موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الثلاثاء، ٢٨ يوليو / تموز ٢٠٢٠
التنشئة المسيحية: قراءة في الإرشاد الرسولي "فرح الإنجيل" (12)

البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي :

 

من الإرشاد الرسولي "فرح الانجيل" لقداسة البابا فرنسيس، نبدأ اليوم بنقل مضمون القسم الثاني من الفصل الثاني، وهو بعنوان: "المحن بوجه العاملين الراعويّين".

 

I- مقدّمة

 

1. كلّ العاملين في الحقل الراعويّ، من الأساقفة حتى آخر القائمين بخدمات خفيّة ووضيعة، يواجهون تحدّيات متأتّية من ثقافة العولمة الراهنة. لا بدّ من الاقرار بالمساهمة الكبيرة التي تقدّمها الكنيسة لعالم اليوم. ونعبّر في الوقت عينه عن ألمنا وخجلنا للأخطاء والخطايا التي يرتكبها بعض أعضائها.

 

وفي الوقت عينه نعتزّ بالكثيرين من المسيحيّين الذين يبذلون حياتهم بحبّ: يساعدون مرضى على الشفاء أو الموت بسلام في المستشفيات، يعتنون بأسرى التبعيات في الأماكن الأكثر فقرًا، يتفانون في تربية الأطفال والشبيبة، يعتنون بالمسنّين المنسيّين، يبحثون عن السبل لنقل القيم إلى بيئات معادية، يتفانون في إظهار حبّ أعظم مستوحٍ من الإله الذي صار إنسانًا (الفقرة 76).

 

2. مع ما تُقدّم لأبناء جيلنا الثقافة المعولمة من قيم وإمكانات جديدة، فإنها تستطيع الحدّ من طاقاتنا، والتأثير على حياتنا، والإضرار بنا. لذلك نحن بحاجةٍ إلى خلق مساحات لمساعدة العاملين الراعويّين. هي مساحات لتجديد الإيمان بيسوع المسيح المصلوب والقائم، ولتقاسم المسائل اليوميّة الأكثر عمقًا، ولتعميق التمييز بشأن اختبارات الحياة على ضوء الإنجيل، وذلك بغية توجيه القرارات الفرديّة والاجتماعيّة نحو الخير والجمال (الفقرة 77).

 

II- بعض المحن الخاصة التي تؤثّر على العاملين الراعويّين

 

1. نعم لتحدّي الروحانيّة الارساليّة

 

إنّ العديد من العاملين الراعويّين، بمن فيهم مكرّسون ومكرّسات يعتنون بحرّيتهم وراحتهم، ما يحملهم على اعتبار عملهم مجرّد ملحق لحياتهم وكأنّه ليس جزءًا من هويّتهم. وفي الوقت عينه تقتصر حياتهم الروحيّة على قلة ممارسات دينيّة تقدّم لهم بعض الراحة، ولكنها لا تشجّعهم على اللّقاء بالآخرين، ولا تولّد عندهم غيرة على الأنجلة والالتزام في العالم. بنتيجة ذلك تظهر في حياتهم ثلاثة أضرار تغذّي بعضها بعضًا هي: التركيز على الفردانيّة، وأزمة هويّة، وانخفاض في التقوى (الفقرة 48).

 

إنّ ثقافة التواصل وبعض الأوساط الفكريّة تنقل بعض الشّك والتهكّم بشأن رسالة الكنيسة. فيتولّد لدى بعض العاملين الراعويّين نوع من عقدة النقص تحملهم على النّظر الى هويّتهم وقناعاتهم المسيحيّة بشكلٍ نسبيّ، بل وعلى إخفائها. ما يجعلهم غير سعداء بما هم وفي ما يفعلون. ولا يتماهون مع رسالة الأنجلة. وهذا يضعف التزامهم. فينتهون بإخماد فرح الرسالة وبهاجس أن يكونوا مثل غيرهم ويمتلكون ما يمتلك غيرهم. وهكذا يصبح عمل الأنجلة مرغمًا، ويعطونه القليل من الطاقة والوقت (الفقرة 79).

 

ثمّة تحدٍّ ثالث يواجهه العاملون الراعويّون وهو تيّار النسبيّة العمليّة الذي بموجبه يتصرّف الإنسان وكأن الله غير موجود، ويتّخذ قرارات وكأن الفقراء غير موجودين، ويضع أهدافًا وكأن الاخرين غير موجودين، ويعمل وكأن الشعوب التي لم تتلقَّ الانجيل غير موجودين.

 

ويصعقنا أنّ بعض الذين يمتلكون اقتناعات عقائديّة وروحيّة غالبًا ما يعتمدون نمط حياة يقود إلى التعلّق بالاستقرار الماليّ، وإلى الرغبة في السّلطة أو المجد العالمي، مهما كلّف الأمر. فلا يعطون حياتهم للآخرين في الرسالة. فلا نسمحنَّ لنفوسنا بأن نُسلَب الحماس الإرسالي (الفقرة 80).

 

2. لا للأنانيّة والكسل الروحيّ

 

فيما الحاجة ملحّة إلى ديناميّة إرساليّة تحمل الملح والنور إلى العالم، نجد علمانيّين يتهرّبون من الالتزام بمهمّة رسوليّة، حفاظًا على وقتهم الحرّ. لذا، من الصّعب أن نجد معلّمي تعليم مسيحي منشّئين في الرعايا. كذلك نجد الأمر نفسه عند الكهنة المتسلِّط عليهم هوس الانشغال بوقتهم الشخصيّ، صونًا لفسحات حريّتهم الشخصية، وكأن مهمّة الأنجلة سمًّا خطرًا، بدلاً من أن يكون جوابًا فرحًا على محبَّة الله التي تدعونا للرسالة، وتجعلنا منتجين. لكنّ بعضهم يرفضون الرسالة وينتهون في حالةٍ من الشلل (الفقرة 81).

 

لا تتأتّى المشكلة من إفراط في النشاط، بل من النشاط المتمّم بشكلٍ سيّئ، من دون حوافز ملائمة، ومن دون روحانيّة. فيصبح العمل بالنتيجة متعبًا ويؤدّي مرّات إلى المرض.

 

هذا النوع من الخمول الراعويّ يتأتّى من عدّة أسباب: كالانخراط في مشاريع غير واقعيّة؛ وكعدم الصّبر على مسار الأمور نحو نضجها، وكأنهم ينتظرون أن يسقط كلُّ شيء من السماء؛ وكفقدان الاتصال الحقيقيّ مع الناس، إذ يفرغون عملهم من العامل الشخصيّ وكأنّهم معنيّون بخريطة الطريق أكثر منها بالسفر نفسه؛ وككسل غير قادر على الانتظار. إنّ هاجس النتائج المباشرة يصعّب على العاملين الراعويّين احتمال أيّ شيء فيه اختلاف في الرأي أو فشل ظاهر أو انتقاد أو صليب (الفقرة 82).

 

أمّا التهديد الأكبر فهو الاستشراف العمليّ (pragmatism) الرماديّ في الكنيسة، حيث تظهر الأمور وكأنّها تسير على أحسن ما يرام، بينما في الحقيقة الايمان يضعف ويتدنّى. تتطوّر نفسانيّة الرمس التي تحوّل المسيحيّين شيئًا فشيئًا إلى مومياءات متحف. وفيما هم مدعوّون إلى التنوير ومنح الحياة، ينقادون على العكس إلى أشياء تستهويهم، وتولّد فيهم ظلمةً وقنوطًا داخليًّا يضعفان الديناميّة الرسوليّة. لأجل ذلك أشدّد وأقول: "لا ندعنَّ أنفسنا نُسلَب فرح التبشير بالانجيل".