موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الثلاثاء، ٣٠ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٥
الحركة المسكونية: من الانقسام إلى الرجاء

الأب د. ريمون جرجس الفرنسيسكاني :

 

مقدّمة

 

شهدت الكنائس المسيحية، على امتداد قرون طويلة، انقسامًا تأسّس على موقفها من مجمع خلقيدونية؛ إذ قبلته بعض الكنائس ورفضته أخرى. ومن المؤكد أن هذا الانقسام المؤلم لم يكن قائمًا على أسس لاهوتية راسخة، بل على أسباب محدودة الصلابة. فقد رأى يوحنا الدمشقي أن المسيحيين غير الخلقيدونيين، رغم رفضهم لقرارات المجمع المسكوني الرابع، كانوا "أرثوذكسيين في كلّ ما تبقّى". وقد تبنّى هذا الرأي عدد من المفكرين في علم الكرستولوجيا عبر العصور. فعلى سبيل المثال، في القرن السابع عشر، اعتبر كريستوف رودريك، وهو راهب كاثوليكي مقيم في القاهرة ومبعوث حبري، أن الأقباط يميلون إلى استبعاد "ثنائية الطبيعة" بالمعنى النسطوري، كما ظهر في مراسلاته مع روما وطريقة تعبيره عن السلطة التراتبية القبطية. وقد أشار إلى أن الأقباط قبلوا بتعاليم مجمع خلقيدونية، وكانوا يسعون إلى توضيح موقفهم بشكل أدق.

 

أما مجمع القسطنطينية (879–880)، الذي أبطل المجمع السابق (869–870) – والذي كان قد أكد رغبة كنيسة روما في تعزيز الأولوية البابوية في الشرق وتحويل الشركة بين الكنائس إلى مؤسسة سلطوية جامعة خاضعة للحبر الروماني – فقد أشار إلى أولوية القسطنطينية، وبالتالي إلى إمكانية مساواة البطريرك بأسقف روما بطريقة ما. كما عكس هذا المجمع رغبة في الحد من الإجراءات المركزية التي كانت تديرها الكنيسة الرومانية، والتي تُعد من الأسباب الجوهرية لانقطاع العلاقة بين الكنيسة اللاتينية والكنائس الشرقية.

 

 

مصطلح الحركة المسكونية

 

تُعرّف الحركة المسكونية، في مفهومها الكلاسيكي، بأنها "الجهود المبذولة من أجل وحدة المسيحيين"، بين الكنائس والجماعات الكنسية، بهدف استعادة الشركة المرئية الكاملة فيما بينهم. وتتنوع أشكال هذه الحركة، وتشمل المؤتمرات اللاهوتية، ودوائر الحوار، والمطبوعات المتخصصة. وتعود جذور الحركة المسكونية إلى بدايات المسيحية، حيث تستلهم من حياة المسيح، ومن الكتاب المقدس، ومن آباء الكنيسة ومن السنوات الأولى لتاريخ الكنيسة. ولهذا السبب، نجد في بيانات الحوارات المسكونية ارتباطًا وثيقًا بالكتاب المقدس، واستنادًا إلى تقاليد الكنيسة الأولى.

 

أما مصطلح "المسكونية"، فيعود إلى الكلمة اليونانية "oikéo"، المشتقة من "أويكين" بمعنى السكن، و"أويكوس" بمعنى البيت، وقد اكتسبتا معاني متعددة عبر التاريخ. وقد استخدم المسيحيون هاتين الكلمتين للإشارة إلى الكنيسة باعتبارها بيت المسيح الكبير. ويُذكر هذا المصطلح في العهد الجديد خمس عشرة مرة، لا سيما في تعبير"ecumene"  أي العالم (متى 24:14، لوقا 2:01، لوقا 4:5). وقد اكتسب هذا التعبير في تاريخ الكنيسة الأولى معنى أكثر تحديدًا، إذ أُطلقت تسمية "المجامع المسكونية" على المجامع العامة. وفي الكنيسة الشرقية، لا يزال يُطلق على بطريرك القسطنطينية لقب "البطريرك المسكوني". أما في الغرب، فقد شاع استخدام مصطلح "كاثوليك"، المأخوذ من اليونانية "كاثا" و"أولوث" (kata e òlos)، أي "يخصّ الكلّ، العام، الجامع"، وانتشر أكثر من مصطلح "مسكوني". وقد بدأ استخدام مصطلح "المسكوني" في الكنيسة الكاثوليكية في خمسينات القرن العشرين، رغم أن بعض اللاهوتيين استخدموه في الأربعينات. إلا أن استخدامه كان محظورًا عمومًا بسبب منع الكاثوليك من المشاركة في الحركة المسكونية. وظهر الحديث عن "إعادة التوحيد في الإيمان" لأول مرة عام 1949 في وثيقة صادرة عن الفاتيكان، بطريقة إيجابية.

 

 

الجذور التاريخية للحركة المسكونية

 

يمكن تأريخ نشأة الحركة المسكونية إلى عام 1910، وهو تاريخ انعقاد المجلس الإرسالي في إدنبره وهامبورغ، حيث اجتمع أكثر من 1300 ممثل عن الجمعيات التبشيرية البروتستانتية، سعياً لإيجاد سبل لمعالجة الفضائح والأضرار الناتجة عن الانقسامات بين الكنائس. وفي كانون الثاني من عام 1920، وجّه بطريرك القسطنطينية الأرثوذكسي رسالة إلى جميع الكنائس المسيحية في العالم، تبعتها في مطلع الصيف من العام ذاته مبادرة جديدة من الأسقفية الأنغليكانية، عبر الأسقف تشارلز برينت، الذي كان مبشّرًا في الفلبين. وقد أثار في إدنبره تساؤلاً جوهريًا: هل ثمة حاجة ملحّة لعقد مجمع عام يضمّ جميع المسيحيين، لمناقشة أسباب الانقسام في الإيمان، ودراسة البنية الكنسية المتنوعة، والبحث عن انسجام في الشهادة المسيحية؟

 

من هذه الفكرة نشأت حركة "الإيمان والتأسيس. وفي السياق ذاته، أسّس الأسقف اللوثري ناثان سودربلوم حركة "الحياة والعمل"، التي دعت إلى التعاون العملي في الأعمال الخيرية بين المسيحيين، بعيدًا عن المواجهة اللاهوتية. ومنذ ذلك الحين، سارت الحركة المسكونية على مسارين رئيسيين: الأول هو الحوار اللاهوتي، والثاني يُعرف بالمسار العملي. بدأ المسار الأول عام 1927 في لوزان، مع تأسيس حركة "الإيمان والتأسيس"، التي هدفت إلى مناقشة القضايا اللاهوتية التي تفرّق المسيحيين. أما المسار الثاني، فقد تمثّل في حركة "الحياة والعمل" التي انطلقت من ستوكهولم عام 1925، مستندة إلى فكرة أن الحب والعلاقات والصلاة المشتركة هي التي توحّد، لا اللاهوت وحده. ومع مرور الزمن، تقاربت الحركتان وتكاملتا؛ إذ تهتم "الحياة والعمل" بحضور الكنائس وأعمالها في العالم، بينما تواجه "الإيمان والتأسيس" مباشرةً الاختلافات العقائدية.

 

أما فكرة تأسيس مجلس الكنائس العالمي، فقد تحققت رسميًا في أمستردام عام 1948، بمشاركة أولية من 147 كنيسة. لا يهدف هذا المجلس إلى إنشاء كنيسة جديدة، بل إلى تشكيل رابطة أخوية بين الكنائس التي تعترف بيسوع المسيح ربًا ومخلّصًا. وتقوم الفكرة على توفير فضاء مشترك لجميع المسيحيين، حيث يرشد الروح القدس نحو مسار الوحدة، دون أن يحلّ المجلس محلّ الكنائس نفسها.. وللتأكيد على هذا المبدأ، أصدرت كنائس المجلس في تورنتو عام 1950 بيانًا مشتركًا جاء فيه: "لا يسعى المجلس إلى انتزاع أي من وظائف الكنائس أو السيطرة عليها أو التشريع لها. وبينما يعمل فعليًا على خلق وحدة في الفكر والعمل بين أعضائه، فإنه يرفض أن يتحوّل إلى هيئة كنسية موحّدة مستقلة عن الكنائس الأعضاء أو خاضعة لسلطة إدارية مركزية. بل يأمل في توحيد الكنائس على نحو أوثق مع المسيح، من خلال تقاربها بعضها من بعض. فالمجلس هو استجابة مؤقتة للانقسامات التي تفصل الكنائس، وهي انقسامات لا ينبغي أن تكون قائمة، لأنها تتنافى مع طبيعة الكنيسة".

 

الحركة المسكونية، التي بدأت كمبادرة متواضعة في مطلع القرن العشرين، قد تحوّلت تدريجيًا إلى أحد المحاور الأساسية في حياة الكنيسة الكاثوليكية، لا سيما بعد المجمع الفاتيكاني الثاني (1962–1965)، الذي شكّل نقطة تحوّل تاريخية في فهم الكنيسة لذاتها ولعلاقتها بالآخرين. ففي الوثيقة وحدة المسيحيين (Unitatis Redintegratio)، أعلن المجمع بوضوح أن "استعادة الوحدة بين جميع المسيحيين هي من بين أهم أهداف المجمع المقدّس"، مؤكّدًا أن الانقسامات لا تتوافق مع إرادة المسيح، وأن الكنيسة مدعوّة إلى السير في طريق الحوار، التوبة، والصلاة المشتركة. وفي هذا السياق، لم تعد الكنيسة الكاثوليكية تنظر إلى الوحدة على أنها عودة الآخر إلى حضنها، بل على أنها مسيرة مشتركة نحو المسيح، حيث يُحتفل بالتنوع في إطار الشركة، ويُنظر إلى الطقوس والتقاليد المختلفة على أنها تعبيرات متعددة عن الإيمان الواحد. لقد أصبح الحوار المسكوني اليوم يشمل الجوانب اللاهوتية، والروحية، والثقافية، والاجتماعية، ويُبنى على الاحترام المتبادل، والاعتراف بالهبات، والتعاون في خدمة الإنسانية.

 

 

الحركة المسكونية والباباوات

 

في ضوء ثقافة السلطة البابوية في تلك الحقبة، يمكن الاستشهاد بثلاث وثائق أساسية صادرة عن البابا بنديكتوس الرابع عشر، وهي: الدستورEtsi Pastoralis  بتاريخ 26 أيار 1742، الرسالة العامةDemandatam Coelitus  بتاريخ 24 كانون الثاني 1743، والدستورAllatae Sunt  بتاريخ 26 تموز 1755. هذه الوثائق تعكس سعي الباباوات إلى الحفاظ على وجود الكنائس الشرقية، لا سيما في مواجهة الضغوط والهجمات التي كانت تُشنّ أحيانًا من قبل بعض ممثلي السلطة اللاتينية. وقد أكّدوا في الوقت ذاته على حق هذه الكنائس في الاحتفاظ بطقوسها الليتورجية ونظامها الخاص، بما في ذلك تقليد الكهنوت المتزوج، وصولًا إلى الاعتراف التدريجي بحكم ذاتي.

 

وإن كان من الصحيح أن الكنيسة الكاثوليكية قد شهدت انطلاقة قوية في مجال الحركة المسكونية مع المجمع الفاتيكاني الثاني (1962–1965)، فإن من الإنصاف أيضًا الإقرار بأن الاهتمام بمبدأ الوحدة داخل الكنيسة الكاثوليكية كان حاضرًا قبل ذلك بوقت طويل، من خلال جهود الباباوات واللاهوتيين. فقد شجّع الأحبار الرومانيون قبل المجمع الفاتيكاني الثاني على الصلاة من أجل الوحدة، وأطلقوا "أسبوع الصلاة من أجل وحدة المسيحيين". لأن وحدة الكنيسة موجودة بالفعل. فالوحدة «التي منحها المسيح لكنيسته منذ البداية، [...] نحن نؤمن بأنها قائمة، ولا يمكن أن تُفقد، في الكنيسة الكاثوليكية، ونأمل أن تنمو يومًا بعد يوم حتى نهاية الدهور". ولهذا نعلن في قانون الإيمان: "أؤمن بالكنيسة الواحدة..."، وهذه الكنيسة الواحدة قائمة في الكنيسة الكاثوليكية. وما ينقص هو وحدة المسيحيين.

 

سعى البابا ليون الثالث عشر (1878–1903) إلى خلق مناخ جديد من الاحترام والصداقة مع الكنائس الأرثوذكسية. ففي رسالتهPraeclara Gratulationis Publicae  عام 1894، عبّر عن أمله في أن "اليوم ليس بعيدًا عندما تعود الكنائس الشرقية، ذات الإيمان العريق والماضي المجيد، إلى الحظيرة التي غادرتها"، مؤكدًا أن "المسافة التي تفصل بيننا ليست كبيرة". وفي رسالته الرسوليةOrientalium Dignitas  بتاريخ 30 تشرين الثاني من العام ذاته، أعرب عن رغبته في أن يكون الكاثوليك من الطقوس الشرقية وسطاء بين الشرق والغرب، وصانعي سلام بين الكنائس الشرقية والكنيسة اللاتينية. وقد شدّد على أهمية الحفاظ على الطقوس الشرقية، معتبرًا أنها "زينة للكنيسة بأسرها وشهادة على وحدة الإيمان الكاثوليكي"، وأنها "تُظهر مفهوم الشمولية في كنيسة الله من خلال تنوّعها اللغوي والشكلي، وتقديسها التاريخي عبر استخدام الرسل وآباء الكنيسة". وفي Praeclara Gratulationis، أكّد البابا ذاته على مبدأ الوحدة في التنوع، لا الوحدة في التوحيد، بقوله: "لا داعي للخوف... نحن أو أي من خلفائنا لن نقلّل من حقوقكم، أو امتيازات بطاركتكم، أو الطقوس المتّبعة في كنائسكم". كما وجّه عام 1895 رسالةAmantissima Voluntatis  إلى المسيحيين غير الكاثوليك، واصفًا إياهم بـ"الإخوة المنفصلين"(fratribus dissidentibus) . وفي عام 1898، أرسل رسالة عامة إلى الأساقفة الكاثوليك في اسكتلندا، أشاد فيها بالبروتستانت لخشوعهم ومحبتهم للكتب المقدسة، قائلاً: "هم يتفقون مع الكنيسة الكاثوليكية في احترامهم للكتاب المقدس... فلماذا لا تكون هذه نقطة انطلاق نحو الوحدة؟". وأضاف أنهم "يحبون بصدق اسم المسيح ويسعون لتأكيد تعاليمه والاقتداء بمثاله المقدّس".

 

البابا بيوس الحادي عشر، الذي لُقّب بـ"بابا الشرق"، خاصة بعد صدور رسالته العامةRerum Orientalium  في 8 أيلول 1928، والتي دعا فيها الأساقفة والرؤساء الرهبانيين إلى توفير التسهيلات اللازمة في الكليات والمعاهد لدراسة القضايا الشرقية، ولا سيما الطقوس الشرقية، وذلك لفائدة الكهنة الغربيين أيضًا، وليس فقط الشرقيين. وفي هذه الرسالة، عبّر بوضوح عن تقديره لحياة النعمة والقداسة في الكنائس الشرقية المنفصلة، مشيرًا إلى حفظها الأمين لجزء كبير من الوحي، وإلى مظاهر التقوى والمحبة نحو المسيح وأمه الطاهرة، والاستخدام الورع للأسرار المقدسة. وتُعد الرسالة العامةMortalium Animos  التي أصدرها عام 1928 من أبرز الوثائق التي تعكس موقف الكنيسة الكاثوليكية من الحركة المسكونية وأعطت دفعًا قويًا لمسار الوحدة بين المسيحيين. إذ اعتبر أن الحركة "تسعى إلى توحيد الكنائس على أسس المحبة والعقائد". ورغم هذا الانفتاح، ظل البابا بيوس الحادي عشر يؤكد أن الكنيسة الكاثوليكية وحدها تتمتع بكامل الهبات والمعونات السماوية، داعيًا الجميع إلى العودة إلى "كنيسة الأم". وقال في هذا السياق: "من الواضح أن الكرسي الرسولي لم يسمح أبدًا لأتباعه بالمشاركة في اجتماعات غير الكاثوليك. لا توجد إلا طريقة واحدة لإعادة وحدة المسيحيين، وهي العودة السريعة إلى كنيسة المسيح الوحيدة التي انفصلوا عنها".

 

بينما البابا بيوس الثاني عشر فقد ذهب خطوة أبعد، إذ أيّد الحركة المسكونية صراحةً في رسالة عام 1950، مؤكدًا أنها ثمرة عمل الروح القدس، ونشر سلسلة من الوثائق البابوية بهذا الخصوص. وفي رسالتهOrientalis Ecclesiae  بتاريخ 9 نيسان 1944، شدّد على ضرورة أن تتمتع كل أمة من الطقوس الشرقية بحريتها الخاصة، بما يتناسب مع تاريخها وطابعها، مع الحفاظ على الحقيقة الكاملة المرتبطة بعقيدة يسوع المسيح. وأكّد أن هذه الكنائس لن تُجبر على التخلي عن طقوسها المشروعة أو تغيير تقاليدها الموقّرة لتتماهى مع الطقوس اللاتينية، بل يجب أن تُحترم وتُعامل بكرامة ومساواة.

 

وقد تبنّى البابا يوحنا بولس الثاني هذا التوجّه بروح نبوية، فجعل من المسكونية محورًا لرسالته البابوية. ففي رسالته العامة Ut Unum Sint (1995)، شدّد على أن "الالتزام بالوحدة هو واجب لا رجعة فيه"، واعتبر أن الحوار المسكوني ليس خيارًا ثانويًا، بل هو تعبير جوهري عن طبيعة الكنيسة. وقد دعا إلى الاعتراف المتبادل بالهبات الروحية واللاهوتية الموجودة في الكنائس الأخرى، مشيرًا إلى أن "كل ما هو حقّ، وكل ما هو مقدّس، وكل ما هو صالح في هذه الكنائس، هو من عمل الروح القدس". أمَّا البابا بندكتوس السادس عشر، فقد واصل هذا المسار بروح لاهوتية عميقة، مؤكدًا أن المسكونية لا تعني التنازل عن الحقيقة، بل البحث عنها معًا في نور المسيح. وفي خطابه إلى المشاركين في أسبوع الصلاة من أجل وحدة المسيحيين عام 2012، قال: "الوحدة لا تُبنى على التسويات، بل على الحقيقة التي تحرّر". وقد شدّد على أهمية العودة إلى الجذور المشتركة، لا سيما الكتاب المقدس وآباء الكنيسة، باعتبارها أرضية خصبة للحوار الصادق والمثمر.

 

إنّ البابا فرنسيس، في استمراره لنهج أسلافه، يضع المسكونية في قلب العمل الرعوي والرسولي للكنيسة. وقد عبّر عن ذلك بوضوح في لقائه مع البطريرك المسكوني برثلماوس، وفي زياراته إلى الكنائس البروتستانتية والشرقية، حيث أكّد أن "الاختلافات اللاهوتية لا يجب أن تمنعنا من أن نكون إخوة في المسيح، وأن نعمل معًا من أجل العالم الذي يحتاج إلى شهادة مشتركة". ففي زيارته إلى السويد عام 2016 بمناسبة الذكرى الـ500 للإصلاح اللوثري، قال: "لا يمكننا أن نكون مسيحيين حقيقيين إذا لم نسعَ إلى المصالحة والوحدة". كما أكّد في مناسبات عديدة أن "المسكونية هي مسيرة، وليست حدثًا"، وأنها تتطلب التواضع، الإصغاء، والاعتراف المتبادل بالخطايا والتاريخ.

 

 

الخاتمة

 

إنّ تعاليم هؤلاء الباباوات، المستندة إلى روح المجمع الفاتيكاني الثاني، قد أعادت تشكيل مفهوم الوحدة المسيحية، من نموذج العودة الأحادية إلى الكنيسة الكاثوليكية، إلى نموذج الشركة المتبادلة، حيث يُنظر إلى الكنائس الأخرى لا كخصوم، بل كشركاء في الإيمان، يحملون تراثًا غنيًا من النعمة والقداسة. لقد أصبح الحوار المسكوني اليوم دعوة إلى السير معًا، لا إلى الاندماج القسري، بل إلى التلاقي في المسيح، الذي هو رأس الكنيسة الواحدة. في ضوء هذه الرؤية، يمكن القول أنَّ الكنيسة الكاثوليكية مدعوّة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى أن تكون جسرًا بين التقاليد، وبيتًا مفتوحًا للحوار، ومكانًا للشفاء والمصالحة، حيث يُبنى جسد المسيح الواحد من خلال التنوع، ويُحتفل بالوحدة كعطية إلهية، لا كمشروع بشري. إنّ المسكونية ليست فقط مسألة لاهوتية، بل هي أيضًا مسألة حياة، ومسيرة أمل، نحو كنيسة واحدة، مقدّسة، جامعة، ورسولية، كما نعلن في قانون الإيمان، وكما نرجو أن تتحقّق في ملء الزمان، لمجد الله وخلاص العالم. والكنيسة الكاثوليكية، رغم التحديات اللاهوتية والتاريخية، دخلت مرحلة جديدة من الانفتاح المسكوني، حيث تُبنى الوحدة على أسس الحقيقة والمحبة، ويُنظر إلى التنوع لا كتهديد، بل كغنى يجب الاحتفاء به. كما شدّد البابا فرنسيس، فإن المسكونية ليست مشروعًا مؤسسيًا فقط، بل هي استجابة لصلاة المسيح "ليكونوا واحدًا" (يو 17: 21). يجب أن تُبنى على التواضع، والتوبة، والاعتراف المتبادل، والبحث عن المسيح في الآخر.

 

اليوم، لم تعد المسكونية مجرد حوار بين النخب اللاهوتية، بل أصبحت جزءًا من الحياة اليومية للكنائس، تتجلى في الصلاة المشتركة، والخدمة الاجتماعية، والتعاون في قضايا العدالة والسلام، والدفاع عن كرامة الإنسان. مما يعكس رغبة حقيقية في تجاوز الانقسامات التاريخية. ومع ذلك، لا تزال هناك تحديات كبيرة، أبرزها: كما ذكرها البابا بنديكتوس السادس عشر أن المسيحيين يزيدون اليوم من انقساماتهم، وذلك بشكل خاص لسببين: 1- بسبب "ما يُسمى بالأعمال النبوية المبنية على تفسير لا يتوافق دائمًا مع معطيات الكتاب المقدس والتقليد. ونتيجة لذلك، تتخلى الجماعات عن العمل كجسد موحد، وتفضل بدلاً من ذلك العمل وفق مبدأ الخيارات المحلية. 2- يعتقد كثير من المسيحيين أنه ينبغي "اتباع الضمير الشخصي واختيار الجماعة التي تتوافق أكثر مع الأذواق الفردية. والنتيجة تظهر في التكاثر المستمر للجماعات التي غالبًا ما تتجنب الهياكل المؤسسية وتقلل من أهمية المحتوى العقائدي في الحياة المسيحية. وحتى داخل الحركة المسكونية، قد يُظهر المسيحيون ترددًا في تأكيد دور العقيدة خوفًا من أن يؤدي ذلك إلى تفاقم الجراح بدلاً من معالجتها".