موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٢٥ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٠
البطريرك بيتسابالا يترأس قداس منتصف الليل في بيت لحم احتفالا بعيد الميلاد

وكالات :

 

أحيت مدينة بيت لحم جنوب الضفة الغربية المحتلة، منتصف الليلة الماضية، قداس منتصف الليل الذي ترأسه بطريرك القدس للاتين بييرباتيستا بيتسابالا في كنيسة القديسة كاترينا الرعوية، المحاذية لكنيسة المهد، وذلك احتفالا بعيد الميلاد المجيد للكنائس التي تسير حسب التقويم الغربي.

 

وأتى القداس هذا العام وسط ظروف استثنائية فرضت إجراء الطقوس والاحتفالات بالعيد وفق إجراءات وتدابير وقائية للمحافظة على سلامة المحتفلين من تفشي فيروس كورونا، ولم تستقبل مدينة السلام حجاجها كالمعتاد التزامًا بإجراءات البروتوكول الصحي الذي فرضته الجائحة.

 

حضر القداس: رئيس بلدية بيت لحم انطوان سلمان، ورئيس بلدية بيت ساحور جهاد خير، ورئيس بلدية بيت جالا نيقولا خميس، إضافة إلى مستشار حراسة الأراضي المقدسة الأب إبراهيم فلتس.

 

وقدّم البطريرك بيتسابالا عظة عيد الميلاد المجيد 2020، وجاء فيها: إننا نشعر جميعًا أننا نسير في ظلام، مُتعَبِين، مُرهَقيِن، مظلومين، وقد طال علينا الزمن، تحت نيرِ هذا الوباء الثقيل الذي يُعيقُ حياتَنا ويَشُلُّ العَلاقاتِ بينَنا، ويَزيدُ صعوبةً وضعَنا السياسيّ والاقتصاديَ والثقافيَ والاجتماعيّ كلَّه.

 

وأضاف: نسأل الله القدير أن يَهزِمَ المرضَ والشرَّ والموتَ، وأن يمنحنا أيامًا سعيدة وهادئة.

 

وتابع بطريرك القدس للاتين: في هذه الليلة لا نريد ولا يمكننا أن ننسى الحزن والقلق اللذين يسيطران على قلب العالم. حتى هنا في الأرض المقدسة لسنا استثناء. نحن نعيش في أرض دَعوَتُها أن يكون فيها تعددية وانفتاح على العالم، لكننا نشهد باستمرار مواقف معاكسة.

 

 

وفيما يلي نص العظة:

 

"الشَّعبُ السَّائِرُ فِي الظُّلمَةِ أَبصَرَ نُورًا عَظِيمًا وَالـُمقِيمُونَ فِي بُقعَةِ الظَّلَامِ أَشرَقَ عَلَيهِمُ النُّورُ" (أشعيا ٩: ١)

 

أشعيا ٩: ١-٦؛ تيطس ٢: ١١-١٤؛ لوقا ٢: ١-١٤

 

إن نبوءة أشعيا، وإنجيلَ عيدِ الميلاد الذي سمعناه قبل قليل، يضيئان هذه السنةَ أيضًا ليلَ الرعاة، وليلَ العالم بأسرِه.

 

إننا نشعر جميعًا أننا نسير في ظلام، مُتعَبِين، مُرهَقيِن، مظلومين، وقد طال علينا الزمن، تحت نيرِ هذا الوباء الثقيل الذي يُعيقُ حياتَنا ويَشُلُّ العَلاقاتِ بينَنا، ويَزيدُ صعوبةً وضعَنا السياسيّ والاقتصاديَ والثقافيَ والاجتماعيّ كلَّه. نقاطُ الضعفِ في أوضاعِنا القديمةِ تضخَّمَتْ، ولا يبدو أن هناك حلولاً واضحة ومتَّفقًا عليها تلُوحُ على الأفقِ القريب. حُكَّامُنا يتلمَّسون طريقَهم في الظلام. والجماعاتُ المسيحيّة، من جانبها، تناضل من أجل الحفاظ، مع مرور الوقت، على طرق تضامن ثابتة، ولا تقدر أن تتصوَّر ما هو الجديد الذي سيأتي.

 

حاول الكثيرون، مثلي وأفضلُ مني، في الأشهر الأخيرة، أن يحلِّلوا الأوضاع، ويتصوَّروا سيناريوهات مستقبلية ممكنة، ورسموا الوضعَ الحالي بألوانٍ بالأحرى داكنة. ومع ذلك، في هذا القداس الأول لي في عيد الميلاد، بصفتي بطريركًا، لا أريد أن أتوقَّف مع من يعرفون أن يصفوا الليلَ فقط. يجب عليّ، وأريدُ أن أقدِّمَ صوتَ النبوّة، وأن أردِّدَ صدى الإنجيل، لأبلِّغَكم نعمةَ هذه الساعة.

 

نعم، أيها الإخوة والأخوات، لأنّ ما نعيشه هنا الآن، إنما هو ساعة نعمة!

 

وهذا ليس وهمًا تقوِيًّا، ولا هروبًا رومانسيًّا إلى تدًيُّنٍ مطَمْئِن أو عزاءٍ رخيص.

 

"وُلِدَ لَنَا طِفلٌ وَأُعطِيَ لَنا ابنٌ": هذا ما نؤمن به، إن كنَّا مسيحيين. الليلُ، أيُّ ليلٍ كان، ليس الكلمةَ الأخيرة في تاريخِنا ولا في الإنسانية. إذا كان الذي هو "نور من نور" قد ولد في الليل، فإن الليلَ أيضًا ينتمي إلى النهار، الليلُ أيضا أصبحَ ليلَ ميلاد، أي أصبحَ مكانَ ولادةٍ جديدةٍ ممكنة. نعلم نحن المسيحيين أنه في عمقِ الشدائد، وفي ظُلُماتنا، وفي وسطِ أخطائِنا، وُلِدَ الطفلُ الإلهُ القدير، ومعه بدأ تاريخٌ جديد، تاريخُ ثقةٍ وأمل، بدأَتْ ولادةٌ جديدةٌ وقيامة. إنّ الحياةَ الإلهية التي يحملُها إلينا المسيحُ، هبةً منه لنا، تَقدِر وتريد أن تحوِّلَ الموت إلى حياة، والألمَ إلى رجاء، والخوفَ إلى ثقة. الإيمانٌ به ليس إنكارًا غيرَ عاقلٍ للواقع، بل نظرةٌ جديدة وعميقة تجعلُنا نرى في آلامِ الخليقةِ مخاضَ ولادةٍ جديدة. الإيمان هو الاستمرارُ في السير، ليس بإصرارِ المكابرين الذين لا يستسلمون، ولكن بثقةِ مَن يسيرُ وينظرُ إلى هدف.

 

"فَقَد ظَهَرَتْ نِعمَةُ الله، يُنبُوعُ الخَلَاصِ لِجَمِيعِ النَّاسِ" (تيطس ٢: ١١). على مسرَحِ هذا العالم لا يوجَدُ الشرُّ والألمُ والموت فقط. إذا كثُرَ الشر، كثُرَت النعمة. وهي تعمل في الأذهان وفي القلوب، وتعلِّمُ طرقًا جديدة للعدل والسلام والأمل والحياة. ما حدث هنا قبل ٢٠٠٠ سنة ليس قصة خرافية ولا أسطورة، بل هي بدايةُ تاريخٍ جديد، وإن أردنا نحن، يمكن أن نكونَ أبطاله. في العالمِ حضورٌ مليءٌ بالسر، ولكنه حقيقي يملأ العالم. الحياةُ التي بدأَتْ هنا في بيت لحم هَزَمَت الموت وأتاحت لنا بأن نضَعَ ثقتنا في الانتصار الذي ما زال يكتمل. الرجاء في نعمة المسيح ليس وهمًا، بل يقدِّمُ لنا أسبابًا حتى نلتزمَ ونبنِيَ نظامًا جديدًا. إن الوباء، بما يحملُه من آلام وموت، يطلب منا أن نتخيل عالمـًا مختلفًا، يتكوّن من تضامن جديد وعلاقات أخوية، حيث الامتلاك يُستبدَل بالعطاء، وغنى البعض يصبح غنى للجميع.

 

"وُلِدَ لَكُمُ اليَومَ مُخَلِّصٌ هُوَ المـَسِيحُ الرَّبُّ" (لو ٢: ١١). الخلاص موجود، وله وجهٌ واسم: هو يسوع المسيح، ابنُ الله، حكمةُ الآب ومجدُه، أرادَ، برحمته، أن يشاركنا أفراحنا وأحزاننا، حتى الموت وما بعده. سار في طرقاتنا، بكى ودمَعَ بمِثلِ دموعِنا، وشاركنا في آلامنا، وغسل أقدامنا حتى النهاية. بالتجسد اتحد نوعا ما مع كل واحد منا، وأخذ ما هو لنا وأعطانا ما هو له (راجع GS 22). في مدينة بيت لحم هذه وُلِدَ ليجعل من نفسه غذاء وشرابًا، وليعلِّمنا أنه لا يوجد خلاص إلا بالحب الذي يُعطِي ويستقبل. خلاص الإنسان هو في خدمة الإنسان: ونحن لن نخلِّص أنفسنا من هذه الشدة ومن كل الشدائد غيرها إلا إذا جعَلْنا مصلحتَنا العليا في طلب الخير للجميع. كتب القديس البابا لاون الكبير (الخطاب السادس لعيد الميلاد): "ميلاد الرأس هو ميلاد الجسد". أدركنا، في هذه المأساة، أننا جميعًا مرتبطون، كلنا مسؤولون بعضنا عن بعض: الكنيسة، جسد المسيح، كانت تعرف هذا دائمًا: المخلِّصُ وُلِدَ اليوم ليجعلَنا نولَدُ من جديد فندركُ أننا جميعًا أبناء، وبالتالي جميعًا إخوة، كما يذكرنا البابا فرنسيس. ولهذا السبب فإن الحب هو الطريق الوحيد الحقيقي للخلاص.

 

الاخوة والاخوات،

 

في هذه الليلة لا نريد ولا يمكننا أن ننسى الحزن والقلق اللذين يسيطران على قلب العالم. حتى هنا في الأرض المقدسة لسنا استثناء. نحن نعيش في أرض دَعوَتُها أن يكون فيها تعددية وانفتاح على العالم، لكننا نشهد باستمرار مواقف معاكسة. بدلًا من أن نجد استيعابًا واستقبالًا للجميع، يَزيد الرفضُ والإقصاء: بدلاً من أن نعترف بعضُنا ببعض، إننا ننكر بعضُنا البعض. أفكِّر بشكل خاص في مؤمنينا الذين يعيشون في فلسطين: فهم، مثل مريم ويوسف، يبدو وكأنه لا مكان لهم في العالم. وقبل أن يتمكنوا من العيش بكرامة في بيوتهم، يقال لهم أن ينتظروا مستقبلًا مجهولًا ومؤجَّلًا باستمرار.

 

ومع ذلك كله، لا نريد ولا يمكننا أن ننسى أن المسيح الإله لما ولد ودخل العالم، وجّهه إلى مستقبل فرح وسلام. في وسط مخاوفنا، نريد أن نمسكَ بيده التي يقدِّمُها لنا لنبدأ مسيرةً جديدة فيها ثقة ورجاء ومحبة. لذلك، نريد في هذه الليلة أن نتأمَّلَ في المسيح مع الرعاة، وأن نشيد له مع الملائكة، ونرحِّبَ به مع مريم ويوسف، ونقدِّمَ له مع المجوس بخورَ إيماننا الصعب، والمـُرَّ في رجائنا المتألم، وذهَبَ حبِّنا الواثق، ونستمرَّ في طريقنا.

 

نسأل الله القدير أن يَهزِمَ المرضَ والشرَّ والموتَ، وأن يمنحنا أيامًا سعيدة وهادئة.

 

نطلب إلى المسيح المشير العجيب أن ينير السياسيين والأطباء والباحثين وكلَّ الذين يسعَوْن بقلوب صادقة للبحث عن حلول عادلة وحقيقية من أجل خير الجميع.

 

بين يدي المسيح، أبي الأبد، نضعُ المرضى والفقراء والمتألمين والأموات، ونسألُه أن يفتقدَنا برحمته الشافية والمعزِّية والمقوِّية والمـُحيِيَة.

 

إلى المسيح، أمير السلام، نَكِلُ أرضَنا وكنيستَنا، التي لا تجد شفاءً لجراحها في هذا الوقت الصعب والمليء بالآلام.

 

إلى المسيح، نعمةِ الله الذي صار جسدًا، نطلب أن يحوِّلَنا من أنانيتنا وانغلاقنا دون الأفكار والأعمال الصالحة والمقدسة، حتى نستجيبَ بتعاوننا الأمين والعملي لعطائه الذي لا يوصف.

 

إنا نَعِدُك، ربَّنا ومخلِّصَنا، أن نعطِيَ كلَّ ما نحن، وكلَّ ما نملك، لكي "يُعرَفَ فِي الأَرضِ طَرِيقُكَ، وَفِي جَمِيعِ الأُمَم خَلَاصُكَ" (مزمور ٦٧: ٣). آمين.