موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
ثقافة
نشر الخميس، ٢٢ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٠
البيئة والتنشئة.. هل ترسخان السلوك الجرمي داخل الإنسان؟

مجد جابر :

 

يبدو أن الجرائم التي حصلت مؤخرا بالمجتمع والتي تتصف ببشاعتها ووحشيتها وعنفها وغياب كل ملامح الانسانية عنها، أعادت من جديد طرح تساؤل: هل التنشئة هي الأساس في تشكيل سلوكيات الافراد ومفاهيمهم الاجتماعية سواء كانت ايجابية أم سلبية؟

 

ذلك التساؤل الذي يجيب عليه خبراء، بأن الفرد هو نتاج لبيئته ومحيطه ومجتمعه، ويستمد منهم كل خبراته ومفاهيمه الحياتية وطريقة تفكيره وتعاطيه مع من حوله، وكل الصفات التي اكتسبها لتتشكل شخصيته لاحقا. لذلك، فإن الأشخاص الذين يتصدرون للمجتمع بسلوكياتهم العدوانية وتصرفاتهم غير المسؤولة هم نتاج لبيئة جعلت منهم هكذا أشخاص، فالبيئة والعائلة هما اساس في انتاج أفراد صالحين للمجتمع يساهمون في بناء المجتمع وازدهاره، أو العكس.

 

اختصاصيون اعتبروا أن تنشئة الشخص منذ طفولته مرورا بمرحلة المراهقة داخل عائلته، الى جانب البيئة المجتمعية المحيطة به، تؤثر، فإذا تعرض للعنف النفسي أو التنمر بشكل متكرر ولفترات طويلة في المنزل أو المدرسة، او الإهمال الجسدي وغياب توفير احتياجات الطفل الأساسية، يؤثر ذلك على بناء شخصيته وتعاطيه مع الغير.

 

وفي ذلك يذهب مستشار الطب الشرعي الخبير في حقوق الانسان ومواجهة العنف والجريمة الدكتور هاني جهشان، الى ان هنالك عوامل تساعد على أن ينشأ الشخص بشكل غير سوي وقد يصل الى حد الجريمة، معتبرا أن الجريمة بأشكالها المختلفة هي جزء مؤسف من المجتمعات الإنسانية وقد مُنيت بها البشرية منذ بداية الحضارات الموثقة تاريخيا.

 

بمرجعية علم الجريمة وعلم النفس الجنائي الحديثان، أظهرت الدراسات عوامل شاملة تؤدي للسلوك الجرمي أولها خبرات وتجارب الطفولة المناوئة، بعض الأطفال يتمتعون بطفولة ممتعة من كافة النواحي الصحية والنفسية والعاطفية والاجتماعية والانفعالية والإدراكية، بينما البعض الآخر أقل حظًا، وفق جهشان.

 

والأطفال الذين يتعرضون لمواقف سيئة أثناء تربيتهم بشكل خاص، معرضون بشكل متزايد لخطر السلوك الإجرامي في كل من مرحلة المراهقة ومرحلة البلوغ.

 

وتُظهر الأبحاث الأكاديمية بمرجعية علم النفس الجنائي التي أجريت على المجرمين الذين صدر بحقهم أحكام قضائية قطعية، انهم تعرضوا لخبرات الطفولة المناوئة بنسبة أربعة أضعاف مقارنة بغير المجرمين.

 

وخبرات الطفولة المناوئة تشمل، التعرض لعنف جسدي شديد أو متكرر وخاصة من راعي الطفل الأقرب لرعايته أو من قبل المعلمين في المدرسة، التعرض لاعتداء أو استغلال جنسي وان كان مرة واحدة وان كان المعتدي من داخل الأسرة أو خارجها.

 

وتشمل ايضا، وفق جهشان، التعرض للعنف النفسي أو التنمر بشكل متكرر ولفترات طويلة إن كان في المنزل أو المدرسة، الإهمال الجسدي بتوفير احتياجات الطفل الأساسية من طعام وكساء ورعاية طبية ونظافة، كذلك الإهمال العاطفي للطفل لفترات طويلة بعدم التواصل الكلامي والبصري معه وعدم احتضانه بما يتناسب مع عمره.

 

إلى ذلك، استعمال المخدرات والكحول والعقاقير المهلوسة من قبل أحد الوالدين أو كلاهما، وفاة أحد الوالدين أو كلاهما، معاناة أحد الوالدين من الأمراض النفسية الذهنية، سجن أحد الوالدين أو كلاهما، تعرض الأم للعنف الجسدي واللفظي من قبل الأب.

 

وتجدر الإشارة هنا، وفق جهشان الى أن خبرات الطفولة المناوئة هذه لا ترتبط فقط بزيادة احتمال ارتكاب الجرائم لدى الوصول لمرحلة البلوغ، بل أيضا تزيد من احتمال تعرضهم لاضطرابات الشخصية والأمراض النفسية وأيضا الأمراض الجسدية المزمنة.

 

الى جانب البيئة المجتمعية السلبية، من الطبيعة البشرية أن كل ما حول الإنسان يؤثر على هويته وثقافته وسلوكه، فمجرد التواجد في حيّ ترتفع فيه معدلات الجريمة يمكن أن يزيد من احتمال ارتكاب الشخص الساكن في هذا الحي للجريمة.

 

وتكشف الأبحاث أن الفقر والبطالة والسكن في أحياء فقيرة ومكتظة، يزيد من احتمال ارتكاب الجريمة، كما أن العيش في الأحياء التي ينتشر بها تعاطي المخدرات والكحول والاتجار بالأسلحة الصغيرة تزيد من احتمال ارتكاب هذه الجرائم من قبل سكان هذه الأحياء، الأحداث واليافعين سكان هذه المجتمعات هم عرضة أكثر من غيرهم لارتكاب هذه الجرائم ويستمر سلوكهم الجرمي لمرحلة البلوغ. أيضا يرى جهشان أن تعاطي المخدرات هي واحدة من الاسباب كذلك، إذ تشير دراسات علم الجريمة وعلم النفس الجنائي بوجود ارتباط مابين السلوك الإجرامي وتعاطي المخدرات، احدى الدراسات بينت أن 86% من السجناء كانوا يتعاطون المخدرات أو الكحول، بما فيها المخدرات الخطرة مثل الكوكين أو الحشيش الاصطناعي.

 

بالتالي، فإن التغيرات الفسيولوجية والنفسية الناتجة عن التعاطي تؤثر سلبا على ضبط النفس وتفقد القدرة على اتخاذ القرارات السليمة في الوقت المناسب، وبالتالي ارتكاب الفعل الجرمي، كما أن المدمنين على المخدرات بأنواعها والكحول يرتكبون جرائم السرقة والسلب والسطو لتحصيل المال لدفع ثمن المخدرات والكحول.

 

ووفق جهشان، يعتقد عدد محدود من علماء الجريمة أن هناك رابطا بين التركيب البيولوجي والوراثي والكيماوي للدماغ وبين ارتكاب الجرائم، فبالنسبة لهم هناك مؤشرات في علم تشريح الدماغ وعلم الأعصاب وعلم الغدد الصماء تشير إلى أن بعض الأشخاص يزيد احتمال ارتكابهم الجرائم بسبب إضرابات عصبية أو هرمونية أو عيوب خلقية بالدماغ، هذه النظرية لم يثبت صحتها ميدانيا وتبقى محصورة في مجال الأبحاث الأكاديمية فقط.

 

في حين يرى الاستشاري الاسري أحمد عبدالله، أن التنشئة الأسرية والاجتماعية السلبية في مراحل الطفولة المبكرة والمراهقة هي الأساس في إنتاج شخصية مضادة للمجتمع، مبينا أن التربية التي لا يراعى فيها الخطأ والصواب ولا يراعى فيها الحلال والحرام، تساعد في أن يكبر الابن بلا قيم حقيقية.

 

ويضاف الى ذلك أيضا، أن التربية التي تعطي الطفل كل شيء والدلال الزائد والحماية الزائدة تصنع طفلا معاديا للمجتمع كذلك، لأنه عندما يكبر ويخرج للمجتمع سيصاب بصدمة أن المجتمع لم يعطه ما يريد، وكلما أراد على غرار ما اعتاد عليه عند والديه، ارتفعت احتمالية ان يعاند هذا الابن المجتمع ويصبح معاديا له.

 

الاختصاصي التربوي الدكتور عايش مدالله النوايسة، يُبين بدوره أن عامل التنشئة الاجتماعية اساسيا في تشكيل الشخصية، فالطريقة التي تربى بها الأبناء سواء بالحرمان الزائد أو الدلال الزائد ستؤثر بشكل كبير، لافتا الى ان بعض البيئات تشجع على الظهور بمظهر “الأزعر” وسيئ السمعة والدليل ان الظروف البيئية لكل هؤلاء الاشخاص تكاد تكون مشابهة.

 

كما أن الفقر والبطالة وطريقة التربية المتبعة كلها عوامل تسهم بشكل كبير جدا بتشكيل الشخصية، مبينا ان التربية الاسرية هي الاساس والمنطلق وبحاجة الى متابعة ومراقبة وتوجيه ووعي من الاهل، مع اختيار الظروف المناسبة لتعليم الاطفال، كل تلك الامور ستنعكس لاحقا على شخصياتهم.

 

ويشير النوايسة الى الانسان بفطرته يولد سويا والظروف هي التي تشكل شخصيته والسلوك الخاص الذي ينتج عنه، ولا يجب اغفال دور المؤسسات التعليمية والمجتمع في معالجة هذه الظاهرة، مبينا ان هنالك انماطا عديدة عادت الى رشدها وأصبحت ايجابية في المجتمع.

 

ويشير النوايسة الى ان سيادة القانون والاجراءات الرادعة أمر مهم للغاية، مبينا اننا بحاجة الى توعية وتثقيف اسري، ومعرفة ظروف هؤلاء الاشخاص وتحليلها وتقديرها لتجنب كل تلك الظروف على الجيل الجديد ومنع حدوثها تماما.

 

(الغد الاردنية)