موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
ترأس البطريرك الماروني الكاردينال بشارة بطرس الراعي قداس الأحد في كنيسة السيدة في الصرح البطريركي في بكركي، عاونه فيه المطرانان حنا علوان وانطوان عوكر، أمين سر البطريرك الأب هادي ضو، رئيس مزار سيدة لبنان في حريصا الأب فادي تابت، الأب جورج يرق، ومشاركة عدد من المطارنة والكهنة والراهبات، في حضور حشد من الفاعليات والمؤمنين.
بعد الإنجيل المقدس، القى الراعي عظة بعنوان: "يا معلّم أريد أن أبصر" (مر 10: 51)، قال فيها: "أدرك برطيما أعمى أريحا، ببصيرته الداخليّة المستنيرة بنور الإيمان، أنّ يسوع هو المسيح ابن داود، حامل الرحمة الإلهيّة، وقادر على شفاء العميان. فلمّا سأله يسوع: "ماذا تريد أن أصنع لك؟"(مر 10: 51)، أجابه من دون تردّد: "يا معلّم أن أبصر!" فقال له يسوع: "أبصر، إيمانك خلّصك. فأبصر للحال ومشى معه في الطريق" (مر 10: 51-52). ذاك الأعمى الشحاذ يرمز إلى كلّ إنسان أعمته الخطيئة، فيتخبّط في ظلمات الشرّ والحقد، والظلم والكبرياء وفقدان القيم الروحيّة والأخلاقيّة. وحده نور المسيح يبدّدها. "فالمسيح هو نور العالم، من يتبعه لا يمشي في الظلام" (را يو 8: 12). وهو نور بشخصه وكلامه وأفعاله وآياته. يسعدني أن أرحّب بكم جميعًا للإحتفال بهذه الليتورجيا الإلهيّة. فنصلّي إلى المسيح النور أن ينير بصيرتنا الداخليّة، التي تميّز بها ذاك الأعمى الجالس على قارعة الطريق في أريحا يستعطي حسنة من الناس منطفئ العينين، لكنّه مشتعل البصيرة الداخليّة بنور الإيمان".
أضاف: "كان ذاك الأعمى المبصر الحقيقي وحده بين ذلك الجمع وحتى تلاميذ يسوع. فلمّا سمع ضجّة الجمع الغفير المرافق ليسوع، سأل: "ما هذا". فقالوا: "هو يسوع الناصريّ يمرّ" (مر 10: 47). أمّا بالنسبة إليه ليس مجرّد يسوع الناصريّ بل هو "ابن داود، المسيح المنتظر، حامل الرحمة الإلهيّة، شافي العميان". فراح يصرخ: "يا ابن داود ارحمني"(مر 10: 47). فانتهروه ليسكت، أمّا هو فازداد صراخًا": "يا ابن داود ارحمني!" وقع صراخه في قلب يسوع، لأنّه كان يناديه باسمه البيبليّ. وما من أحد دعاه بهذا الاسم. فتوقّف وطلبه إليه وكان مطلبه الوحيد لا حسنة بل البصر. أراد يسوع أن يظهر إيمانه الكبير فقال له: "أبصر، إيمانك خلّصك" (مر 10: 52). كم نحن بحاجة إلى أن نتوسّل إلى المسيح كلّ يوم، مثل إلحاح الأعمى، لكي يشفينا من عمى بصيرتنا الداخليّة، وأن يمنحنا النعمة التي تفتح قلوبنا الباردة، وتزعج حياتنا الفاترة والسطحيّة (راجع فرح الإنجيل). وكم بيننا من عميان العينين، نحن نصلّي من صميم القلب من أجل شفائهم، ليتمتّعوا بجمال الأشخاص والطبيعة ومخلوقات الله. أبصر أعمى أريحا ومشى مع يسوع في الطريق المؤدّي إلى الله. فالمسيح-النور يضيء الطريق إلى الله وإلى البحث عن الله. ولهذا قال عن نفسه: "أنا هو الطريق والحقّ والحياة"، بكلام آخر: "أنا الطريق المؤدّي إلى الحقّ الذي يعطي الحياة. ففي شخص المسيح الذي نتبعه حاضر الله. عرف ذاك الأعمى بالبصيرتين الداخليّة والخارجيّة الطبيعتين في شخص يسوع: بالبصيرة الداخليّة (الإيمان) عرف فيه الإله، وبالبصيرة الخارجيّة (العينين) عرف فيه الإنسان".
وقال: "هذا الأعمى على قارعة الطريق، كان مهمّشًا من الناس، لكنّه لم يُهمِّش نفسه عن نفسه، وبالتالي لم يهمّشها عن الله. ولهذا عندما سمع بيسوع الناصريّ، ناداه باسمه الحقيقيّ الذي اختمر في قلبه: "يسوع ابن داود حامل الرحمة". كم هي ضروريّة الخلوة مع الذات، للخروج من ضجيج المجتمع والعالم، "تهميش" الذات عن الضوضاء الخارجيّة. لهذا تقام في زمن الصوم الكبير الرياضات الروحيّة لمدّة أسبوع في جميع الرعايا. في الرياضة أو الخلوة الروحيّة نقف في حضرة الله، والقلب مفتوح لكي يشمله بنظرته. ونصلّي بروح العبادة الحقيقيّة، وبحوار بنويّ صريح مع الله، لكي نستعيد قوانا، يقول البابا فرنسيس، التي غالبًا ما تخور بسبب التعب والصعوبات. فالكنيسة، بأبنائها وبناتها ومؤسّساتها، لا تستطيع أن تحيا بدون رئة الصلاة. أجل، لا تستطيع أن تؤدّي رسالة الكرازة بالتعليم من دون أن تقرن الصلاة بالعمل (راجع فرح الإنجيل، 262). يعلّمنا إنجيل شفاء الأعمى أن نصوّب نظرتنا إلى الحياة وأمورها وأحداثها، على ضوء الحقيقة الموضوعيّة المستمدّة من النور الإلهيّ، النور الحقيقيّ. ونعني نظرتنا إلى الحياة الزوجيّة والعائلة والمجتمع والوطن. على الصيد الوطنيّ مثلًا، الكلّ يطالب بتغيير النظام في لبنان، لكنّ اللبنانيّين يختلفون على تعريف النظام الذي يريدون تطويره، وعلى توقيت إطلاق هذه الورشة المفعمة بالمغامرات والمفاجآت. نحن نعيش في ظلّ نظام ديمقراطيّ برلمانيّ لا غبار عليه، وفي ظلّ صيغة تعايش مسيحيّ-إسلاميّ نموذجيّة، وفي ظلّ ميثاق وطنيّ يرعى النظام والصيغة. عاش لبنان مراحل نشوئه واستقلاله واستقراره على ثلاثيّة: النظام والصيغة والميثاق. لم تكن الديموغرافيا معيار هذه الثلاثيّة بل الشراكة. وكانت الخلافات ذات طابع قوميّ مستقلّ عن الديموغرافيا. وكانت التعدّدية والفدراليّة والمركزيّة، حتى السبعينيات الماضية، مفردات غريبة عن قاموسنا السياسيّ والدستوريّ. كان العدد تعبيرًا حسابيًّا لا وطنيًّا. كان للفكرة اللبنانيّة فلاسفتها، وللعروبة روّادها".
وختم البطريرك الراعي: "غاية البعض هي السيطرة على الدولة، وليست تحديث النظام. يوم يصبح العدّد والطائفة معيار التقدّم تموت الحضارة. وحين يصبح تطوير النظام انتزاعَ الحكم، تولد الحرب الأهليّة. إنّ بعض الذين يطالبون بالتغيير الدستوريّ يرمون إلى توسيع سلطتهم في إدارة الدولة، لا إلى تحسين الدولة. المطلوب اليوم أن تتنازل الطوائف للدولة، لا الدولة للطوائف، وأن يحضن الطرفان المواطنين الباحثين عن دولة مدنيّة. فدور المواطن هو الغائب في دولة لبنان. فلنصلِّ، أيّها الإخوة والأخوات، لكي تستنير الضمائر بنور الحقيقة التي مصدرها الله، فنصوّب نظرتنا إلى حياتنا ودعوتنا ورسالتنا، تمجيدًا للآب والإبن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين".