موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الإثنين، ٥ ابريل / نيسان ٢٠٢١
الجذور والمعاني: سلسلة مواضيع حول الصوم الكبير في المسيحية (2)
المرحلة الثّانية: تاريخية زمن الصّوم

إعداد الأب فارس سرياني :

 


4) نشأَة الصّوم الأربعيني

 

تحدّثنا في المرحلة الأولى من هذه السّلسِلة، عَن مَعنى الصّوم وأصولِه، خصوصًا مِنَ الكتاب المقدّس. كما سلّطنا الضّوء على بعض النّقاط التّنظيميّة والقَانونيّة الخاصّة بالصّوم والانقطاع أيضًا.

 

أمّا في هَذهِ المرحلة الثّانية، فَسَوف نَتَناول تَاريخيّة زمن الصّوم الأربَعيني، وقَد استَنبطّت قسمًا هامًّا من معلوماتِها، مِن مقالة للدّكتور Nicholas VRusso، بعنوان (The Early History of Lent/ التّاريخ المبكّر للصّوم). والدّكتور روسّو هو مساعد عميد كلّية الآداب في جامعة نوتردام الكاثوليكيّة، في ولاية إنديانا الأمريكية، ويحمل درجة الدكتوراه في الفَلسَفَة وفي تاريخ الّليتورجيّة. حيث تبحث مَقالته في النّشأة التّاريخيّة لهذا الزّمن.

 

الزّمن الأربعيني أو ما يُعرَف ب (Quadra-gesima) في الّلاتينيّة، أو (Tessara-kosti) في اليونانيّة، لَم يَنشأ، بِشَكله الحالي ومدّتِه الحالية، كَمَا نَعرفه اليوم، مرّةً واحدة. بَل كان نَتيجةَ قرونٍ من النّمو والتّطوّر، ومحصّلةَ أجيالٍ طويلة من الممارسات، الّتي كانت في البدايات منتشرة كَشَظايا متفرّقة، بين الجماعات المسيحية، حتّى أصبحت زمنًا عامًّا وعنصرًا من عناصر الوَحدة، يشترك فيه جميع المسيحيين، مَع وبعدَ، مجمع نيقيا في القرن الرّابع (325م).

 

ومِن خلال الكتابات التّاريخية، نجد أنّ الصّوم (كعادة وممارسة)، سواء كان ذلك قبل الفصح، أو في مناسبات أخرى، كان منتشرًا منذ بداية المسيحية. فَمِنَ الجماعات مَن كانَ يصوم قبل الفصح يومًا واحدًا ويومين، ومنها مَن يصوم ستّة أيام. ومنها أيضًا مَن كان يصوم أربعين يومًا، ولكن في تواقيت ومناسبات مختلفة.

 

لِذلك، نجد إنّ تَكوين فكرة واضحة ومُحدّدة عن نشأة الزّمن الأربعيني السّابق للفصح، ليس بالأمر البسيط حسب الدّراسين. فهناك عدّة افتراضاتٍ تحاول الإجابة عن نشأة هذا الزّمن، كما نعرفه اليوم. وحسب مقالة الدّكتور روسّو، هناك كتابات تتحدّث عن (أَصوَامٍ) مارسها المسيحيوّن الأوائل، يمكننا الاعتماد عليها، للخروج بفكرة عن كيفيّة نشأة هذا الزّمن. أُورِدُ بعضًا منها:

 

1. بَعضُ الكتابات، يُعزي نشأة الصّوم الأربعيني إلى الرّسلِ أَنفسِهم، ومَن تَتَلمذوا عَن أيديهم. فقَد وضع الرّسل هذا الصّوم، بحسب تلك الكتابات. ولكنّ هذه الفرضية مُستبعَدة برأي عدد من علماء التّاريخ، ذلك لأنّ الصوم الأربعيني الفصحي لَم يكن منتشرًا بعد، في الفترة الرّسولية الأولى من نشأة الكنيسة وانتشار المسيحية.

 

2. في كتابات من النّصف الأخير للقرن الثّاني، للقدّيس إرينيوس أسقف ليون في فرنسا، وكتابات أُخرى لِ ترتليانوس، أحد كبار كتّاب الكنيسة الأولى، من قرطاجة في تونس شمال أفريقيا (لَمّا كانَ يزخر بالمسيحية ويعجّ بالمسيحيّين)، فيها يؤكّدان على وجود عادةِ مُمَارسة صّوم تحضيري سابق للفصح، يستمرّ على مدى أربعين ساعة، إحياءٍ لِمَا كان يُنظر إليه، على أنّه مدّة إقامة يسوع في القبر بعد موته.

 

3. وبحلول منتصف القرن الثّالث، تحدّث ديونيسيوس بطريرك الإسكندريّة الرّابع عشر، عن صومٍ مدّته ستّة أيام، يسبق عيد الفصح.

 

4. أمّا أقدمُ المصادر عن صَومٍ مُدّتُهُ 40 يوم، والّتي تَسبِقُ انعقاد مجمع نيقيا، فَنَجِدُها في كتابات الجماعة المسيحية في مصر، دونَ أن يتمّ تقديمه على أنّه صوم سابق للفصح. فَفي سلسلة عظات كَتَبَها العلّامة المصري أوريجينوس الإسكندري، في منتصف القرن الثّالث، نَجدُه يحثّ المسيحيّين على عدم الاشتراكِ في صوم يوم الغفران اليهودي، مُعلّلًا ذلك بأنّنا نحن المسيحيّين نملك أربعين يوم مخصّصة للصّوم. كما أَنّنا نصومُ بانتظامٍ كلّ يوم أربعاء ويوم جمعة.

 

5. ثمّ أنّ بعض العلماء والباحِثين قَد وجدوا، أثناء رجوعِهم إلى بعض المصادر التّاريخيّة، أنّ بعضًا مِن الجماعاتِ المسيحيّة في مصر، قبل انعقادِ مجمع نيقيا، كانت تُحافظ على ممارستها لصومٍ يستمرّ مدّة 40 يوم. ولكنّه لَم يكن صومًا فصحيًّا. بل كان ممارسة حرفية لما ورد في الرّوايات الإنجيليّة. إذ كانوا يصومون مباشرة بعد احتفالِهم بعيد معمودية الرّب. فهذا الصّوم في نظرهم كان إحياءً دقيقًا وتقليدًا حَرفيًّا، لصوم المسيح نفسه! فالمسيح بعد قبوله المعمودية عن يد يوحنّا في مياه الأردن، خرج إلى البرّية، حيث صام هناك مدّة 40 يوم.

 

ولماذا أقول أنّه صوم غير فصحي؟ لأنّ هذا الصّوم، لم يسبق عيد الفصح كما هو اليوم، بل كانَ يبدأ بعد احتفالِهم بعيد معمودية الرّب، في السّادس من كانون الثّاني. وكان هذا الصّوم، يُتوّجُ بتعميدِ الموعوظين، الرّاغبين في الدّخولِ إلى الإيمان المسيحي، بَعدَ أن أنهوا فترة تحضيرهم وتَنشئتِهم الإيمانيّة.

 

6. أيضًا، في رسالته القانونيّة، يُشرّع بطرس الأوّل بطريرك الإسكندريّة من القرن الرّابع (300-311م)، صومًا مدّته 40 يوم، كَشرط جَزائي لكبار الخطأة، فيه يكفّرون عن ذنوبهم، قَبل أن يتمّ اِعتَاقُهم وحلّهم من الحرمان الواقع عليهم. وبعدَ آدائِهم لهذا الصّوم، يُقبَلون مُجدّدًا في الجماعة، ويشتركون في الإفخارستيّا من جَديد.

 

7. بناءً على كلّ هذه المصادر والكتابات، يَرى الدّارسون والعلماء، أنّ الصّوم الّذي كان يُعمَلُ به في مصر، بصورتِه ومُدّتِه (الأربعينيّة)، شَكَّلَ النّواةَ الأولى والَّلبِنَةَ الأساسيّة، الّتي اعتمدَ عليها مجمع نيقيا، في إقامة الصّوم الأربعيني السّابق للفصح. فَمَع مجمع نيقيا وما بعده، تمّ نَقلُ هذا الصّوم، من صومٍ يأتي مباشرة بُعَيدَ عيد الظّهور ومعمودية الرّب، إلى صوم يسبق عيد الفصح. وهكذا صار يؤلّف مع صوم الأيّام السّتة، ما صارَ يُعرفُ (بالصّوم الكبير). وَمَعَهُ أيضًا، تمَّ نقلُ عادة تعميد الموعوظين، لِتصبحَ منذ ذلك الحين وحتّى يومنا هذا، معموديّة فصحيّة مُتّبَعةً عند معظم المسيحيين، إذ تُمنَحَ المعموديّة عشيّة سبت النّور وصبيحةَ أحد القيامة.

 

8. وهذا ما يظهر من خلال الرّسائل الخميس الأولى للقدّيس أثناسيوس الإسكندري (329-333 م)، حيث يُشير فيها فقط إلى صوم يستمر ستّة أيام قبل الفصح. ولكنّنا، في رسالتِه السّادسة (334م)، بالإضافة إلى إشارتِه لصوم الأيام السّتة السّابقة للفصح (أسبوع الآلام أو الأسبوع المقدّس)، نجدُهُ يُقدّم صوم الأربعين إلى جماعة المؤمنين، كَصوم استعدادي يسبق صوم الأيام السّتة.

 

9. وفي مجموعة قوانين تُعرف بقوانين هيبوليتوس (Canons of Hippolytus)، كُتِبَت أيضًا في مصر في القرن الرّابع (336-340م)، تُشير إلى أنّ المسيحيّين يصومون أيّام الأربعاء والجمعة والأربعين. وأنّ المؤمن إذا فشل في ذلك الصّوم، إنّما يَعصي الله الّذي صامَ عنا (قانون رقم 20). ونفس المجموعة تشير أيضًا إلى الصّوم الّذي يسبق الفصح، ويستمرُّ ستّة أيام (قانون رقم 22).

 

10. وهكذا من خلال كلّ هذه المصادر، نجد أنّ الصّورة الأقرب لنشأة هذا الزّمن، كانت لصّوم أربعيني متّبعٍ في مصر. وأنّ مجمع نيقيا قَد أخذ هذه العادة عن الكنيسة المصرية. وهذا في اعتقادي منطقي جدًّا، فالكنيسة المصرية، معروفة بكثرة الأيّام والمناسبات خلال العام، والّتي فيها تمارس شريعة الصّوم.

 

وكخلاصة لكلّ هذه الفرضيات، وحتّى لا نَضيع بين تشعّبات الآراء، نُدرج ثلاثة مواقف لنشأة الصّوم الأربعيني:

 

أ) الموقف الأوّل، يَرى في الصّوم الأربعيني ظاهرة جديدة كلّيًا، لم تَظهر إلّا بعد مجمع نيقيا، دون أن يكون لها أيّة ارتباطات أو جذور، في الماضي المبكّر للمسيحيّة. وأيّة محاولات لربطِ صوم الأربعين بممارسات قبل المجمع، هو مجرّد نظريات ليس أكثر.

 

ب) الموقف الثّاني، على النّقيض من ذلك، يرى في الصّوم الأربعيني امتدادًا تاريخيًّا مباشرًا، للصّوم الأربَعيني الّذي كان يُمارَس في مصر، بعدَ الاحتفالِ بمعمودية الرّب. وأنّ مجمع نيقيا تبنّى هذا الصّوم، لخلق توافق ووحدة بين المسيحيّين.

 

ج) الموقف الثّالث، هو موقف وَسطي، يعترف بأنّ هناك شحًّا في المصادر. وفي الوقت عينه، يرى بأن للصّوم الأربَعيني جذورًا وارتباطات. فهو تطوّر طبيعيّ، لممارسات كانت منتشرة بين الجماعات المسيحية، في وقت مبكّر من تاريخ المسيحيّة، وأنّه محصّلة اندماجٍ لأنماط وأشكال من الصّوم، كانت منتشرة بين المسيحيّين. ومِنها صوم ما بعد عيد معمودية الرّب، كواحد من هذهِ الأنماط.

 

 

خلاصة

 

ربّما يَتَساءل البعض، لِماذا استغرق ظهور صوم الأربعين السابق للفصح كل هذه المدّة الزّمنية الطّويلة؟! هل كان الأمر يحتاج فعلا قرابة 300 عام، حتّى انعقادِ مجمع نيقيا، لِيُصبح صوم المسيحيين قبل الفصح، عادة قائمة على مستوى الكنيسة الجامعة؟

 

يبدو أنّنا لا نملك إجابة جازمة وقاطعة حول هذا الأمر. ولكن، لاحظ العلماء والمفسّرين، من خلال دراستهم للظروف التّاريخية الّتي نَشأ خلالها الصّوم الأربعيني، أنّ الصّوم بِشَكله الأربعيني، ظهرَ في البداية عند بعض جماعات الهراطقة (heterodox)، الحائِدة عن جادة الإيمان المستقيم. بالتّالي، لَم يكن من المنطق في عُرفِ الكنيسة، أن تَتَبنّى عادة يُمارسها الهراطقة أَنفسهم. فالقدّيس اكليمنضوس الإسكندري، لاهوتي من القرن الثّاني، يُخبرنا بأنّ أتباعَ رجلٍ غَنوصي مصري يُدعى بازيليد، كانوا يحتفلون بيوم معمودية يسوع، على أنّه اليوم الّذي فيه حلَّ الّلاهوت على يسوع الإنسان، أي أنّه لَم يكن كلمة الله الأزلي، بل كان مجرّد إنسان عادي، ثمّ حلَّ الّلاهوت عليه ساعة المعمودية.

 

وبحسب آراء العلماء، فإنّ أتباع هذا المذهب ويُدعون: البَنَويّين، كانوا يعلّمون بأنّ يسوع لم يكن إلهًا بالطبيعة بل بالتّبني. حيث يحتفلون بحَدَثِ مَعموديته، على أنّه يوم تَبنّيه واكتسابه الّلاهوت. على أن يتبعَ احتفالَهم هذا، صوم مدّته 40 يوم. الأمرُ الّذي كان يرفضه أتباع الإيمان القويم، شرقًا وغربًا. وهذا ما يفسّر حقيقة أنّ هذا الصّوم، لم يكن منتشرًا في البداياتِ سوى بين أتباع هذا المذهب غير القويم. ولِذلك، أخذ الأمرُ نحوَ 3 قرون، حتّى تمّ اعتمادُه في الكنيسة الجامعة الرّسولية، ليكون صومًا أربعينيًّا سابقًا للفصح، وصار عادةً مُتّبعة لدى من يحفظون إيمان المجامع المسكونيّة.

 

وخلاصة القول، أنّ الفضل يرجع لمجمع نيقيا في ترسيخ القواعد الأساسيّة المشتَركة بين المسيحيين، من خلال وضعه لقوانين ومبادئ وممارسات، تَعملُ على ترابط الجسم المسيحي قدر الإمكان.

 

فهو مَن دحض هرطقة أريوس الّتي كانت تنتقص من ألوهيّة المسيح، ووضع قانون الإيمان النّيقاوي الّذي نَتلوه في صلواتِنا، مُجمِلًا العقائد الجوهرية الّتي نؤمن بها. كما قد ثبّتَ يوم الأحد يومًا للاحتفال بالفصح، وحدّد آلية واضحة لحساب موعد حلول الفصح.

 

وِمن النّتائج العَمَليّة الّتي تَلَت المجمع، انتشار صوم الأربعين بين جميع المسيحيّين، صومًا سابقًا للفصح، بعدَ أن كانَ محصورًا في فئات محدّدة، وبعضها من الهراطقة. ليكونَ منذ ذلك الحين، سِمَةً مميّزة بين جميع الّذين تبنّوا قرارات المجمع، وأصبحَ مِعيارًا للأمانة الّليتورجية، وَخَلق توافقًا عامًّا بينَ المسيحيّين، من حيث طريقة استعدادِهم لقيامة الرّب.

 

أيضًا صار يُنظر إلى هذه الفترة من الصّوم، كضرورة مُلِحَّة لا بدّ منها. فانتهاء عصر الاضطهاد والاستشهاد مع الإمبراطور قسطنطين، أَدّى لخفض مستوى الحماسة الإيمانيّة عندَ المسيحيّين، حتّى أنّه قد تَفشّى بينهم التّراخي والكسل، بعد أن صاروا يعيشون في رخاءٍ وتَرف. لذلك، أعتُبِر الصّوم كالرّهبنة، وسيلة جديدة لإذكاء لهيب الحماسةِ والغيرة المتضائِلة عند المسيحيّين، ونَمطًا مُستَحدثًا من أنماط الاستشهاد غير الدّموي، عن الملذّاتِ الحسّية والمشتهيات الدّنيويّة حبًّا في المسيح، كما أنّها كانت فترة جيّدة لِتَهيئة الأعداد المتزايدة من الوَثنيّين الرّاغبين في الدّخول إلى الإيمان المسيحي، وقبول المعمودية الفصحية.

 

وأخيرًا، يبقى الخروج بحقيقة واحدة مؤكّدة لظهور الصّوم، أمرًا يحتمل عدّة إمكانيّات. وللقارئ العزيز أن يتّخذ موقفًا، ويركّز على جوهر الصّوم، أو يظل عالِقاً عند أزمة الفَرضيّات، مُهمِلًا أهميّة الصّوم كوسيلة روحيّة سامية، لنا في المسيح نفسه أعظم وأكبر مثال.

 

يتبع...

 

لقراءة الحلقة الأولى