موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
خلال مقابلته العامّة مع المؤمنين، في قاعة بولس السادس، الأربعاء 6 كانون الأوّل، تابع البابا فرنسيس، سلسة تعالميه حول "حبّ البشارة بالإنجيل: غيرة المؤمن الرّسوليّة"، متحدثًا عن الروح القدس بوصفه العامل الرئيسي في البشارة بالإنجيل.
وفيما يلي النص الكامل للتعليم:
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، لقد نظرنا في دروس التّعليم المسيحيّ السّابقة في بشارة الإنجيل وقلنا إنّها فرح، وهي للجميع، وهي لليوم. نكتشف اليوم ميزة أساسيّة أخيرة: من الضّروري أن تتمّ البشارة بالرّوح القدس. في الواقع، من أجل ”أن نوَصِّل الله“ إلى النّاس، لا تكفي مصداقيّة الشّهادة المليئة بالفرح، ولا يكفي توجيهها إلى الجميع، ولا يكفي توجيهها إلى كلّ ما نعيشه اليوم. بدون الرّوح القدس، كلّ غَيرة رسوليّة باطلة وكاذبة: ستكون جَهْدَنا فقط، ولن تأتي بثمر.
قُلتُ في الإرشاد الرّسوليّ، فرح الإنجيل، إنّ "يسوع هو أوّل وأعظم مبشِّر بالإنجيل"، وإنه "مهما كانت الطّريقة التي نحمل بها البشارة، فإنّ الأولويّة هي دائمًا لله الذي أراد أن يدعونا لكي نتعاون معه ولكي يشدِّدَنا بقوّة روحه" (عدد 12). هذه هي أولويّة الرّوح القدس! لذلك شبّه الرّبّ يسوع اندفاع الحياة في ملكوت الله بـ "رَجُلٍ يُلْقي البَذْرَ في الأَرض. فسَواءٌ نامَ أو قامَ لَيلَ نَهار، فالبَذْرُ يَنبُتُ ويَنمي، وهو لا يَدري كيفَ يَكونُ ذٰلك" (مرقس 4، 25–26). الروّح هو الذي يعمل، ويسبق المُرسلِين دائمًا وهو الذي يُنضِج الثّمار. هذا الوعي يعزّينا كثيرًا! ويساعدنا على توضيح أمر آخر حاسم بالقدر نفسه: وهو أنّ الكنيسة في غَيرتها الرّسوليّة لا تُبَشِّرُ بنفسها، بل تبشِّر بنعمة، وعطيّة، والرّوح القدس هو عطيّة الله، كما قال يسوع للمرأة السّامريّة (راجع يوحنّا 4، 10).
ومع ذلك، فإنّ أولويّة الرّوح يجب ألّا تقودنا إلى التراخي. الاتّكال على الرّوح لا يبرّر عدم الالتزام. حيوية الزّرع الذي ينمو وحده لا تسمح للمزارعين بإهمال الحقل. قال يسوع، عندما قدّم نصائحه الأخيرة قبل صعوده إلى السّماء: "الرُّوحَ القُدُس يَنزِلُ علَيكم فتَنالون قُدرَةً وتكونونَ لي شُهودًا [...] حتَّى أَقاصي الأَرض" (أعمال الرّسل 1، 8). لم يَترك لنا الرّبّ يسوع وثائق لاهوتيّة أو دليلًا رعويًّا لنطبقه، بل ترك لنا الرّوح القدس الذي يُلهِم الرّسالة. والمبادرة الشّجاعة التي يفيضها الرّوح فينا تدفعنا إلى أن نقتدي بأسلوبه الذي يتميّز دائمًا بميزَتَين: الإبداع والبساطة.
الإبداع. لكي نُبشِّر بيسوع بفرح وللجميع واليوم. إنّ عصرنا هذا لا يساعدنا على أن يكون لدينا نظرة دينيّة في الحياة، وقد صارت فيه البشارة بالإنجيل في أماكن مختلفة أمرًا صعبًا، ومُتعِبًا، وغير مُثمر في الظّاهر. فمن الممكن أن تنشأ فينا التّجربة لنتوقّف عن الخدمة الرّعويّة. وقد نَلجأ إلى مناطق التي نشعر فيها بالأمان، مثل التّكرار والعادة، ونعمل ما كانوا يعملون دائمًا، أو تجذبنا دعوات مُغرية إلى روحانيّة مُنغلقة على ذاتها، أو أيضًا إلى إحساس خاطئ بمركزيّة الليتورجيّا. إنّها تجارب تتنكّر بإخلاصها للتَّقليد، لكنّها غالبًا، ليست استجابة للرّوح القدس، بل هي ردود أفعال على عدم رضًى شخصيٍّ فينا. بينما، الإبداع الرّعويّ هو الجرأة في الرّوح القدس، وأن نكون مُتَّقدين بناره لحمل الرّسالة، وهذا دليل على أمانتنا له. لذلك كتبتُ أنّ "يسوع المسيح يمكن أن يحطّم المخطّطات المملّة التي ندّعي إبقاءه سجينًا فيها، فيفاجئنا هو بإبداعه الإلهيّ المستمرّ. كلّ مرّة نسعى فيها للعودة إلى الينبوع كي نستعيد حيوية الإنجيل الأصليّة، تَظهرُ سبلٌ جديدة، وأساليب خلّاقة، وطرق تعبير أخرى، وعلاماتٌ أشدّ بلاغة، وكلماتٌ محمّلة بمعنى متجدّد لعالم اليوم" (الإرشاد الرّسولي، فرح الإنجيل، 11).
إذًا الإبداع أوّلًا، ثمَّ البساطة. لأنّ الرّوح القدس يقودنا إلى الينبوع، وإلى "البشارة الأولى". في الواقع، "هو الرّوح القدس الذي [...] يجعلنا نؤمن بيسوع المسيح، الذي كشف لنا ومنحنا، بموته وقيامته من بين الأموات، رحمة الآب التي لا نهاية لها" (المرجع نفسه، 164). هذه هي البشارة الأولى التي "يجب أن تحتلّ مركز نشاط البشارة بالإنجيل وكلّ نية تجديدٍ كنسيّ"، لكي نكرّر: "يسوع المسيح يحبّك، وقد بذل حياته ليخلّصك، والآن هو حيٌّ إلى جانبك كلّ يوم كي ينيرَكَ، ويقوّيكَ، ويحرّركَ" (المرجع نفسه).
أيّها الإخوة والأخوات، لِنَدَعِ الرّوح القدس يقترب منّا ولْنَبتَهِلْ إليه كلّ يوم: ليكن هو مبدأ كياننا وعملنا، وليكن في بداية كلّ نشاطٍ ولقاءٍ واجتماعٍ وبشارة نقوم بها. فهو يُحيِي الكنيسة ويُعيد إليها شبابها: معه يجب ألّا نخاف، لأنّه هو الانسجام، ويجمع دائمًا الإبداع والبساطة معًا، ويصنع الشَّرِكَة ويُرسلنا لحمل الرِّسالة، ويفتح أنفسنا على التَّنوّع ويعيدنا إلى الوَحدَة. هو قوّتنا، ونَفَسُ بشارتنا، وينبوع الغَيرَة الرَّسوليّة. هَلُمَّ تعال، أيّها الرّوح القدس!