موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
مشيعون يحملون الصلبان ويرددون الشعارات خلال الموكب الجنائزي لضحايا تفجير كنيسة مار الياس، خارج كنيسة الصليب في حي القصاع بدمشق، 24 حزيران 2025 (تصوير: عمر صناديقي/أ ب)
في 22 حزيران 2025، اقتحم انتحاري كنيسة القديس الياس للروم الأرثوذكس في دمشق خلال قداس مسائي حاشد متسبّبًا في مذبحة مروعة. بعد أن أطلق النار على المصلين، فجّر المهاجم سترة ناسفة، مما أسفر عن مقتل ما بقرب من 30 شخصًا وإصابة أكثر من 60 آخرين. كان هذا الهجوم الأكثر دمويّة على المجتمع المسيحي في سوريا منذ مذبحة دمشق عام 1860، وتذكيرًا صارخًا بوجود المسيحيّة المحفوف بشكل متزايد المخاطر في وطنها العريق.
أعلنت جماعة سرايا أنصار السنة الجهادية، المنشقة عن هيئة تحرير الشام، مسؤوليتها عن الهجوم. يُظهر هذا الهجوم واقعًا مُقلقًا: يواجه المسيحيون السوريون، الذين عانوا قرونًا من القمع السياسي والعنف الطائفي، أزمة وجودية. فمع كل تفجير انتحاري، وكل كنيسة تُدنّس، وكل نزوح جماعي، تقترب سوريا من فقدان ركيزة روحيّة وثقافيّة عمرها ألفي عام.
سوريا موطن أقدم الجماعات المسيحيّة في العالم، والتي يعود تاريخها إلى العصر الرسولي. ووفقًا للتراث المسيحي السرياني، كانت مملكة أوسروين السريانيّة (في شمال سوريا الحديثة) أول كيان سياسي في العالم يُعلن المسيحية دينًا رسميًّا له. واعتنق الملك أبجر الخامس -المعروف بأبجر الأسود- المسيحيّة بعد أن شُفي من مرضٍ مُدمر على يد تلميذه تداوس عام 33 ميلاديًا. وفي طريقه إلى دمشق، تحوّل شاول الطرسوسي، مُضطهد المسيحيين سابقًا، إلى الرسول بولس، مُرسّخًا بذلك المسيحيّة في الأراضي السورية.
لعبت سوريا دورًا حيويًّا كمنبع للفكر والثقافة والحضارة المسيحيّة. ويُعرف القديس أفرام السرياني بأنّه أحد أكثر الشعراء واللاهوتيين إنتاجًا وتأثيرًا في الكنيسة العالميّة. ولا تزال مدنٌ مثل معلولا والقامشلي تحافظ على اللغة الآرامية التي استخدمها يسوع. وتنتشر الكنائس والأديرة القديمة في كل مكان، شاهدةً بصمت على دور سوريا كمهدٍ للحضارة المسيحيّة.
قبل اندلاع الحرب الأهليّة السوريّة عام 2011، كان المسيحيون يشكّلون حوالي 10% من سكان سوريا، وكان لهم دورٌ محوري في المجالات الأكاديميّة والطبيّة والتجاريّة والحياة العامة، وتعايشوا مع جيرانهم المسلمين للحفاظ على نسيج اجتماعي متعدّد الأعراق والمذاهب، على الرغم من هشاشته، لكنه مزدهر.
لكن الحرب الأهليّة حطمت هذا النظام التعدّدي. واليوم، لم يبقَ في سوريا سوى أقل من 300 ألف مسيحي، بعد أن كان عددهم حوالي مليونين قبل الحرب. وما تبقى هو مجتمعٌ ضعيفٌ للغاية، محاطٌ بعدم الاستقرار والطائفية والتطرّف. إنّ تفجير كنيسة مار الياس ليس مجرد عمل إرهابي آخر، بل هو مؤشر على تسارع محو المحو التراث الثقافي الذي سبق الإسلام بقرون.
لقرون، شكّل المسيحيون قوة معتدلة في سوريا، مُجسّدين قيم "حب الجار"، مُقدّمين للمجتمع السوري نموذجًا للتعاطف والتعايش وضبط النفس. سيؤدي استبعادهم إلى تضييق نطاق الأفكار والهويات والمعتقدات، مما يُمكّن الأيديولوجيات المتطرّفة من الوصول إلى شريحة سكانية مسلمة كانت تُعتبر معتدلة.
إنّ انقراض المسيحيّة في سوريا سيُمثّل أيضًا فقدان جسر حيوي بين الشرق والغرب. فالمسيحيّة السريانيّة تُتيح مدخلًا فريدًا إلى الفكر والثقافة والنظرة العالمية الأصيلة للمسيح والرسل، وبالتالي ساهمت في تشكيل لاهوت الكنيسة الأولى، وربطت التقليد الغربي بجذوره السامية. وسيؤدي فقدانها إلى قطع رابط حيوي في هذا التراث الحضاري المشترك.
وردًا على الهجوم على كنيسة القديس الياس، يتعيّن على الولايات المتحدة أن تضغط على الحكومة الانتقاليّة السوريّة لتقديم الجناة إلى العدالة وتنفيذ تدابير أمنية قوية لحماية المجتمعات المسيحية في البلاد. ففي حين أن الحكومة الانتقاليّة السوريّة عبارة عن ائتلاف لفصائل إسلامية ذات تاريخ إشكالي، فإنّ الانسحاب الدبلوماسي والعزلة الأميركية يُهددان بإحداث فراغ، وتمكين المتطرّفين.
إنّ المشاركة الدبلوماسيّة، إذا ما صُممت بشكل استراتيجي، ستكون أداة فعّالة لوضع حواجز للسلوك وآليات للمساءلة. إنّ المشاركة الدبلوماسيّة لا تعني بالضرورة تأييدًا، بل تُوفر إطارًا للضغط والنفوذ. يجب على الولايات المتحدة أن تُلزم أي اعتراف دبلوماسي رسميّ مشروطًا بضمان الحكومة الانتقالية السورية حماية حقوق الأقليات والحريات الدينيّة وترسيخ الضمانات الدستوريّة.
ولتحقيق هذه الغاية، ينبغي للولايات المتحدة أن تقوم بما يلي:
1. إقامة علاقات دبلوماسية متوازنة مع الحكومة الانتقالية السورية ورفع العقوبات لتعزيز الأمن والاستقرار وحقوق الإنسان. وينبغي الاستفادة من الاعتراف الدبلوماسي لفرض التزامات ملموسة بالإصلاح والحكم التمثيلي بموجب القانون.
2. اشتراط ضمانات أمنيّة لضمان قيام الحكومة الانتقالية السورية بوضع وتطبيق بروتوكولات أمنية صارمة لحماية الكنائس والأديرة ورجال الدين والأحياء المسيحيّة. وتشمل البروتوكولات الأمنيّة تعزيز العمل الشرطي والتعاون مع المنظمات غير الحكومية الدوليّة.
3. اشتراط حماية دستورية تكرّس المواطنة المتساوية والحريّة الدينيّة لجميع مكوّنات المجتمع السوري. يجب أن يضمن أي دستور سوري جديد حق المكونات الدينيّة للأقليات في حرية العبادة وإدارة مؤسساتها الخاصة والمشاركة الكاملة في الحياة العامة.
4. حثّ الحكومة الانتقالية السورية على مبادرات للحفاظ على التراث الثقافي المسيحي السوري. وتشمل هذه المبادرات ترميم وحفظ المواقع المسيحية ذات الأهميّة التاريخيّة والدينيّة (التي تضرّر أو دُمّر الكثير منها خلال النزاع)، والحفاظ على التراث اللغوي. وينبغي أن تشمل هذه الجهود القادة المسيحيين والمجتمعات المحليّة في التخطيط والتنفيذ. تقديم المساعدات الإنسانيّة للمساعدة في إعادة بناء البنية التحتية، وإرساء حوكمة مستقرة، وتطبيق تدابير أمنية فعّالة. كما ينبغي أن تتلقى المنظمات غير الحكومية والمؤسّسات الدينيّة التي تُمثل المجتمعات الضعيفة، والتي تخضع للتدقيق، مساعدات مباشرة للإغاثة الإنسانيّة المحليّة، ودعم إعادة التوطين الآمن للمجتمعات النازحة والمُدمّرة.
يوازن هذا النهج بين الالتزام الأخلاقي والمصلحة الاستراتيجية، وإذا طُبّق بشكل صحيح، فسيُحفّز على إرساء نظام مستقر في سوريا بعد الصراع.
لم تعد سوريا بلا مسيحيين مجرد سيناريو افتراضي بعيد المنال، بل أصبحت واقعًا متسارعًا لا يستطيع العالم تحمّله. إنّ الوجود المسيحي في سوريا خيطٌ في النسيج الأوسع للحضارة الإنسانيّة. إذا انقطع هذا الخيط، سيتآكل النسيج بأكمله.
يتعيّن على زعماء العالم وصنّاع القرار أن يتجاوزوا الإدانات الإنفعاليّة، وأن يتبنوا استراتيجيات استباقية للحفاظ على ما تبقى من التراث المسيحي السوري، مدركين أهميته الراسخة للحضارة العالميّة. لن تتوقف عواقب اللامبالاة عند حدود سوريا، فزوال التعدديّة في الشرق الأوسط سيُغذّي استمرار زعزعة الاستقرار في المنطقة.
وبينما تجف بقع الدماء على مقاعد كنيسة القديس إلياس، يتعيّن على الولايات المتحدة والمجتمع الدولي أن يأخذا في الاعتبار ثمن اللامبالاة - وأن يقررا مواصلة الالتزام الأخلاقي للدول المتحضرة.
ريتشارد غزال هو المدير التنفيذي لمؤسّسة "الدفاع عن المسيحين"، وهي منظمة حقوقيّة مقرّها واشنطن، تُعنى بحماية المسيحيّة والحفاظ عليها في الشرق الأوسط. وهو قاضٍ متقاعد في سلاح الجو الأمريكي وضابط استخبارات. وقد نشر المقال في صحيفة "The Hill" الأميركيّة.