موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
عبّر البابا لاون الرابع عشر عن دهشته من "مسار التعلّم الهائل" الذي خاضه منذ توليه منصب البابوية، وشبّه بعض جوانب المهمة بـ"القفز إلى عمق المسبح بسرعة كبيرة"، وذلك في مقتطفات من مقابلة نُشرت الأحد في عيد ميلاده السبعين على موقع "كركس" الكاثوليكي وفي صحيفة "إل كوميرسيو" البيروفية.
وقال أول حبر أعظم من الولايات المتحدة في التاريخ، إنه سرعان ما وجد موطئ قدم له في الجوانب الرعوية، لكنه اكتشف أنّ الدور الدبلوماسي كان أكثر تحدّيًا. وأضاف: "الجانب الجديد كليًا في هذه المهمة هو التحوّل إلى قائد عالمي".
وفي المقتطفات، تحدّث البابا عن دور الفاتيكان في الوساطة بالنزاع بين روسيا وأوكرانيا، مبيّنًا أنّ الدعوة إلى السلام تختلف جوهريًا عن لعب دور الوساطة الفعلية، التي وصفها بأنّها "أقل واقعية". كما تطرّق إلى مفهوم السينودسيّة مشدّدًا على أنها "موقف، وانفتاح، واستعداد للفهم" وليست محاولة "لتحويل الكنيسة إلى نوعٍ من الحكومة الديمقراطية"، بل تهدف إلى "احترام حياة الكنيسة وفهمها على حقيقتها".
س: أنت الآن في أشهرك الأولى كبابا. كيف تفهم دور البابوية؟
لا يزال أمامي مسار تعلّمي هائل. هناك جانب كبير منه أشعر أنني تمكّنت من الانتقال إليه بسهولة نسبية، وهو الجانب الرعوي. أنا مندهش من الاستجابة، ومن مدى روعتها واستمرارها، ومن التواصل مع الناس من جميع الأعمار… أنا أقدّر الجميع، أيًّا كانوا، وما يقدّمونه، وأُنصت إليهم.
الجانب الجديد كليًا في هذه المهمة هو التحوّل إلى قائد عالمي. إنه علني جدًا، فالناس يعرفون المكالمات الهاتفية والاجتماعات التي أجريتها مع رؤساء حكومات ودول مختلفة حول العالم، في وقتٍ يلعب فيه صوت الكنيسة دورًا مهمًا. أنا أتعلم الكثير عن دور الكرسي الرسولي في العالم الدبلوماسي، وهذه الأمور الجديدة عليّ من حيث الممارسة العملية. لقد تابعتُ الشؤون الجارية لسنوات عديدة، وحاولتُ مواكبة الأخبار، لكن دور البابا جديد عليّ بالتأكيد. أنا أتعلم الكثير، وأشعر بتحدٍّ كبير، لكنني لست مثقلاً به. في هذا الجانب، كان عليّ أن أقفز إلى عمق المسبح بسرعة كبيرة.
كوني بابا وخليفة لبطرس، يُطلب مني تثبيت الآخرين في إيمانهم، وهو الجزء الأكثر أهمية. وهذا لا يمكن أن يتحقّق إلا بنعمة الله، ولا يوجد تفسير آخر. الروح القدس هو السبيل الوحيد لتفسير كيف تم انتخابي لهذا المنصب، لهذه الخدمة. بفضل إيماني، وما عشته، وفهمي ليسوع المسيح والإنجيل، قلتُ: نعم، أنا هنا. آمل أن أتمكّن من تثبيت الآخرين في إيمانهم، لأن هذا هو الدور الأساسي لخليفة بطرس.
س: لطالما دافعتَ عن السلام؛ السلام في نزاعات مختلفة، لكن أوكرانيا كانت الأبرز. ما مدى واقعية دور الفاتيكان في هذا النزاع تحديدًا في الوقت الراهن؟
أودّ أن أميّز بين صوت الكرسي الرسولي في الدعوة إلى السلام ودوره كوسيط. هذان أمران مختلفان تمامًا، والدور الثاني أقل واقعية في الوقت الراهن. أعتقد أن الناس سمعوا النداءات المختلفة التي وجهتها لرفع صوتي، وصوت المسيحيين وذوي النوايا الحسنة، مُؤكدين أن السلام هو الحل الوحيد. أما القتل العبثي على كلا الجانبين بعد كل هذه السنوات –سواء في هذا الصراع أو غيره- فأرى أن الناس يجب أن يُوقظوا بطريقة ما ليقولوا: هناك طريقة أخرى للتعامل مع هذا.
أما بالنسبة إلى الفاتيكان كوسيط، فعندما عرضنا في بعض المرات القليلة استضافة اجتماعات تفاوضية بين أوكرانيا وروسيا، سواء في الفاتيكان أو في أي من الأماكن التابعة للكنيسة، كنت مدركًا تمامًا لما يترتب على ذلك من تداعيات.
منذ بداية الحرب، بذل الكرسي الرسولي جهودًا كبيرة للحفاظ على موقف محايد بحق، مهما كان صعبًا، وليس مُتحيزًا لطرف دون الآخر. بعض الأمور التي قلتها فُسّرت بطرق مختلفة، وهذا أمر طبيعي. لكن الجانب الواقعي من الوساطة ليس الأولوية الآن. أعتقد أن عددًا من الأطراف المختلفة يجب أن تضغط بما يكفي لجعل الأطراف المتحاربة تقول: كفى، دعونا نبحث عن طريقة أخرى لحل خلافاتنا.
ما زلنا نأمل. وأنا أؤمن إيمانًا بشدة أنّنا لا يمكننا التخلي عن الأمل أبدًا. لدي ثقة كبيرة بالطبيعة البشرية، رغم وجود الجانب السلبي والجهات السيئة والإغراءات من كل الأطراف. ومع ذلك، فإن الاستمرار في تشجيع الناس على النظر إلى القيم العليا والحقيقية يُحدث فرقًا. يمكنك أن تتحلى بالأمل وأن تستمر في المحاولة والضغط، وتقول للناس: دعونا نفعل هذا بطريقة مختلفة.
س: تحدثتَ عن السلام وبناء الجسور في خطابك الأول على شرفة كاتدرائية القديس بطرس. ما هي الجسور التي ترغب في بنائها؟ سياسيًا، اجتماعيًا، ثقافيًا، كنسيًا، ما هي تلك الجسور؟
أولًا، بناء الجسور يتم أساسًا من خلال الحوار. خلال الشهرين الماضيين، كان لي حوارات وزيارات مع قادة عالميين ومنظمات متعددة الجنسيات. نظريًا، ينبغي أن تكون الأمم المتحدة المكان الذي تُعالج فيه هذه القضايا، لكن للأسف، يبدو أنه من المتفق عليه عمومًا أن الأمم المتحدة، على الأقل في هذه اللحظة، فقدت قدرتها على جمع الناس معًا حول القضايا متعددة الأطراف. كثيرون يقولون: "يجب أن تقوموا بحوار ثنائي" لأن هناك عقبات على مستويات مختلفة تعيق التقدّم الأمور في الحوار المتعددة الأطراف.
علينا أن نذكّر أنفسنا باستمرار بقدرة الإنسان على تجاوز العنف والكراهية اللذين يفرّقاننا أكثر فأكثر. نحن نعيش في زمنٍ يبدو فيه الاستقطاب إحدى كلمات العصر. لكنه لا يساعد أحدًا. أو إن كان يفيد أحدًا، فهم قلّة قليلة، بينما يعاني الباقون. لذا، الاستمرار في طرح هذه الأسئلة أمر مهم جدًا برأيي.
س: الاستقطاب مصطلح شائع اليوم، داخل الكنيسة وخارجها. كيف تعتقد أنه يمكن حله؟
من المهم إثارة القضية والحديث عنها، لكن الأهم هو التأمل العميق لفهم: لماذا العالم منقسم إلى هذا الحد؟ ما الذي يحدث؟ أعتقد أن هناك العديد من العوامل التي قادت إلى ذلك. لا أدّعي أن لديّ كل الإجابات، لكنني أرى بعض النتائج بوضوح. أزمة عام 2020 والجائحة كان لهما تأثير كبير، لكن أعتقد أن المشكلة بدأت قبل ذلك. ربما في بعض الأماكن، فقدان الإحساس الأسمى بمعنى الحياة البشرية كان له علاقة في ذلك، وهذا ما أثّر على الناس على مستويات عديدة: قيمة الحياة البشرية، قيمة العائلة، وقيمة المجتمع. فإذا فقدنا الإحساس بهذه القيم، فما الذي يبقى له معنى بعد ذلك؟
أضف إلى ذلك عوامل أخرى، أحدها –والذي أراه بالغ الأهمية، هو الفجوة المتسعة باستمرار بين دخول الطبقة العاملة وأرباح الأثرياء. على سبيل المثال، كان الرؤساء التنفيذيون قبل 60 عامًا يتقاضون رواتب أعلى بأربعة إلى ستة أضعاف ما يتقاضاه العمال، أما آخر الأرقام التي رأيتها فهي 600 ضعف لما يحصل عليه العامل العادي. بالأمس، ظهرت الأخبار بأن إيلون ماسك سيصبح أول تريليونير في العالم. ماذا يعني ذلك وما فحواه؟ إذا كان هذا هو الشيء الوحيد ذو القيمة الآن، فنحن في ورطة كبيرة...
س: أعتقد أن مفهوم السينودالية لا يزال يصعب على الكثيرين فهمه. كيف تُعرّفه؟
السينودسية هي موقف، وانفتاح، واستعداد للفهم. وعندما نتحدّث عن الكنيسة الآن، فهذا يعني أن لكل عضو فيها صوتًا ودورًا يؤديه من خلال الصلاة والتأمل... وعبر عملية مُتكاملة. هناك العديد من الطرق لتحقيق ذلك، لكن جوهرها هو الحوار والاحترام المتبادل. إن جمع الناس معًا وفهم تلك العلاقة، ذلك التفاعل، وخلق فرص للقاء، هو بُعد مهم في كيفية عيشنا لحياتنا ككنيسة.
بعض الناس شعروا بالتهديد من ذلك. أحيانًا قد يشعر الأساقفة أو الكهنة أن "السينودسية ستسلب سلطتي". لكن هذا ليس ما تعنيه السينودسية، وربما فكرتك عن سلطتك عي فكرة غير واضحة، أو خاطئة بعض الشيء. أعتقد أن السينودسية هي طريقة لوصف كيف يمكننا أن نلتقي معًا ونكون جماعة ونبحث عن الشركة ككنيسة، بحيث لا يصبح تركيز الكنيسة الأساسي على الهرمية المؤسسية، بل على الشعور بـ"نحن معًا"، "كنيستنا". كل شخص بدعوته الخاصة – كهنة، علمانيين، أساقفة، مرسلين، عائلات- كل واحد له دعوة محدّدة مُنحت له، وله دور يلعبه ومساهمة يقدمها، ومعًا نبحث عن الطريق الذي ننمو فيه ونسير فيه ككنيسة.
إنه موقفٌ أعتقد أنه يُعلّم العالم اليوم الكثير. قبل قليل، كنا نتحدث عن الاستقطاب. أظن أن هذا بمثابة ترياق. أعتقد أن هذه طريقة لمعالجة بعض أكبر التحديات التي نواجهها في عالمنا اليوم. إذا استمعنا إلى الإنجيل، وإذا تأملنا فيه معًا، وإذا سعينا جاهدين للسير قدمًا معًا، نصغي إلى بعضنا البعض، ونحاول اكتشاف ما يقوله الله لنا اليوم، فهناك الكثير مما يمكننا أن نجنيه من ذلك.
آمل بشدة أن تتابع العملية التي بدأت قبل زمن طويل من السينودس الأخير، على الأقل في أمريكا اللاتينية – لقد تحدثتُ عن خبرتي هناك. بعض كنائس أمريكا اللاتينية ساهمت حقًا في الكنيسة الجامعة - وأعتقد أن هناك أملًا كبيرًا إذا استطعنا أن نبني على خبرة العامين الماضيين ونجد طرقًا لعيش الكنيسة معًا. ليس لتحويل الكنيسة إلى نوعٍ من الحكومة الديمقراطية، إذ إننا إذا نظرنا إلى كثير من بلدان العالم اليوم نجد أن الديمقراطية ليست بالضرورة الحل الأمثل لكل شيء. لكن احترام حياة الكنيسة وفهمها على حقيقتها، والقول: "علينا أن نفعل هذا معًا". أعتقد أن هذا يُقدّم فرصة عظيمة للكنيسة، ويفتح أمامها مجالاً للتفاعل مع بقية العالم. ومنذ المجمع الفاتيكاني الثاني، أعتقد أن ذلك كان أمرًا مهمًا، وما زال هناك الكثير مما ينبغي القيام به.