن علاقات حميمة تجمع بين مثليّين من كلا الجنسين، وكأنّها نابعة من ميول طبيعيّة لا استثنائيّة ولا شاذّة. فيتمّ إزاء ذلك تجييش أساليب عديدة تمهّد قبول هذه الظّاهرة في المجتمعات الدّينيّة والثّقافيّة المحافِظة والرّافضة هذا النّوع من الإباحيّات الجنسيّة، ويتمّ تحضير الرّأي الشّبابيّ والعلمانيّ لمهاجمة المؤسّسات الدّينيّة والتّحريض عليها بالمطالبة بإلغاء المحاكم الشّرعيّة والرّوحيّة والتّرويج للزّواج المدنيّ وإقرار زواج المثليّين. كما يتبع باقي استراتيجيّات التّحكّم بالشّعوب ترويض الجماعات الدّينيّة واستدراجها إلى حيث يشاء أصحاب القرارات في العالم.

 

 

بعض الحلول للحدّ من ظاهرة التّحكّم بالشّعوب

 

يتطلّب الأمر في مواجهة هذه الظّاهرة سرعة إدراكها وحسن التّخطيط ووضع الإرشادات اللّازمة للتّصدّي لها. فمن المؤسف التّركيز مثلًا على إرشادات السّلامة الّتي تعتمدها مؤسّسات التّأمين للكشف الدّوريّ من أجل التّأكّد من سلامة الغابات والمباني السّكنيّة وجهوزيّتها لتأمين الحماية من الحرائق، في حين لا يوجد أيّ اهتمام من الطّوائف أو الجامعات الدّينيّة أو المؤتمرات الحواريّة بالكشف عن المخاطر والتّحدّيات وخفايا منهجيّة القطيع واستراتيجيّات تطويع الشّعوب، والّتي يمكن أن تُشعِل الأزمات بين أتباع الدّيانات وتؤدّي إلى العنف والعنف المضادّ في حال انتشارها وتوسّع رقعتها، من دون أن ننسى أنّ ضحايا الحرائق لا يشكّلون إلّا نسبة ضئيلة جدًّا مقارنةً بضحايا العنف والإرهاب الدّينيّ. ومن دون أن ننسى أيضًا أنّ بعض مُشعِلي النّار الّذين أوقفتهم الشّرطة في فرنسا مثلًا منذ عامين هم مجموعة من رجال الإطفاء أنفسهم، كما أنّ بعض مُشعِلي الفتن الدّينيّة هم من رجال الدّين، والأمثلة كثيرة جدًّا في جميع الدّيانات، ويكفي أن نذكر ما قام به الحاخام مائير كاهانا مؤسّس حركة كاخ الإرهابيّة ومسؤوليّته في مجزرة الحرم الإبراهيميّ، ومؤخّرًا حملة الكاهن البوذيّ ويراثو ضدّ مسلمي بورما... وغيرهم الكثير.

 

من بوادر الحلول على الصّعيد الأكاديميّ التّيقّظ أوّلًا من خطورة التّنشئة الأحاديّة في طرق التّدريس، فإذا أخذنا مثلًا ما تقوم به المعاهد والجامعات الدّينيّة حين تُبدع في تدريس الموادّ التّخصّصيّة لعلومها الدّينيّة، عندما تضيف إليها علم مقارنة الأديان والحوار الدّينيّ، والمدخل إلى دراسة العقيدة...إلخ، وهي موادّ تدخل في خصوصيّات الأديان، فيشكّل التّعرّض لها من غير الاختصاصيّين نشوء مفاهيم خاطئة ومعاكسة ومناقضة للدّين الآخر. والأمثلة على ذلك كثيرة، ففي إحدى الزّيارات المفيدة جدًّا زارتني مجموعة من الطّلبة اللّاهوتيّين في نهاية سنة تخرّجهم، وأحببتُ أن أدفعهم كعادتي إلى مصارحتي بكلّ الأمور السّلبيّة الّتي لديهم بعد دراستهم الإسلام من طريق أحد الآباء، ففوجئتُ بهذا الكمّ الهائل من الأخطاء الّتي تراكمت لديهم في سنوات دراستهم. وما يُقال عن المعاهد اللّاهوتيّة المسيحيّة يُقال أيضًا عن المعاهد الشّرعيّة الإسلاميّة.

 

يضاف إلى هذه القائمة من الموادّ القابلة "للاشتعال" أنّ بعض النّصوص الدّينيّة قد تكون مجرِّحة ومهينة بحقّ دين معيّن وقابلة لإثارة الفتن، فتدريسُها يحتاج إلى تنبيه وحنكة وحُسن اختيار وتدبّر.

 

وفي السّياق نفسه ينضمّ بعض المفردات الدّينيّة إلى قائمة هذه الموادّ الخطيرة، مثل تسمية المسيحيّين بالنّصارى وأنّهم أهل كتاب وذمّيّون وأنّ عليهم الجزية وأنّ عليهم دفعها وهم صاغرون، وتسمية المسلمين بالمحمّديّين ونعتهم بصفات سيّئة، فيكون من الأجدى أن تقوم المشاريع التّطويريّة بتجميع هذه المفردات الاستفزازيّة واستبدالها بمفردات آمنة داخل قاموس واحد وتدريسها على الطّلبة في المعاهد الدّينيّة واللّاهوتيّة.

 

ويأتي بعد ذلك وضع النّصوص الدّينيّة المثيرة للجدل والأحقاد في سياقها التّاريخيّ، فكثير من هذه النّصوص كتبت في أزمنة الفتن والحروب وتكاد تسمع بين سطورها خفق الرّايات ودقّ الطّبول وتناثر غبار ورمال أحصنة المقاتلين وبريق سيوفهم. فهذه النّصوص كانت قد كُتبت في زمان تسيطر عليه عادات وتقاليد في السّياسة والسّيادة والتّوسّع والفتح والاحتلال تختلف عن زماننا الّذي أصبحت لدينا فيه قوانين ومنظّمات ومحاكم دوليّة.

 

السّؤال الّذي يطرح نفسه في هذا المجال: وماذا لو قمنا بتدريس مادّة "منهجيّة إطفاء الحرائق الدّينيّة"، طبعًا ليس بهذه التّسمية التّبسيطيّة ولكن بما يعنيه مضمونُها من تحديد وتحييد الموادّ القابلة للاشتعال وضرورة وضعها في أماكن بعيدة عن متناول النّاس الّذين ليس لديهم خبرة بها، ومن دراسة آليّة الوقاية من نشوء الأزمات.

 

ما أقوله عن هذه الموادّ القابلة للاشتعال أقوله أيضًا عن الأشخاص الّذين ينخرطون للدّراسة في هذه المعاهد الدّينيّة من ضرورة التّنبّه لاختيارهم وذلك بإخضاعهم إلى تحليل نفسيّ شرط قبولهم في الدّراسة.

 

هذه المنهجيّات الأكاديميّة لن تكفي وحدها لدرء المخاطر وتحدّيات سياسة القطيع واستراتيجيّات التّحكّم بالشّعوب، بل يجب أن ترافقها أعمال فنيّة ومسرحيّات وبرامج ودعايات تلفزيونيّة، إلى جانب تجييش الأطبّاء وعلماء النّفس وكلّ الاختصاصات العلميّة المؤيّدة هذه الطّروحات لنشر التّوعية وإشراكهم في إيجاد الحلول للتّخفيف من مخاطر هذه الانزلاقات في مجتمعاتنا المحافِظة والرّافضة حملات التّضليل والفلتان التّحرّريّ المفسِد للمجتمعات والعلاقات الأسريّة.

 

(دار المشرق)